الباحث القرآني

﴿وتَرى المَلائِكَةَ حافِّينَ﴾ أيْ مُحْدِقِينَ مِنَ الحِفافِ بِمَعْنى الجانِبِ جَمْعُ حافٍّ كَما قالَ الأخْفَشُ، وقالَ الفَرّاءُ: لا يُفْرَدُ فَقِيلَ: أرادَ أنَّ المُفْرَدَ لا يَكُونُ حافًّا إذِ الإحْداقُ والإحاطَةُ لا يُتَصَوَّرُ بِفَرْدٍ وإنَّما يَتَحَقَّقُ بِالجَمْعِ، وقِيلَ: أرادَ أنَّهُ لَمْ يَرِدِ اسْتِعْمالُ مُفْرَدِهِ. وأوْرَدَ عَلى الأوَّلِ أنَّ الإحاطَةَ بِالشَّيْءِ بِمَعْنى مُحاذاةِ جَمِيعِ جَوانِبِهِ فَتُصَوَّرُ في الواحِدِ بِدَوَرانِهِ حَوْلَ الشَّيْءِ فَإنَّهُ حِينَئِذٍ يُحاذِي جَمِيعَ (p-36)جَوانِبِهِ تَدْرِيجًا فَيَكُونُ الحُفُوفُ بِمَعْنى الدَّوَرانِ حَوْلَهُ أوْ يُرادُ بِكَوْنِهِ حافًّا أنَّهُ جُزْءٌ مِنَ الحافِّ ولَهُ مَدْخَلٌ في الحُفُوفِ، ولَوْ صَحَّ ما ذَكَرَ لَمْ يَصِحَّ أنْ يُقالَ: طائِفٌ أوْ مُحْدِقٌ أوْ مُحِيطٌ أوْ نَحْوُهُ مِمّا يَدُلُّ عَلى الإحاطَةِ. وأوْرَدَ عَلى الثّانِي أنّا لَمْ نَجِدْ وُرُودَ جَمْعٍ سالِمٍ لَمْ يَرِدِ اسْتِعْمالُ مُفْرَدِهِ فَبَعْدَ وُرُودِ حافِّينَ الظّاهِرُ وُرُودُ حافٍّ كَما لا يَخْفى، والخِطابُ لِسَيِّدِ المُخاطَبِينَ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ لِكُلِّ مَن تَصِحُّ مِنهُ الرُّؤْيَةُ كَأنَّهُ قِيلَ: وتَرى أيُّها الرّائِي المَلائِكَةَ حافِّينَ ﴿مِن حَوْلِ العَرْشِ﴾ أيْ حَوْلَ العَرْشِ عَلى أنَّ ( مِنَ ) مَزِيدَةٌ عَلى رَأْيِ الأخْفَشِ وهو الأظْهَرُ، وقِيلَ: هي لِلِابْتِداءِ - فَحَوْلَ العَرْشِ - مُبْتَدَأُ الحُفُوفِ وكَأنَّ الحُفُوفَ حِينَئِذٍ لِلْخَلْقِ، وفي بَعْضِ الآثارِ ما هو ناطِقٌ بِذَلِكَ، وفِيها ما يَدُلُّ عَلى أنَّ العَرْشَ يَوْمَ فَصْلِ القَضاءِ يَكُونُ في الأرْضِ حَيْثُ يَشاءُ اللَّهُ تَعالى والأرْضُ يَوْمَئِذٍ غَيْرُ هَذِهِ الأرْضِ، عَلى أنَّ أحْوالَ يَوْمِ القِيامَةِ وشُؤُونَ اللَّهِ تَعالى وراءَ عُقُولِنا وسُبْحانَ مَن لا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، والظّاهِرُ أنَّ الرُّؤْيَةَ بَصَرِيَّةٌ - فَحافِّينَ - حالٌ أُولى وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾ حالٌ ثانِيَةٌ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ حالًا مِن ضَمِيرِ ﴿حافِّينَ﴾ المُسْتَتِرِ، وجُوِّزَ كَوْنُ الرُّؤْيَةِ عِلْمِيَّةً - فَحافِّينَ - مَفْعُولٌ ثانٍ وجُمْلَةُ ( يُسَبِّحُونَ ) حالٌ مِن ( اَلْمَلائِكَةَ ) أوْ مِن ضَمِيرِهِمْ في ﴿حافِّينَ﴾ والباءُ في ( بِحَمْدِ ) لِلْمُلابَسَةِ والجارُّ والمَجْرُورُ في مَوْضِعِ الحالِ أيْ يُنَزِّهُونَهُ تَعالى عَمّا لا يَلِيقُ بِهِ مُلْتَبِسِينَ بِحَمْدِهِ، وحاصِلُهُ يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَعالى بِوَصْفَيِ جَلالِهِ وإكْرامِهِ تَبارَكَ وتَعالى، وهَذا الذِّكْرُ إمّا مِن بابِ التَّلَذُّذِ فَإنَّ ذِكْرَ المَحْبُوبِ مِن أعْظَمِ لَذائِذِ المُحِبِّ كَما قِيلَ: ؎أجِدُ المَلامَةَ في هَواكَ لَذِيذَةً حُبًّا لِذِكْرِكَ فَلْيَلُمْنِي اَللُّوَّمُ أوْ مِن بابِ الِامْتِثالِ ويَدَّعِي أنَّهم مُكَلَّفُونَ، ولا يُسَلَّمُ أنَّهم خارِجُونَ عَنْ خُطَّةِ التَّكْلِيفِ أوْ يَخْرُجُونَ عَنْها يَوْمَ القِيامَةِ، نَعَمْ لا يَرَوْنَ ذَلِكَ كُلْفَةً وإنْ أُمِرُوا بِهِ. وفِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ جِدًّا أخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وعَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ في كِتابِ الطّاعَةِ والعِصْيانِ. وأبُو يَعْلى وأبُو الحَسَنِ القَطّانُ في المُطَوَّلاتِ. وأبُو الشَّيْخِ في العَظَمَةِ. والبَيْهَقِيُّ في البَعْثِ والنُّشُورِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ««فَبَيْنَما نَحْنُ وُقُوفٌ - أيْ في المَحْشَرِ - إذْ سَمِعْنا حِسًّا مِنَ السَّماءِ شَدِيدًا فَيَنْزِلُ أهْلُ سَماءِ الدُّنْيا بِمِثْلَيْ مَن في الأرْضِ مِنَ الجِنِّ والإنْسِ حَتّى إذا دَنَوْا مِنَ الأرْضِ أشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِهِمْ وأخَذُوا مَصافَّهم ثُمَّ تَنْزِلُ أهْلُ السَّماءِ الثّالِثَةِ بِمِثْلَيْ مَن نَزَلَ مِنَ المَلائِكَةِ ومِثْلَيْ مَن فِيها مِنَ الجِنِّ والإنْسِ حَتّى إذا دَنَوْا مِنَ الأرْضِ أشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِهِمْ وأخَذُوا مَصافَّهم ثُمَّ يَنْزِلُونَ عَلى قَدْرِ ذَلِكَ مِنَ التَّضْعِيفِ إلى السَّماواتِ السَّبْعِ ثُمَّ يَنْزِلُ الجَبّارُ في ظُلَلٍ مِنَ الغَمامِ والمَلائِكَةُ تَحْمِلُ عَرْشَهُ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ وهُمُ اليَوْمَ أرْبَعَةٌ أقْدامُهم عَلى تُخُومِ الأرْضِ السُّفْلى والأرَضُونَ والسَّماواتُ إلى حُجُزِهِمْ والعَرْشُ عَلى مَناكِبِهِمْ لَهم زَجَلٌ بِالتَّسْبِيحِ فَيَقُولُونَ: سُبْحانَ ذِي العِزَّةِ والجَبَرُوتِ سُبْحانَ ذِي المُلْكِ والمَلَكُوتِ سُبْحانَ الحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ سُبْحانَ الَّذِي يُمِيتُ الخَلائِقَ ولا يَمُوتُ سَبُوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ المَلائِكَةِ والرُّوحِ سُبْحانَ رَبِّنا الأعْلى الَّذِي يُمِيتُ الخَلائِقَ ولا يَمُوتُ فَيَضَعُ عَرْشَهُ حَيْثُ يَشاءُ مِنَ الأرْضِ ثُمَّ يَهْتِفُ سُبْحانَهُ بِصَوْتِهِ فَيَقُولُ عَزَّ وجَلَّ: «يا مَعْشَرَ الجِنِّ والإنْسِ إنِّي قَدْ أنْصَتُّ لَكم مُنْذُ يَوْمَ خَلَقْتُكم إلى يَوْمِكم هَذا أسْمَعُ قَوْلَكم وأُبْصِرُ أعْمالَكم فانْصِتُوا إلَيَّ فَإنَّما هي أعْمالُكم وصُحُفُكم تُقْرَأُ عَلَيْكم فَمَن وجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ تَعالى ومَن وجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إلّا نَفْسَهُ»» الحَدِيثَ. (p-37)﴿وقُضِيَ بَيْنَهم بِالحَقِّ﴾ أيْ بَيْنَ العِبادِ كُلِّهِمْ بِإدْخالِ بَعْضِهِمُ الجَنَّةَ وبَعْضِهِمُ النّارَ فَإنَّ القَضاءَ المَعْرُوفَ يَكُونُ بَيْنَهم، ولِوُضُوحِ ذَلِكَ لا يَضُرُّ كَوْنُ الضَّمِيرِ لِغَيْرِ المَلائِكَةِ مَعَ أنَّ ضَمِيرَ ( يُسَبِّحُونَ ) لَهم إذِ التَّفْكِيكُ لا يَمْتَنِعُ مُطْلَقًا كَما تُوُهِّمَ، وقِيلَ: ضَمِيرُ ( بَيْنَهم ) لِلْمَلائِكَةِ واسْتَظْهَرَهُ أبُو حَيّانَ، وثَوابُهم وإنْ كانُوا كُلُّهم مَعْصُومِينَ يَكُونُ عَلى حَسَبِ تَفاضِلِ أعْمالِهِمْ فَيَخْتَلِفُ تَفاضُلُ مَراتِبِهِمْ فَإقامَةُ كُلٍّ في مَنزِلَتِهِ حَسَبَ عَمَلِهِ هو القَضاءُ بَيْنَهم بِالحَقِّ. ﴿وقِيلَ الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ أيْ عَلى ما قَضى بَيْنَنا بِالحَقِّ، والقائِلُ قِيلَ: هُمُ المُؤْمِنُونَ المَقْضِيُّ لَهم لا ما يَعُمُّهم والمَقْضِيُّ عَلَيْهِمْ، وحَمْدُهُمُ الأوَّلُ عَلى إنْجازِ وعْدِهِ سُبْحانَهُ وإيراثِهِمُ الأرْضَ يَتَبَوَّؤُونَ مِنَ الجَنَّةِ ما شاءُوا، وحَمْدُهم هَذا عَلى القَضاءِ بِالحَقِّ بَيْنَهم فَلا تَكْرارَ. وقالَ الطَّيِّبِيُّ: إنَّ الأوَّلَ لِلتَّفْصِلَةِ بَيْنَ الفَرِيقَيْنِ بِحَسَبِ الوَعْدِ والوَعِيدِ والسُّخْطِ والرِّضْوانِ، والثّانِي لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَهُما بِحَسَبِ الأبْدانِ فَفَرِيقٌ في الجَنَّةِ وفَرِيقٌ في السَّعِيرِ والأوَّلُ أحْسَنُ، وقِيلَ: هُمُ المَلائِكَةُ يَحْمَدُونَهُ تَعالى عَلى قَضائِهِ سُبْحانَهُ بَيْنَهم بِالحَقِّ وإنْزالِ كُلٍّ مِنهم مَنزِلَتَهُ، وعَلَيْهِ لَيْسَ في الحَمْدَيْنِ شائِبَةُ تَكْرارٍ لِتَغايُرِ الحامِدِينَ. وقِيلَ: ( قِيلَ ) دُونَ قالُوا لِتَعَيُّنِهِمْ وتَعْظِيمِهِمْ، وجُوِّزَ كَوْنُ القائِلِ جَمِيعَ العِبادِ مُنَعَّمِهِمْ ومُعَذَّبِهِمْ وكَأنَّهُ أُرِيدَ أنَّ الحَمْدَ مِن عُمُومِ الخَلْقِ المَقْضِيِّ بَيْنَهم هُنا إشارَةً إلى التَّمامِ وفَصْلِ الخِصامِ كَما يَقُولُهُ المُنْصَرِفُونَ مِن مَجْلِسِ حُكُومَةٍ ونَحْوِها، فَيَحْمَدُهُ المُؤْمِنُونَ لِظُهُورِ حَقِّهِمْ وغَيْرُهم لِعَدْلِهِ واسْتِراحَتِهِمْ مِنَ انْتِظارِ الفَصْلِ، فَفي بَعْضِ الآثارِ أنَّهُ يَطُولُ الوُقُوفُ في المَحْشَرِ عَلى العِبادِ حَتّى إنَّ أحَدَهم لَيَقُولُ: رَبِّ أرِحْنِي ولَوْ إلى النّارِ، وقِيلَ: إنَّهم يَحْمَدُونَهُ إظْهارًا لِلرِّضا والتَّسْلِيمِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذا الحَمْدُ خَتْمٌ لِلْأمْرِ يُقالُ عِنْدَ انْتِهاءِ فَصْلِ القَضاءِ أيْ إنَّ هَذا الحاكِمَ العَدْلَ يَنْبَغِي أنْ يُحْمَدَ عِنْدَ نُفُوذِ حُكْمِهِ وإكْمالِ قَضائِهِ، ومِن هَذِهِ الآيَةِ جُعِلَتْ ( اَلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِ اَلْعالَمِينَ ) خاتِمَةَ المَجالِسِ في العِلْمِ، هَذا والحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ وصَلاتُهُ وسَلامُهُ عَلى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ خاتَمِ النَّبِيِّينَ وعَلى آلِهِ وصَحْبِهِ أجْمَعِينَ. * * * «ومِن بابِ الإشارَةِ في بَعْضِ الآياتِ» ﴿فاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ﴾ أيِ اعْبُدْهُ تَعالى بِنَفْسِكَ وقَلْبِكَ ورُوحِكَ مُخْلِصًا، وإخْلاصُ العِبادَةِ بِالنَّفْسِ التَّباعُدُ عَنِ الِانْتِقاصِ، وإخْلاصُ العِبادَةِ بِالقَلْبِ العَمى عَنْ رُؤْيَةِ الأشْخاصِ، وإخْلاصُ العِبادَةِ بِالرُّوحِ نَفْيُ طَلَبِ الِاخْتِصاصِ. وذُكِرَ أنَّ المُخْلِصَ مَن خَلُصَ بِالجُودِ عَنْ حَبْسِ الوُجُودِ ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَن هو كاذِبٌ كَفّارٌ﴾ فِيهِ إشارَةٌ إلى تَهْدِيدِ مَن يَدَّعِي رُتْبَةً مِنَ الوِلايَةِ لَيْسَ بِصادِقٍ فِيها وعُقُوبَتُهُ حِرْمانُ تِلْكَ الرُّتْبَةِ ﴿يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلى النَّهارِ ويُكَوِّرُ النَّهارِ عَلى اللَّيْلَ﴾ فِيهِ إشارَةٌ إلى أحْوالِ السّائِرِينَ إلى اللَّهِ سُبْحانَهُ مِنَ القَبْضِ والبَسْطِ والصَّحْوِ والسُّكْرِ والجَمْعِ والفَرْقِ والسِّتْرِ والتَّجَلِّي وغَيْرِ ذَلِكَ ﴿فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ﴾ قِيلَ: يُشِيرُ إلى ظُلْمَةِ الإمْكانِ وظُلْمَةِ الهَيُولى وظُلْمَةِ الصُّورَةِ ﴿أمَّنْ هو قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِدًا وقائِمًا﴾ يُشِيرُ إلى القِيامِ بِآدابِ العُبُودِيَّةِ ظاهِرًا وباطِنًا مِن غَيْرِ فُتُورٍ ولا تَقْصِيرٍ ﴿يَحْذَرُ الآخِرَةَ﴾ ونَعِيمُها كَما يَحْذَرُ الدُّنْيا وزِينَتَها ﴿ويَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ﴾ رِضاهُ سُبْحانَهُ عَنْهُ وقُرْبَهُ عَزَّ وجَلَّ ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ﴾ قَدْرَ مَعْبُودِهِمْ جَلَّ شَأْنُهُ فَيَطْلُبُونَهُ ﴿والَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ ذَلِكَ فَيَطْلُبُونَ ما سِواهُ ﴿إنَّما يَتَذَكَّرُ﴾ حَقِيقَةَ الأمْرِ ﴿أُولُو الألْبابِ﴾ وهُمُ الَّذِينَ انْسَلَخُوا مِن جِلْدِ وُجُودِهِمْ وصَفَوْا عَنْ شَوائِبِ أنانِيَّتِهِمْ ﴿قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بِي شَوْقًا إلَيَّ ﴿اتَّقُوا رَبَّكُمْ﴾ فَلا تَطْلُبُوا غَيْرَهُ سُبْحانَهُ ﴿لِلَّذِينَ أحْسَنُوا﴾ في طَلَبِي في هَذِهِ الدُّنْيا بِأنْ لَمْ يَطْلُبُوا مِنِّي غَيْرِي (p-38)﴿حَسَنَةٌ﴾ عَظِيمَةٌ وهي حَسَنَةُ وِجْدانِي ﴿وأرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ﴾ وهي حَضْرَةُ جَلالِهِ وجَمالِهِ فَإنَّها لا نِهايَةَ لَها فَلْيَسِرْ فِيها لِيَرى ما يَرى ولا يَظُنُّ بِما فُتِحَ عَلَيْهِ انْتِهاءَ السَّيْرِ وانْقِطاعَ الفَيْضِ ﴿إنَّما يُوَفّى الصّابِرُونَ﴾ عَلى صِدْقِ الطَّلَبِ ﴿أجْرَهُمْ﴾ مِنَ التَّجَلِّياتِ بِغَيْرِ حِسابٍ إذْ لا نِهايَةَ لِتَجَلِّياتِهِ تَعالى ﴿كُلَّ يَوْمٍ هو في شَأْنٍ﴾ [الرَّحْمَنَ: 29] ﴿قُلْ إنِّي أخافُ إنْ عَصَيْتُ رَبِّي﴾ بِطَلَبِ ما سِواهُ ﴿عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ وهو عَذابُ القَطِيعَةِ والحِرْمانِ ﴿قُلِ اللَّهَ أعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي﴾ فَلا أطْلُبُ دُنْيا ولا أُخْرى كَما قِيلَ: ؎وكُلٌّ لَهُ سُؤْلٌ ودِينٌ ومَذْهَبُ ولِي أنْتُمْ سُؤْلٌ ودِينِي هَواكُمْ ﴿قُلْ إنَّ الخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أنْفُسَهُمْ﴾ أيِ الَّذِينَ تَبَيَّنَ خُسْرانُ أنْفُسِهِمْ بِإفْسادِ اسْتِعْدادِها لِلْوُصُولِ والوِصالِ ﴿وأهْلِيهِمْ﴾ مِنَ القُلُوبِ والأسْرارِ والأرْواحِ بِالإعْراضِ عَنْ طَلَبِ المَوْلى ﴿يَوْمَ القِيامَةِ﴾ الَّذِي تَتَبَيَّنُ فِيهِ الحَقائِقُ ﴿ذَلِكَ هو الخُسْرانُ المُبِينُ﴾ الَّذِي لا خَفاءَ فِيهِ لِفَواتِ رَأْسِ المالِ وعَدَمِ إمْكانِ التَّلافِي، وقالَ بَعْضُ الأجِلَّةِ: إنَّ لِلْإنْسانِ قُوَّتَيْنِ يَسْتَكْمِلُ بِإحْداهُما عِلْمًا وبِالأُخْرى عَمَلًا، والآلَةُ الواسِطَةُ في القِسْمِ الأوَّلِ هي العُلُومُ المُسَمّاةُ بِالمُقَدِّماتِ وتَرْتِيبُها عَلى الوَجْهِ المُؤَدِّي إلى النَّتائِجِ الَّتِي هي بِمَنزِلَةِ الرِّبْحِ يُشْبِهُ تَصَرُّفَ التّاجِرِ في رَأْسِ المالِ بِالبَيْعِ والشِّراءِ، والآلَةُ في القِسْمِ العَمَلِيِّ هو القُوى البَدَنِيَّةُ وغَيْرُها مِنَ الأسْبابِ الخارِجِيَّةِ المُعِينَةِ عَلَيْها، واسْتِعْمالُ تِلْكَ القُوى في وُجُوهِ أعْمالِ البِرِّ الَّتِي هي بِمَنزِلَةِ الرِّبْحِ يُشْبِهُ التِّجارَةَ، فَكُلُّ مَن أعْطاهُ اللَّهُ تَعالى العَقْلَ والصِّحَّةَ والتَّمْكِينَ ثُمَّ إنَّهُ لَمْ يَسْتَفِدْ مِنها مَعْرِفَةَ الحَقِّ ولا عَمَلَ الخَيْرِ فَإذا ماتَ رِبْحُهُ وضاعَ رَأْسُ مالِهِ ووَقَعَ في عَذابِ الجَهْلِ وألَمِ البُعْدِ عَنْ عالَمِهِ والقُرْبِ مِمّا يُضادُّهُ أبَدَ الآبادِ، فَلا خُسْرانَ فَوْقَ هَذا ولا حِرْمانَ أبْيَنَ مِنهُ، وقَدْ أشارَ سُبْحانَهُ إلى هَذا بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿لَهم مِن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِن النّارِ ومِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ﴾ وهَذا عَلى الأوَّلِ إشارَةٌ إلى إحاطَةِ نارِ الحَسْرَةِ بِهِمْ ﴿لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهم لَهم غُرَفٌ مِن فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ﴾ قِيلَ الغُرَفُ المَبْنِيَّةُ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إشارَةٌ إلى العُلُومِ المُكْتَسَبَةِ المَبْنِيَّةِ عَلى النَّظَرِيّاتِ وأنَّها تَكُونُ في المَتانَةِ واليَقِينِ كالعُلُومِ الغَرِيزِيَّةِ البَدِيهِيَّةِ ﴿ألَمْ تَرَ أنَّ اللَّهَ أنْزَلَ مِنَ السَّماءِ﴾ مِن سَماءِ حَضْرَتِهِ سُبْحانَهُ أوْ مِن سَماءِ القَلْبِ ماءً ماءَ المَعارِفِ والعُلُومِ ﴿فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ﴾ مَدارِكَ وقُوى ﴿فِي الأرْضِ﴾ أرْضِ البَشَرِيَّةِ ﴿ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا﴾ مِنَ الأعْمالِ البَدَنِيَّةِ والأقْوالِ اللِّسانِيَّةِ ﴿ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطامًا﴾ إشارَةً إلى أفْعالِ المُرائِينَ وأقْوالِهِمْ تُرى مُخْضَرَّةً وفْقَ الشَّرْعِ ثُمَّ تَصْفَرُّ مِن آفَةِ الرِّياءِ ثُمَّ تَكُونُ حُطامًا لا حاصِلَ لَها إلّا الحَسْرَةُ ﴿أفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ﴾ لِلِانْقِيادِ إلَيْهِ سُبْحانَهُ ﴿فَهُوَ عَلى نُورٍ مِن رَبِّهِ﴾ يَسْتَضِيءُ بِهِ في طَلَبِهِ سُبْحانَهُ، ومِن عَلاماتِ هَذا النُّورِ مَحْوُ ظُلُماتِ الصِّفاتِ الذَّمِيمَةِ النَّفْسانِيَّةِ والتَّحْلِيَةُ بِالأخْلاقِ الكَرِيمَةِ القُدُسِيَّةِ. ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أحْسَنَ الحَدِيثِ كِتابًا مُتَشابِهًا مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ﴾ إذا قَرَعَتْ صِفاتُ الجَلالِ أبْوابَ قُلُوبِهِمْ ﴿ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهم وقُلُوبُهم إلى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ بِالشَّوْقِ والطَّلَبِ ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ﴾ يَتَجاذَبُونَهُ وهم شُغُلُ الدُّنْيا وشُغُلُ العِيالِ وغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الأشْغالِ ﴿ورَجُلا سَلَمًا لِرَجُلٍ﴾ إشارَةً إلى المُؤْمِنِ الخالِصِ الَّذِي لَمْ يَشْغَلْهُ شَيْءٌ عَنْ مَوْلاهُ ( عَزَّ ) شَأْنُهُ ﴿فَمَن أظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلى اللَّهِ﴾ يُشِيرُ إلى حالِ الكاذِبِينَ في دَعْوى الوِلايَةِ ﴿وكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إذْ جاءَهُ﴾ يُشِيرُ إلى حالِ أقْوامٍ نَبَذُوا الشَّرِيعَةَ وراءَ ظُهُورِهِمْ وقالُوا: هي قِشْرٌ والعِياذُ بِاللَّهِ تَعالى ﴿ويَوْمَ القِيامَةِ تَرى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى اللَّهِ وُجُوهُهم مُسْوَدَّةٌ﴾ قِيلَ: هو سَوادُ قُلُوبِهِمْ يَنْعَكِسُ عَلى وُجُوهِهِمْ ﴿وسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهم إلى الجَنَّةِ زُمَرًا﴾ قِيلَ المُتَّقُونَ قَدْ عَبَدُوا اللَّهَ تَعالى (p-39)لِلَّهِ جَلَّ شَأْنُهُ لا لِلْجَنَّةِ فَتَصِيرُ شِدَّةُ اسْتِغْراقِهِمْ في مُشاهَدَةِ مَطالِعِ الجَمالِ والجَلالِ مانِعَةً لَهم عَنِ الرَّغْبَةِ في الجَنَّةِ فَلا جَرَمَ يَفْتَقِرُونَ إلى السَّوْقِ، وقِيلَ: كُلُّ خَصْلَةٍ ذَمِيمَةٍ أوْ شَرِيفَةٍ في الإنْسانِ فَإنَّها تَجُرُّهُ مِن غَيْرِ اخْتِيارٍ شاءَ أمْ أبى إلى ما يُضاهِي حالَهُ فَذاكَ مَعْنى السَّوْقِ في الفَرِيقَيْنِ، وقِيلَ: القَوْمُ أهْلُ وفاءٍ فَهم يَقُولُونَ: لا نَدْخُلُ الجَنَّةَ حَتّى يَدْخُلَها أحْبابُنا فَلِذا يُساقُونَ إلَيْها ولَكِنْ لا كَسَوْقِ الكَفَرَةِ ﴿وتَرى المَلائِكَةَ حافِّينَ مِن حَوْلِ العَرْشِ﴾ إشارَةً إلى أنَّهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ في مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ بِناءً عَلى أنَّ العَرْشَ لا يَتَحَوَّلُ ﴿يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾ إشارَةً إلى نَعِيمِهِمْ ﴿وقُضِيَ بَيْنَهم بِالحَقِّ﴾ أعْطى كُلَّ ما يَسْتَحِقُّهُ ﴿وقِيلَ الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ عَلى انْقِضاءِ الأمْرِ وفَصْلِ القَضاءِ بِالعَدْلِ الَّذِي لا شُبْهَةَ فِيهِ ولا امْتِراءَ، هَذا والحَمْدُ لِلَّهِ تَعالى عَلى أفْضالِهِ والصَّلاةُ والسَّلامُ عَلى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ وآلِهِ. .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب