الباحث القرآني
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿أفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ﴾ إلَخِ، اسْتِئْنافٌ جارٍ مَجْرى التَّعْلِيلِ لِما قَبْلَهُ مِن تَخْصِيصِ الذِّكْرى بِأُولِي الألْبابِ، والشَّرْحُ في الأصْلِ البَسْطُ والمَدُّ لِلْحَمِ، ونَحْوِهِ ويُكَنّى بِهِ عَنِ التَّوْسِيعِ، وتُجُوِّزَ بِهِ هُنا عَنْ خَلْقِ النَّفْسِ النّاطِقَةِ مُسْتَعِدَّةً اسْتِعْدادًا تامًّا لِلْقَبُولِ بِجامِعِ عَدَمِ التَّأبِّي عَنِ القَبُولِ، وسُهُولَةِ الحُصُولِ، وذَلِكَ بَعْدَ التَّجَوُّزِ في الصَّدْرِ، وإرادَةِ النَّفْسِ النّاطِقَةِ مِنهُ مِن حَيْثُ إنَّهُ مَحَلٌّ لِلْقَلْبِ، وفي تَجْوِيفِهِ بُخارٌ لَطِيفٌ، يَتَكَوَّنُ مِن صَفْوَةِ الأغْذِيَةِ، وبِهِ تَتَعَلَّقُ النَّفْسُ أوَّلًا وبِواسِطَتِهِ تَتَعَلَّقُ بِسائِرِ البَدَنِ تَعَلُّقَ التَّدْبِيرِ والتَّصْرِيفِ، وتِلْكَ النَّفْسُ هي الَّتِي تَتَّصِفُ بِالإسْلامِ، والإيمانِ، وجَعَلَ بَعْضُ الأجِلَّةِ (شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ) اسْتِعارَةً تَمْثِيلِيَّةً، والهَمْزَةُ لِلْإنْكارِ داخِلَةٌ عَلى مَحْذُوفٍ عَلى أحَدِ القَوْلَيْنِ المارَّيْنِ آنِفًا، والفاءُ لِلْعَطْفِ عَلى ذَلِكَ المَحْذُوفِ، وخَبَرُ (مَن) مَحْذُوفٌ لِدِلالَةِ ما بَعْدَهُ عَلَيْهِ، والتَّقْدِيرُ: أكُلُّ النّاسِ سَواءٌ فَمَن شَرَحَ اللَّهُ تَعالى صَدْرَهُ، وخَلَقَهُ مُسْتَعِدًّا لِلْإسْلامِ، فَبَقِيَ عَلى الفِطْرَةِ الأصْلِيَّةِ، ولَمْ تَتَغَيَّرْ بِالعَوارِضِ المُكْتَسَبَةِ القادِحَةِ فِيها ﴿فَهُوَ﴾ بِمُوجَبِ ذَلِكَ مُسْتَقِرٌّ، ﴿عَلى نُورٍ﴾ عَظِيمٍ، ﴿مِن رَبِّهِ﴾ وهو اللُّطْفُ الإلَهِيُّ المُشْرِقُ عَلَيْهِ مِن بُرُوجِ الرَّحْمَةِ عِنْدَ مُشاهَدَةِ الآياتِ التَّكْوِينِيَّةِ والتَّنْزِيلِيَّةِ، والتَّوْفِيقِ لِلِاهْتِداءِ بِها إلى الحَقِّ كَمَن قَسا قَلْبُهُ، وحَرَجَ صَدْرُهُ بِتَبْدِيلِ فِطْرَةِ اللَّهِ تَعالى بِسُوءِ اخْتِيارِهِ، واسْتَوْلى عَلَيْهِ ظُلُماتُ الغَيِّ والضَّلالِ، فَأعْرَضَ عَنْ تِلْكَ الآياتِ بِالكُلِّيَّةِ حَتّى لا يَتَذَكَّرَ بِها، ولا يَغْتَنِمَها، وعُدِلَ عَنْ فَعِنْدَهُ، أوْ فَلَهُ نُورٌ، إلى ما في النَّظْمِ الجَلِيلِ لِلدِّلالَةِ عَلى اسْتِمْرارِ ذَلِكَ، واسْتِقْرارِهِ في النُّورِ، وهو مُسْتَعارٌ لِلُّطْفِ، والتَّوْفِيقِ لِلِاهْتِداءِ، وقَدْ يُقالُ: هو أمْرٌ إلَهِيٌّ غَيْرُ اللُّطْفِ والتَّوْفِيقِ يُدْرَكُ بِهِ الحَقُّ.
وجاءَ بِرِوايَةِ الثَّعْلَبِيِّ في تَفْسِيرِهِ، والحاكِمِ في مُسْتَدْرَكِهِ، والبَيْهَقِيِّ في شُعَبِ الإيمانِ وابْنِ مَرْدُوَيْهِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أنَّهُ قالَ: «(تَلا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ هَذِهِ الآيَةَ ﴿أفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ﴾ إلَخْ، فَقُلْنا: يا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ انْشِراحُ الصَّدْرِ؟ قالَ: إذا دَخَلَ النُّورُ القَلْبَ انْشَرَحَ، وانْفَسَحَ، قُلْنا: فَما عَلامَةُ ذَلِكَ يا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقالَ: الإنابَةُ إلى دارِ الخُلُودِ، والتَّجافِي عَنْ دارِ الغُرُورِ، والتَّأهُّبُ لِلْمَوْتِ قَبْلَ نُزُولِهِ)».
واسْتَشْكَلَ ذَلِكَ بِأنَّ ظاهِرَ الآيَةِ تَرَتُّبُ دُخُولِ النُّورِ عَلى الِانْشِراحِ، لِأنَّهُ الِاسْتِعْدادُ لِقَبُولِهِ، وما في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ عَكْسُهُ، والظّاهِرُ أنَّ السُّؤالَ عَمّا في الآيَةِ، وأنَّ الجَوابَ بَيانٌ لِكَيْفِيَّتِهِ. وأُجِيبَ بِأنَّ الِاهْتِداءَ لَهُ مَراتِبُ بَعْضُها مُقَدَّمٌ وبَعْضُها مُؤَخَّرٌ، وانْشِراحُ الصَّدْرِ بِحَسَبِ الفِطْرَةِ والخُلُقِ، وبِحَسَبِ ما يَطْرَأُ عَلَيْهِ بَعْدَ فَيْضِ الألْطافِ عَلَيْهِ، وبَيْنَهُما تَلازُمٌ، والمُرادُ بِانْشِراحِ الصَّدْرِ في الحَدِيثِ ما يَكُونُ بَعْدَ التَّمَكُّنِ فِيهِ، وفي الآيَةِ ما تَقَدَّمَ، وقِسْ عَلَيْهِ النُّورَ، والجَوابُ مِن قَبِيلِ الأُسْلُوبِ الحَكِيمِ، فَتَأمَّلْ.
﴿فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهم مِن ذِكْرِ اللَّهِ﴾ أيْ مِن أجْلِ ذِكْرِهِ سُبْحانَهُ الَّذِي حَقُّهُ أنْ تَلِينَ مِنهُ القُلُوبُ، أيْ إذا ذُكِرَ اللَّهُ تَعالى عِنْدَهُمْ، أوْ آياتُهُ - عَزَّ وجَلَّ - اشْمَأزُّوا مِن ذَلِكَ، وزادَتْ قُلُوبُهم قَساوَةً. وقُرِئَ: ”عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ“ والمُتَواتِرَةُ أبْلَغُ، لِأنَّ القاسِيَ مِن أجْلِ الشَّيْءِ أشَدُّ تَأبِّيًا مِن قَبُولِهِ مِنَ القاسِي عَنْهُ بِسَبَبٍ آخَرَ، ولِلْمُبالَغَةِ في وصْفِ أُولَئِكَ بِالقَبُولِ، وهَؤُلاءِ بِالِامْتِناعِ، ذَكَرَ شَرْحَ الصَّدْرِ، لِأنَّ تَوْسِعَتَهُ وجَعْلَهُ مَحَلًّا لِلْإسْلامِ دُونَ القَلْبِ الَّذِي فِيهِ يَدُلُّ عَلى شِدَّتِهِ، وإفْراطِ كَثْرَتِهِ الَّتِي فاضَتْ حَتّى مَلَأتِ الصَّدْرَ فَضْلًا عَنِ القَلْبِ، وإسْنادُهُ إلى اللَّهِ تَعالى الظّاهِرُ (p-258)فِي أنَّهُ عَلى أتَمِّ الوُجُوهِ، لِأنَّهُ فِعْلُ قادِرٍ حَكِيمٍ، وقابَلَهُ بِالقَساوَةِ مَعَ أنَّ مُقْتَضى المُقابَلَةِ أنْ يُعَبِّرَ بِالضِّيقِ، لِأنَّ القَساوَةَ كَما في الصَّخْرَةِ الصَّمّاءِ تَقْتَضِي عَدَمَ قَبُولِ شَيْءٍ بِخِلافِ الضِّيقِ، فَإنَّهُ مُشْعِرٌ بِقَبُولِ شَيْءٍ قَلِيلٍ، وعَدَلَ عَنِ التَّعْبِيرِ بِما يُفِيدُ مَجْعُولِيَّةَ القَساوَةِ لَهُ تَعالى وخَلْقَهُ إيّاها لِلْإشارَةِ إلى غايَةِ لُزُومِها لَهُمْ، حَتّى كَأنَّها لَوْ لَمْ تُجْعَلْ لَتَحَقَّقَتْ فِيهِمْ بِمُقْتَضى ذَواتِهِمْ، وأمّا إسْنادُها إلى القُلُوبِ دُونَ الصُّدُورِ فَلِلتَّنْصِيصِ عَلى فَسادِ هَذا العُضْوِ الَّذِي إذا فَسَدَ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، واعْتُبِرَ الجَمْعُ في هَؤُلاءِ الكَفَرَةِ، والإفْرادُ في أُولَئِكَ المُؤْمِنِينَ حَيْثُ قالَ سُبْحانَهُ: ﴿أفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ﴾ دُونَ أفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صُدُورَهُمْ، لِلْإشارَةِ إلى أنَّ المُؤْمِنِينَ وإنْ تَعَدَّدُوا كَرَجُلٍ واحِدٍ، ولا كَذَلِكَ الكُفّارُ.
﴿أُولَئِكَ﴾ البُعَداءُ المُتَّصِفُونَ بِما ذُكِرَ مِن قَساوَةِ القُلُوبِ ﴿فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ ظاهِرٍ كَوْنُهُ ضَلالًا لِكُلِّ أحَدٍ.
والآيَةُ نَزَلَتْ في عَلِيٍّ وحَمْزَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما، وأبِي لَهَبٍ، وابْنِهِ، فَعَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ وحَمْزَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ مِمَّنْ شَرَحَ اللَّهُ تَعالى صَدْرَهُ لِلْإسْلامِ، وأبُو لَهَبٍ، وابْنُهُ مِنَ القاسِيَةِ قُلُوبُهم.
{"ayah":"أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدۡرَهُۥ لِلۡإِسۡلَـٰمِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورࣲ مِّن رَّبِّهِۦۚ فَوَیۡلࣱ لِّلۡقَـٰسِیَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكۡرِ ٱللَّهِۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ فِی ضَلَـٰلࣲ مُّبِینٍ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق