الباحث القرآني

(p-229)﴿قالَ﴾ أيِ اللَّهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿فالحَقُّ والحَقَّ أقُولُ﴾ بِرَفْعِ الأوَّلِ عَلى أنَّهُ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الخَبَرِ، أوْ خَبَرٌ مَحْذُوفُ المُبْتَدَإ، ونَصْبِ الثّانِي عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ لِما بَعْدَهُ، قُدِّمَ عَلَيْهِ لِلْقَصْرِ، أيْ لا أقُولُ إلّا الحَقَّ، والفاءُ لِتَرْتِيبِ مَضْمُونِ ما بَعْدَها عَلى ما قَبْلَها، أيْ فالحَقُّ قَسَمِي، ﴿لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ﴾ عَلى أنَّ الحَقَّ إمّا اسْمُهُ تَعالى، أوْ نَقِيضُ الباطِلِ عَظَّمَهُ اللَّهُ تَعالى بِإقْسامِهِ بِهِ، ورَجَحَ بِحَدِيثِ إعادَةِ الِاسْمِ مَعْرِفَةً أوْ فَأنا الحَقُّ، أوْ فَقَوْلِي الحَقُّ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لأمْلأنَّ﴾ إلَخْ، حِينَئِذٍ جَوابٌ لِقَسَمٍ مَحْذُوفٍ، أيْ واللَّهِ لَأمْلَأنَّ إلَخْ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿والحَقَّ أقُولُ﴾ عَلى تَقْدِيرِ اعْتِراضٍ مُقَرِّرٍ عَلى الوَجْهَيْنِ الأوَّلَيْنِ لِمَضْمُونِ الجُمْلَةِ القَسَمِيَّةِ وعَلى الوَجْهِ الثّالِثِ لِمَضْمُونِ الجُمْلَةِ المُتَقَدِّمَةِ أعْنِي فَقَوْلِي الحَقُّ. وقَوْلُ: ﴿فالحَقُّ﴾ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ: ﴿لأمْلأنَّ﴾ لِأنَّ المَعْنى: أنْ أمْلَأ، لَيْسَ بِشَيْءٍ أصْلًا. وقَرَأ الجُمْهُورُ ”فالحَقَّ، والحَقَّ“ بِنَصْبِهِما، وخُرِّجَ عَلى أنَّ الثّانِيَ مَفْعُولٌ مُقَدَّمٌ كَما تَقَدَّمَ، والأوَّلَ مُقْسَمٌ بِهِ حُذِفَ مِنهُ حَرْفُ القَسَمِ، فانْتَصَبَ كَما في بَيْتِ الكِتابِ: ؎إنَّ عَلَيْكَ اللَّهَ أنْ تُبايِعا تُؤْخَذُ كَرْهًا أوْ تَجِيءُ طائِعا وقَوْلِكَ: اللَّهَ لَأفْعَلَنَّ، وجَوابُهُ ﴿لأمْلأنَّ﴾ وما بَيْنَهُما اعْتِراضٌ، وقِيلَ: هو مَنصُوبٌ عَلى الإغْراءِ، أيْ فالزَمُوا الحَقَّ، ”ولأملأن“ جَوابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ، وقالَ الفَرّاءُ: هو عَلى مَعْنى قَوْلِكَ: حَقًّا لَآتِيَنَّكَ، ووُجُودُ ألْ، وطَرْحُها سَواءٌ، أيْ لَأمْلَأنَّ جَهَنَّمَ حَقًّا، فَهو عِنْدَهُ نَصْبٌ عَلى أنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِمَضْمُونِ الجُمْلَةِ، ولا يَخْفى أنَّ هَذا المَصْدَرَ لا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ عِنْدَ جُمْهُورِ النُّحاةِ، وأنَّهُ مَخْصُوصٌ بِالجُمْلَةِ الَّتِي جُزْآها مَعْرِفَتانِ جامِدانِ جُمُودًا مَحْضًا. وقالَ صاحِبُ البَسِيطِ: وقَدْ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ الخَبَرُ نَكِرَةً، والمُبْتَدَأُ يَكُونُ ضَمِيرًا نَحْوَ: هو زَيْدٌ مَعْرُوفًا، وهو الحَقُّ بَيِّنًا، وأنا الأمِيرُ مُفْتَخِرًا، ويَكُونَ ظاهِرًا نَحْوَ: زَيْدٌ أبُوكَ عَطُوفًا، وأخُوكَ زَيْدٌ مَعْرُوفًا، اهـ، فَكَأنَّ الفَرّاءَ لا يَشْتَرِطُ في ذَلِكَ ما يَشْتَرِطُونَ. وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ، ومُجاهِدٌ، والأعْمَشُ بِالرَّفْعِ فِيهِما، وخُرِّجَ رَفْعُ الأوَّلِ عَلى ما مَرَّ، ورَفْعُ الثّانِي عَلى أنَّهُ مُبْتَدَأٌ، والجُمْلَةُ بَعْدَهُ خَبَرٌ والرّابِطُ مَحْذُوفٌ، أيْ أقُولُهُ، كَقِراءَةِ ابْنِ عامِرٍ: (وكُلٌّ وعَدَ اللَّهُ الحُسْنى)، وقَوْلِ أبِي النَّجْمِ: ؎قَدْ أصْبَحَتْ أُمُّ الخِيارِ تَدَّعِي ∗∗∗ عَلَيَّ ذَنْبًا كُلُّهُ لَمْ أصْنَعِ بِرَفْعِ كُلٍّ لِيَتَأتّى السَّلْبُ الكُلِّيُّ المَقْصُودُ لِلشّاعِرِ، وقَرَأ الحَسَنُ، وعِيسى، وعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أبِي حَمّادٍ، عَنْ أبِي بَكْرٍ بِجَرِّهِما، وخُرِّجَ عَلى أنَّ الأوَّلَ مَجْرُورٌ بِواوِ القَسَمِ مَحْذُوفَةً، أيْ فَوالحَقِّ، والثّانِي مَجْرُورٌ بِالعَطْفِ عَلَيْهِ كَما تَقُولُ: واللَّهِ واللَّهِ لَأقُومَنَّ، و﴿أقُولُ﴾ اعْتِراضٌ بَيْنَ القَسَمِ وجَوابِهِ، وجَعَلَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مَفْعُولًا مُقَدَّمًا، (لِأقُولُ)، والجَرُّ عَلى حِكايَةِ لَفْظِ المُقْسَمِ بِهِ قالَ: ومَعْناهُ التَّوْكِيدُ والتَّشْدِيدُ، وإفادَتُهُ ذَلِكَ زِيادَةٌ عَلى ما يُفِيدُهُ أصْلُ الِاعْتِراضِ، لِأنَّ العُدُولَ عَمّا يَقْتَضِيهِ مِنَ الإعْرابِ إلى الحِكايَةِ، لَمّا كانَ لِاسْتِبْقاءِ الصُّورَةِ الأُولى دَلَّ عَلى أنَّها مِنَ العِنايَةِ في شَأْنِها بِمَكانٍ، وهَذا جارٍ في كُلِّ حِكايَةٍ مِن دُونِ فِعْلِ قَوْلٍ، وما يَقُومُ مَقامَهُ فَيَدُلُّ فِيما نَحْنُ فِيهِ عَلى فَضْلِ عِنايَةٍ بِشَأْنِ القَسَمِ، ويُفِيدُ التَّشْدِيدَ والتَّوْكِيدَ. وقُرِئَ بِجَرِّ الأوَّلِ عَلى إضْمارِ حَرْفِ القَسَمِ ونَصْبِ الثّانِي عَلى المَفْعُولِيَّةِ، ﴿مِنكَ﴾ أيْ مِن جِنْسِكَ مِنَ الشَّياطِينِ، ﴿ومِمَّنْ تَبِعَكَ﴾ في الغَوايَةِ والضَّلالَةِ ﴿مِنهُمْ﴾ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ ﴿أجْمَعِينَ﴾ تَوْكِيدٌ لِلضَّمِيرِ في ﴿مِنكَ﴾ والضَّمِيرُ المَجْرُورُ بِمِنَ الثّانِيَةِ، والمَعْنى: لَأمْلَأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ المَتْبُوعِينَ، والتّابِعِينَ أجْمَعِينَ، لا أتْرُكُ مِنهم أحَدًا، أوْ تَوْكِيدٌ لِلتّابِعِينَ فَحَسْبُ، والمَعْنى: لَأمْلَأنَّها مِنَ الشَّياطِينِ، ومِمَّنْ تَبِعَهم مِن جَمِيعِ النّاسِ، لا تَفاوُتَ في ذَلِكَ بَيْنَ ناسٍ وناسٍ، بَعْدَ وُجُودِ الأتْباعِ مِنهم مِن أوْلادِ الأنْبِياءِ وغَيْرِهِمْ، وتَأْكِيدُ التّابِعِينَ دُونَ المَتْبُوعِينَ لِما (p-230)أنَّ حالَ التّابِعِينَ إذا بَلَغَ إلى أنِ اتَّصَلَ إلى أوْلادِ الأنْبِياءِ فَما بالُ المَتْبُوعِينَ. وقالَ صاحِبُ الكَشْفِ: صاحِبُ هَذا القَوْلِ اعْتَبَرَ القُرْبَ، وأنَّ الكَلامَ بَيْنَ الحَقِّ تَعالى شَأْنُهُ وبَيْنَ المَلْعُونِ في شَأْنِ التّابِعِينَ، فَأكَّدَ ما هو المَقْصُودُ، وتَرَكَ تَوْكِيدَ الآخَرِ لِلِاكْتِفاءِ. هَذا واعْلَمْ أنَّ هَذِهِ القِصَّةَ قَدْ ذُكِرَتْ في عِدَّةِ سُوَرٍ، وقَدْ تُرِكَ في بَعْضِها بَعْضُ ما ذُكِرَ في البَعْضِ الآخَرِ لِلْإيجازِ ثِقَةَ ما ذُكِرَ في ذَلِكَ، وقَدْ يَكُونُ فِيها في مَوْضِعَيْنِ مَثَلًا لَفْظانِ مُتَّحِدانِ مَآلًا مُخْتَلِفانِ لَفْظًا رِعايَةً لِلتَّفَنُّنِ، وقَدْ يُحْمَلُ الِاخْتِلافُ عَلى تَعَدُّدِ الصُّدُورِ، فَيُقالُ مَثَلًا: إنَّ اللَّعِينَ أقْسَمَ مَرَّةً بِالعِزَّةِ، فَحَكى ذَلِكَ في سُورَةِ (ص) بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿قالَ فَبِعِزَّتِكَ﴾ وأُخْرى بِإغْواءِ اللَّهِ تَعالى الَّذِي هو أثَرٌ مِن آثارِ قُدْرَتِهِ وعِزَّتِهِ - عَزَّ وجَلَّ - وحُكْمٌ مِن أحْكامِ سُلْطانِهِ، فَحَكى ذَلِكَ في سُورَةِ الأعْرافِ، بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿قالَ فَبِما أغْوَيْتَنِي﴾ وقَدْ يُحْمَلُ الِاخْتِلافُ عَلى اخْتِلافِ المَقاماتِ كَتَرْكِ الفاءِ مِن قَوْلِهِ ﴿أنْظِرْنِي إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ ومِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّكَ مِنَ المُنْظَرِينَ﴾ في الأعْرافِ مَعَ ذِكْرِها فِيهِما في (ص)، والَّذِي يَجِبُ اعْتِبارُهُ في نَقْلِ الكَلامِ إنَّما هو أصْلُ مَعْناهُ، ونَفْسُ مَدْلُولِهِ الَّذِي يُفِيدُهُ، وأمّا كَيْفِيَّةُ إفادَتِهِ لَهُ فَلَيْسَ مِمّا يَجِبُ مُراعاتُهُ عِنْدَ النَّقْلِ البَتَّةَ، بَلْ قَدْ تُراعى، وقَدْ لا تُراعى حَسَبَ اقْتِضاءِ المَقامِ، ولا يَقْدَحُ في أصْلِ الكَلامِ تَجْرِيدُهُ عَنْها، بَلْ قَدْ تُراعى عِنْدَ نَقْلِهِ كَيْفِيّاتٌ وخُصُوصِيّاتٌ لَمْ يُراعِها المُتَكَلِّمُ أصْلًا حَيْثُ إنَّ مَقامَ الحِكايَةِ اقْتَضَتْها، وهي مِلاكُ الأمْرِ، ولا يُخِلُّ ذَلِكَ بِكَوْنِ المَنقُولِ أصْلَ المَعْنى، كَما قَدْ حَقَّقَهُ صَدْرُ المُفْتِينَ أبُو السُّعُودِ، وأطالَ الكَلامَ فِيهِ، فَلْيُراجَعْ،
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب