الباحث القرآني

﴿اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ﴾ عَلى ما يَتَجَدَّدُ مِن أمْثالِ هَذِهِ المَقالاتِ الباطِلَةِ المُؤْذِيَةِ، ﴿واذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ﴾ أيِ اذْكُرْ لَهم قِصَّتَهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - تَعْظِيمًا لِلْمَعْصِيَةِ في أعْيُنِهِمْ، وتَنْبِيهًا لَهم عَلى كَمالِ قُبْحِ ما اجْتَرَءُوا عَلَيْهِ، فَإنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - مَعَ عُلُوِّ شَأْنِهِ، وإيتائِهِ النُّبُوَّةَ والمُلْكَ لَمّا ألَمَّ بِما هو خِلافُ الأوْلى نالَهُ ما ألَمَّهُ، وأدامَ غَمَّهُ ونَدَمَهُ، فَما الظَّنُّ بِهَؤُلاءِ الكَفَرَةِ الأذَلِّينَ الَّذِينَ لَمْ يَزالُوا عَلى أكْبَرِ الكَبائِرِ مُصِرِّينَ، أوِ اذْكُرْ قِصَّتَهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - في نَفْسِكَ، وتَحَفَّظْ مِنِ ارْتِكابِ ما يُوجِبُ العِتابَ، وقِيلَ: إنَّهُ تَعالى أمَرَهُ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - أنْ يَذْكُرَ قِصَصَ الأنْبِياءِ - عَلَيْهِمُ السَّلامُ - الَّذِينَ عَرَضَ لَهم ما عَرَضَ، فَصَبَرُوا حَتّى فَرَّجَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُمْ، وأحْسَنَ عاقِبَتَهُمْ، تَرْغِيبًا لَهُ في الصَّبْرِ وتَسْهِيلًا لِأمْرِهِ عَلَيْهِ، وإيذانًا بِبُلُوغِ ما يُرِيدُهُ بِذَلِكَ، وهو كَما تَرى، وقِيلَ: أمَرَهُ بِالصَّبْرِ، وذِكْرِ قِصَصِ الأنْبِياءِ لِيَكُونَ ذَلِكَ بُرْهانًا عَلى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ ﷺ، والذِّكْرُ عَلى هَذا، والأوَّلِ لِسانِيٌّ، وعَلى ما بَيْنَهُما قَلْبِيٌّ، وهو مُرادُ مَن فَسَّرَ ﴿اذْكُرْ﴾ عَلى ذَلِكَ بِتَذَكَّرْ، ﴿ذا الأيْدِ﴾ أيْ ذا القُوَّةِ، يُقالُ: فُلانٌ أيْدٍ وذُو أيْدٍ وذُو آدٍ وأيادٍ بِمَعْنى، وأيادِ كُلِّ شَيْءٍ ما يُتَقَوّى بِهِ. ﴿إنَّهُ أوّابٌ﴾ أيْ رَجّاعٌ إلى اللَّهِ تَعالى وطاعَتِهِ عَزَّ وجَلَّ، وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، ومُجاهِدٍ أنَّهُما قالا: الأوّابُ المُسَبِّحُ، وعَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ أنَّهُ المُسَبِّحُ بِلُغَةِ الحَبَشَةِ. وأخْرَجَ الدَّيْلَمِيُّ، «عَنْ مُجاهِدٍ قالَ: سَألْتُ ابْنَ عُمَرَ عَنِ الأوّابِ فَقالَ: سَألْتُ النَّبِيَّ ﷺ عَنْهُ فَقالَ: هو الرَّجُلُ يَذْكُرُ ذُنُوبَهُ في الخَلاءِ فَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تَعالى». وهَذا إنْ صَحَّ لا يُعْدَلُ عَنْهُ، والجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِكَوْنِهِ - عَلَيْهِ السَّلامُ - ذا الأيْدِ، وتَدُلُّ بِأيِّ مَعْنًى كانَ الأوّابُ فِيها عَلى أنَّ المُرادَ (p-174)بِالأيْدِ القُوَّةُ الدِّينِيَّةُ، وهي القُوَّةُ عَلى العِبادَةِ كَما قالَ مُجاهِدٌ، وقَتادَةُ، والحَسَنُ، وغَيْرُهم إذْ لا يَحْسُنُ التَّعْلِيلُ لَوْ حُمِلَتِ القُوَّةُ عَلى القُوَّةِ في الجِسْمِ، نَعَمْ قَدْ كانَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - قَوِيَّ الجِسْمِ أيْضًا، إلّا أنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُرادٍ هُنا، وفي التَّعْبِيرِ عَنْهُ بِعَبْدِنا ووَصْفِهِ بِذِي الأيْدِ، والتَّعْلِيلِ بِما ذُكِرَ دِلالَةٌ عَلى كَثْرَةِ عِبادَتِهِ ووُفُورِ طاعَتِهِ. وقَدْ أخْرَجَ البُخارِيُّ في تارِيخِهِ، عَنْ أبِي الدَّرْداءِ قالَ: «كانَ النَّبِيُّ ﷺ إذا ذَكَرَ داوُدَ وحَدَّثَ عَنْهُ قالَ: كانَ أعْبَدَ البَشَرِ» . وأخْرَجَ الدَّيْلَمِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما قالَ: «”قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لا يَنْبَغِي لِأحَدٍ أنْ يَقُولَ إنِّي أعْبَدُ مِن داوُدَ“». ورُوِيَ أنَّهُ كانَ يَصُومُ يَوْمًا ويُفْطِرُ يَوْمًا وكانَ يَقُومُ نِصْفَ اللَّيْلِ. وفِي ذَلِكَ دِلالَةٌ عَلى قُوَّتِهِ في العِبادَةِ لِما في كُلٍّ مِنَ الصِّيامِ والقِيامِ المَذْكُورَيْنِ مِن تَرْكِ راحَةٍ تَذْكُرُها قَرِيبًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب