الباحث القرآني
﴿وما يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إلا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِن فَواقٍ﴾ شُرُوعٌ في بَيانِ عِقابِ كُفّارِ مَكَّةَ إثْرَ بَيانِ عِقابِ أضْرابِهِمْ، فَإنَّ الكَلامَ السّابِقَ مِمّا يُوجِبُ تَرَقُّبَ السّامِعِ بَيانَهُ، والنَّظَرُ بِمَعْنى الِانْتِظارِ، وعَبَّرَ بِهِ مَجازًا بِجَعْلٍ مُحَقَّقِ (p-172)الوُقُوعِ، كَأنَّهُ أمْرٌ مُنْتَظَرٌ لَهُمْ، والإشارَةُ بِهَؤُلاءِ لِلتَّحْقِيرِ، والمُرادُ بِالصَّيْحَةِ الواحِدَةِ النَّفْخَةُ الثّانِيَةُ، أيْ ما يَنْتَظِرُ هَؤُلاءِ الكَفَرَةُ الحَقِيرُونَ الَّذِينَ هم أمْثالُ أُولَئِكَ الطَّوائِفِ المُهْلَكَةِ في الكُفْرِ، والتَّكْذِيبِ شَيْئًا إلّا النَّفْخَةَ الثّانِيَةَ الَّتِي تَقُومُ بِها السّاعَةُ، قالَهُ قَتادَةُ، ولَيْسَ المُرادُ أنَّها نَفْسَها عِقابٌ لَهم لِعُمُومِها لِلْبَرِّ والفاجِرِ مِن جَمِيعِ الأُمَمِ، بَلِ المُرادُ أنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهم وبَيْنَ ما أُعِدَّ لَهم مِنَ العَذابِ إلّا هي لِتَأْخِيرِ عُقُوبَتِهِمْ إلى الآخِرَةِ لِما أنَّ تَعْذِيبَهم بِالِاسْتِئْصالِ حَسْبَما يَسْتَحِقُّونَهُ، والنَّبِيُّ ﷺ مَوْجُودٌ خارِجٌ عَنِ السُّنَّةِ الإلَهِيَّةِ المَبْنِيَّةِ عَلى الحِكَمِ الباهِرَةِ كَما نَطَقَ بِهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهم وأنْتَ فِيهِمْ﴾، إذِ المُرادُ مِن ﴿وأنْتَ فِيهِمْ﴾ وُجُودُهُ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - لا مُجاوَرَتُهُ لَهم كَما تُوُهِّمَ حَتّى يُقالَ: لا دِلالَةَ في الآيَةِ عَلى امْتِناعِ وُقُوعِهِ بَعْدَ الهِجْرَةِ لِمُخالَفَتِهِ لِلتَّفْسِيرِ المَشْهُورِ، وقِيلَ: المُرادُ بِالصَّيْحَةِ المَذْكُورَةِ النَّفْخَةُ الأُولى. وتُعُقِّبَ بِأنَّهُ مِمّا لا وجْهَ لَهُ أصْلًا لِما أنَّهُ لا يُشاهِدُ هو لَها، ولا يُصْعَقُ بِها إلّا مَن كانَ حَيًّا عِنْدَ وُقُوعِها، ولَيْسَ عِقابُهُمُ المَوْعُودُ واقِعًا عَقِيبَها، ولا العَذابُ المُطْلَقُ مُؤَخَّرًا إلَيْها، بَلْ يَحِلُّ بِهِمْ مِن حِينِ مَوْتِهِمْ.
وقِيلَ: المُرادُ صَيْحَةٌ يُهْلَكُونَ بِها في الدُّنْيا كَما هَلَكَتْ ثَمُودُ، ولا يَخْفى أنَّ هَذا تَعْذِيبٌ بِالِاسْتِئْصالِ، وهو مِمّا لا يَقَعُ كَما سَمِعْتَ، فَلا يَكُونُ مُنْتَظَرًا، وقالَ أبُو حَيّانَ: الصَّيْحَةُ ما نالَهم مِن قَتْلٍ وأسْرٍ وغَلَبَةٍ، كَما تَقُولُ: صاحَ بِهِمُ الدَّهْرُ، فَهي مَجازٌ عَنِ الشَّرِّ كَما في قَوْلِهِمْ ما يَنْتَظِرُونَ إلّا مِثْلَ صَيْحَةِ الحُبْلى، أيْ شَرًّا يُعاجِلُهُمْ، وفِيهِ بُعْدٌ.
وجُوِّزَ جَعْلُ هَؤُلاءِ إشارَةً إلى الأحْزابِ لِما سَبَقَ ذِكْرُهم مُكَرِّرًا مُؤَكِّدًا اسْتِحْضارَهُمُ المُخاطَبَ في ذِهْنِهِ، فَنُزِّلَ الوُجُودُ الذِّهْنِيُّ مَنزِلَةَ الخارِجِيِّ المَحْسُوسِ، وأُشِيرَ إلَيْهِمْ بِما يُشارُ بِهِ لِلْحاضِرِ المُشاهَدِ، واحْتِمالُ التَّحْقِيرِ قائِمٌ، ولا يَنْبُو عَنْهُ التَّعْبِيرُ بِأُولَئِكَ، لِأنَّ البُعْدَ في الواقِعِ مَعَ أنَّهُ قَدْ يُقْصَدُ بِهِ التَّحْقِيرُ أيْضًا، والكَلامُ بَيانٌ لِما يَصِيرُونَ إلَيْهِ في الآخِرَةِ مِنَ العِقابِ بَعْدَ ما نَزَلَ بِهِمْ في الدُّنْيا مِنَ العَذابِ، وجَعْلُهم مُنْتَظِرِينَ لَهُ لِأنَّ ما أصابَهم مِن عَذابِ الِاسْتِئْصالِ لَيْسَ هو نَتِيجَةَ ما جَنَوْهُ مِن قَبِيحِ الأعْمالِ، إذْ لا يُعْتَدُّ بِهِ بِالنِّسْبَةِ إلى ما ثَمَّتَ مِنَ الأهْوالِ، فَهو تَحْذِيرٌ لِكُفّارِ قُرَيْشٍ، وتَخْوِيفٌ لِمَن يُساقُ لَهُ الحَدِيثُ فَلا وجْهَ لِما قالَهُ أبُو السُّعُودِ مِن أنَّ هَذا لَيْسَ في حَيِّزِ الِاحْتِمالِ أصْلًا، لِأنَّ الِانْتِظارَ سَواءٌ كانَ حَقِيقَةً، أوِ اسْتِهْزاءً إنَّما يُتَصَوَّرُ في حَقِّ مَن لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلى أعْمالِهِ نَتائِجُها بَعْدُ، وبَعْدَ ما بَيَّنَ عِقابَ الأحْزابِ واسْتِئْصالَهم بِالمَرَّةِ لَمْ يَبْقَ مِمّا أُرِيدَ بَيانُهُ مِن عُقُوباتِهِمْ أمْرٌ مُنْتَظَرٌ بِخِلافِ كُفّارِ قُرَيْشٍ حَيْثُ ارْتَكَبُوا ما ارْتَكَبُوا، ولَمّا يُلاقُوا بَعْدُ شَيْئًا قالَهُ الخَفاجِيُّ، ولا يَخْفى أنَّ المُنْساقَ إلى الذِّهْنِ هو الِاحْتِمالُ الأوَّلُ، وهو المَأْثُورُ عَنِ السَّلَفِ، والفَواقُ الزَّمَنُ الَّذِي بَيْنَ حَلْبَتَيِ الحالِبِ، ورَضْعَتَيِ الرّاضِعِ، ويُقالُ لِلَّبَنِ الَّذِي يَجْتَمِعُ في الضَّرْعِ بَيْنَ الحَلْبَتَيْنِ فِيقَةٌ، ويُجْمَعُ عَلى أفْواقٍ، وأفاوِيقُ جَمْعُ الجَمْعِ، والكَلامُ عَلى تَقْدِيرِ مُضافَيْنِ أيْ ما يَنْتَظِرُونَ إلّا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِن تَوَقُّفِ مِقْدارِ فَواقٍ، أوْ عَلى ذِكْرِ المَلْزُومِ الَّذِي هو الفَواقُ، وإرادَةُ اللّازِمِ الَّذِي هو التَّوَقُّفُ مِقْدارَهُ، وهو مَجازٌ مَشْهُورٌ، والمَعْنى أنَّ الصَّيْحَةَ إذا جاءَ وقْتُها لَمْ تَسْتَأْخِرْ هَذا القَدْرَ مِنَ الزَّمانِ.
وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، ومُجاهِدٍ، وقَتادَةَ تَفْسِيرُهُ بِالرُّجُوعِ والتَّرْدادِ، وهو مَجازٌ أُطْلِقَ فِيهِ المَلْزُومُ، وأُرِيدَ اللّازِمُ، فَإنَّ في الزَّمانِ بَيْنَ الحَلْبَتَيْنِ يَرْجِعُ اللَّبَنُ إلى الضَّرْعِ، والمَعْنى أنَّها صَيْحَةٌ واحِدَةٌ فَحَسْبُ، لا تُثَنّى، ولا تُرَدَّدُ، فالجُمْلَةُ عَلَيْهِ صِفَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِوَحْدَةِ الصَّيْحَةِ.
وقَرَأ السُّلَمِيُّ، وابْنُ وثّابٍ، والأعْمَشُ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وطَلْحَةُ بِضَمِّ الفاءِ، فَقِيلَ: هُما بِمَعْنًى واحِدٍ، وهو ما تَقَدَّمَ كَقَصاصِ الشَّعْرِ وقُصاصِهِ، وقِيلَ: المَفْتُوحُ اسْمُ مَصْدَرٍ مِن أفاقَ المَرِيضُ إفاقَةً وفاقَةً إذا رَجَعَ إلى الصِّحَّةِ (p-173)وإلَيْهِ يَرْجِعُ تَفْسِيرُ ابْنِ زَيْدٍ، والسُّدِّيِّ، وأبِي عُبَيْدَةَ، والفَرّاءِ لَهُ بِالإفاقَةِ والِاسْتِراحَةِ، والمَضْمُومُ اسْمُ ساعَةِ رُجُوعِ اللَّبَنِ لِلضَّرْعِ.
{"ayah":"وَمَا یَنظُرُ هَـٰۤؤُلَاۤءِ إِلَّا صَیۡحَةࣰ وَ ٰحِدَةࣰ مَّا لَهَا مِن فَوَاقࣲ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











