الباحث القرآني

والفاءُ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿فَلَمّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ﴾ فَصِيحَةٌ تُعْرِبُ عَنْ مُقَدَّرٍ قَدْ حُذِفَ تَعْوِيلًا عَلى شَهادَةِ الحالِ وإيذانًا بِعَدَمِ الحاجَةِ إلى التَّصْرِيحِ بِهِ لِاسْتِحالَةِ التَّخَلُّفِ؛ أيْ: فَوَهَبْناهُ لَهُ ونَشَأ، فَلَمّا بَلَغَ رُتْبَةَ أنْ يَسْعى مَعَهُ في أشْغالِهِ وحَوائِجِهِ، و”مَعَ“ ظَرْفٌ لِلسَّعْيِ وهي تَدُلُّ عَلى مَعْنى الصُّحْبَةِ واسْتِحْداثِها، وتَعَلُّقِها بِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ المَذْكُورُ؛ لِأنَّ صِلَةَ المَصْدَرِ لا تَتَقَدَّمُهُ لِأنَّهُ عِنْدَ العَمَلِ مُؤَوَّلٌ بِأنِ المَصْدَرِيَّةِ، والفِعْلُ ومَعْمُولُ الصِّلَةِ لا يَتَقَدَّمُ عَلى المَوْصُولِ؛ لِأنَّهُ كَتَقَدُّمِ جُزْءِ الشَّيْءِ المُرَتَّبِ الأجْزاءِ عَلَيْهِ، أوْ لِضَعْفِهِ عَنِ العَمَلِ، فِيهِ بَحْثٌ، أمّا أوَّلًا فَلِأنَّ التَّأْوِيلَ المَذْكُورَ عَلى المَشْهُورِ في المَصْدَرِ المُنَكَّرِ دُونَ المُعَرَّفِ، وأمّا ثانِيًا فَلِأنَّهُ إذا سُلِّمَ العُمُومُ فَلَيْسَ كُلُّ ما أُوِّلَ بِشَيْءٍ حُكْمُهُ حُكْمُ ما أُوِّلَ بِهِ، وأما ثالِثًا فَلِأنَّ المُقَدَّمَ هُنا ظَرْفٌ وقَدِ اشْتَهَرَ أنَّهُ يُغْتَفَرُ فِيهِ ما لا يُغْتَفَرُ في غَيْرِهِ. وصَرَّحُوا بِأنَّهُ يَكْفِيهِ رائِحَةُ الفِعْلِ وبِهَذا يَضْعُفُ حَدِيثُ المَنعِ لِضَعْفِ العامِلِ عَنِ العَمَلِ، فالحَقُّ أنَّهُ لا حاجَةَ في مِثْلِ ذَلِكَ إلى التَّقْدِيرِ مُعَرَّفًا كانَ المَصْدَرُ أوْ مُنَكَّرًا كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿ولا تَأْخُذْكم بِهِما رَأْفَةٌ﴾ وهو الَّذِي ارْتَضاهُ الرِّضى وقالَ بِهِ العَلّامَةُ الثّانِي، واخْتارَ صاحِبُ الفَرائِدِ كَوْنَها مُتَعَلِّقَةً بِمَحْذُوفٍ وقَعَ حالًا مِنَ (السَّعْيَ) أيْ فَلَمّا بَلَغَ السَّعْيَ حالَ كَوْنِ ذَلِكَ السَّعْيِ كائِنًا مَعَهُ، وفِيهِ أنَّ السَّعْيَ مَعَهُ مَعْناهُ اتِّفاقُهُما فِيهِ، فالصُّحْبَةُ بَيْنَ الشَّخْصَيْنِ فِيهِ، وما قَدَّرَهُ يَقْتَضِي الصُّحْبَةَ بَيْنَ السَّعْيِ وإبْراهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - ولا يُطابِقُ المَقامَ، وجُوِّزَ تَعَلُّقُهُ بِـ”بَلَغَ“، ورُدَّ بِأنَّهُ يَقْتَضِي بُلُوغَهُما مَعًا حَدَّ السَّعْيِ لِما سَمِعْتَ مِن مَعْنى (مَعَ)، وهو غَيْرُ صَحِيحٍ، وأُجِيبَ بِأنَّ مَعَ عَلى ذَلِكَ لِمُجَرَّدِ الصُّحْبَةِ عَلى (p-128)أنْ تَكُونَ مُرادِفَةَ ”عِنْدَ“ نَحْوُ: فُلانٌ يَتَغَنّى مَعَ السُّلْطانِ، أيْ عِنْدَهُ، ويَكُونُ حاصِلُ المَعْنى: بَلَغَ عِنْدَ أبِيهِ وفي صُحْبَتِهِ مُتَخَلِّقًا بِأخْلاقِهِ مُتَطَبِّعًا بِطِباعِهِ، ويَسْتَدْعِي ذَلِكَ كَمالَ مَحَبَّةِ الأبِ إيّاهُ، ويَجُوزُ عَلى هَذا أنْ تَتَعَلَّقَ بِمَحْذُوفٍ وقَعَ حالًا مِن فاعِلِ (بَلَغَ). ومِن مَجِيءِ (مَعَ) لِمُجَرَّدِ الصُّحْبَةِ قَوْلُهُ تَعالى حِكايَةَ عَنْ بِلْقِيسَ ﴿وأسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ فَلْتَكُنْ فِيما نَحْنُ فِيهِ مِثْلَها في تِلْكَ الآيَةِ، وتُعُقِّبَ بِأنَّ ذاكَ مَعْنى مَجازِيٌّ، والحِمْلُ عَلى المَجازِ هُنالِكَ لِلصّارِفِ، ولا صارِفَ فِيما نَحْنُ فِيهِ، فَلْيُحْمَلْ عَلى الحَقِيقَةِ، عَلى أنَّهُ لا يَتَعَيَّنُ هُنالِكَ أنْ تَكُونَ لِمَعِيَّةِ الفاعِلِ لِجَوازِ أنْ يُرادَ أسْلَمْتُ لِلَّهِ ولِرَسُولِهِ مَثَلًا، وتَقْدِيمُ (مَعَ) إشْعارٌ مِنها بِأنَّها كانَتْ تَظُنُّ أنَّها عَلى دِينٍ قَبْلُ، وأنَّها مُسْلِمَةٌ لِلَّهِ تَعالى فِيما كانَتْ تَعْبُدُ مِنَ الشَّمْسِ، فَدَلَّ عَلى أنَّهُ إسْلامٌ يُعْتَدُّ بِهِ مِن أثَرِ مُتابَعَةِ نَبِيِّهِ لا إسْلامٌ كالأوَّلِ فاسِدٌ، قالَ صاحِبُ الكَشْفِ: وهَذا مَعْنًى صَحِيحٌ حَمْلُ الآيَةِ عَلَيْهِ أوْلى، وإنْ حُمِلَ عَلى مَعِيَّةِ الفاعِلِ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِن مَحْذُوفٍ، نَحْوُ: مَعَ بُلُوغِ دَعَوْتِهِ وإظْهارِ مُعْجِزَتِهِ؛ لِأنَّ فَرْقَ ما بَيْنَ المُقَيَّدِ ومُطْلَقِ الجَمْعِ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ، وزَعَمَ بَعْضٌ أنَّهُ لا مانِعَ مِن إرادَةِ الحَقِيقَةِ واسْتِحْداثِ إسْلامِهِما مَعًا عَلى مَعْنى أنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - وافَقَها أوْ لَقَّنَها، ولَيْسَ بِشَيْءٍ كَما لا يَخْفى. وقِيلَ يُرادُ بِالسَّعْيِ عَلى تَقْدِيرِ تَعَلُّقِ (مَعَ) بِـ(بَلَغَ) المَسْعى، وهو الجَبَلُ المَقْصُودُ إلَيْهِ بِالمَشْيِ، وهو تَكَلُّفٌ لا يُصارُ إلَيْهِ. وبِالجُمْلَةِ، الأوْلى تَعَلُّقُها بِالسَّعْيِ، والتَّخْصِيصُ لِأنَّ الأبَ أكْمَلُ في الرِّفْقِ وبِالِاسْتِصْلاحِ لَهُ فَلا يَسْتَسْعِيهِ قَبْلَ أوانِهِ، أوْ لِأنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - اسْتَوْهَبَهُ لِذَلِكَ، وفِيهِ عَلى الأوَّلِ بَيانُ أوانِهِ، وأنَّهُ في غَضاضَةِ عُودِهِ كانَ فِيهِ ما فِيهِ مِن رَصانَةِ العَقْلِ ورَزانَةِ الحِلْمِ حَتّى أجابَ بِما أجابَ، وعَلى الثّانِي بَيانُ اسْتِجابَةِ دُعائِهِ - عَلَيْهِ السَّلامُ - وكانَ لِلْغُلامِ يَوْمَئِذٍ ثَلاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، والوَلَدُ أحَبُّ ما يَكُونُ عِنْدَ أبِيهِ في سِنٍّ يَقْدِرُ فِيهِ عَلى إعانَةِ الأبِ وقَضاءِ حاجَةٍ ولا يَقْدِرُ فِيهِ عَلى العِصْيانِ. ﴿قالَ يا بُنَيَّ إنِّي أرى في المَنامِ أنِّي أذْبَحُكَ﴾ يُحْتَمَلُ أنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - رَأى في مَنامِهِ أنَّهُ فَعَلَ ذَبْحَهُ، فَحَمَلَهُ عَلى ما هو الأغْلَبُ في رُؤْيا الأنْبِياءِ - عَلَيْهِمُ السَّلامُ - مِن وُقُوعِها بِعَيْنِها، ويُحْتَمَلُ أنَّهُ رَأى ما تَأْوِيلُهُ ذَلِكَ لَكِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ وذَكَرَ التَّأْوِيلَ، كَما يَقُولُ المُمْتَحَنُ وقَدْ رَأى أنَّهُ راكِبٌ في سَفِينَةٍ رَأيْتُ في المَنامِ أنِّي ناجٍ مِن هَذِهِ المِحْنَةِ، وقِيلَ: إنَّهُ رَأى مُعالَجَةَ الذَّبْحَ ولَمْ يَرَ إنْهارَ الدَّمِ فَـ(أنِّي أذْبَحُكَ) أنِّي أُعالِجُ ذَبْحَكَ، ويُشْعِرُ صَنِيعَ بَعْضِهِمُ اخْتِيارَ أنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - أُتِيَ في المَنامِ، فَقِيلَ لَهُ: اذْبَحِ ابْنَكَ، ورُؤْيا الأنْبِياءِ وحْيٌ كالوَحْيِ في اليَقَظَةِ، وفي رِوايَةٍ أنَّهُ رَأى لَيْلَةَ التَّرْوِيَةِ كَأنَّ قائِلًا يَقُولُ: إنَّ اللَّهَ تَعالى يَأْمُرُكَ بِذَبْحِ ابْنِكَ، فَلَمّا أصْبَحَ رَوَّأ في ذَلِكَ وفَكَّرَ مِنَ الصَّباحِ إلى الرَّواحِ أمِنَ اللَّهِ تَعالى هَذا الحُلُمُ أمْ مِنَ الشَّيْطانِ؟ فَمِن ثَمَّ سُمِّيَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، فَلَمّا أمْسى رَأى مِثْلَ ذَلِكَ فَعَرَفَ أنَّهُ مِنَ اللَّهِ تَعالى فَمِن ثَمَّ سُمِّيَ يَوْمَ عَرَفَةَ، ثُمَّ رَأى مِثْلَهُ في اللَّيْلَةِ الثّالِثَةِ فَهَمَّ بِنَحْرِهِ فَسُمِّيَ يَوْمَ النَّحْرِ، وقِيلَ: إنَّ المَلائِكَةَ حِينَ بَشَّرَتْهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ، قالَ: هو إذَنْ ذَبِيحُ اللَّهِ، فَلَمّا وُلِدَ وبَلَغَ حَدَّ السَّعْيِ مَعَهُ قِيلَ لَهُ: أوْفِ بِنَذْرِكَ، ولَعَلَّ هَذا القَوْلَ كانَ في المَنامِ وإلّا فَما يَصْنَعُ قَوْلُهُ ﴿إنِّي أرى في المَنامِ أنِّي أذْبَحُكَ﴾ وفي كَلامِ التَّوْراةِ الَّتِي بِأيْدِي اليَهُودِ اليَوْمَ ما يَرْمُزُ إلى أنَّ الأمْرَ بِالذَّبْحِ كانَ لَيْلًا، فَإنَّهُ بَعْدَ أنْ ذَكَرَ قَوْلَ اللَّهِ تَعالى لَهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - خُذِ ابْنَكَ وامْضِ إلى بَلَدِ العِبادَةِ وأصْعِدْهُ ثَمَّ قُرْبانًا عَلى أحَدِ الجِبالِ الَّذِي أُعَرِّفُكَ بِهِ، قِيلَ: فَأدْلَجَ إبْراهِيمُ بِالغَداةِ... إلَخْ، فالأمْرُ إمّا مَنامًا وإمّا يَقَظَةً لَكِنْ وقَعَ تَأْكِيدًا لِما في المَنامِ؛ إذْ لا مَحِيصَ عَنِ الإيمانِ بِما قَصَّهُ اللَّهُ تَعالى عَلَيْنا فِيما أعْجَزَ بِهِ الثَّقَلَيْنِ مِنَ القُرْآنِ، والحَزْمُ الجَزْمُ بِكَوْنِهِ في المَنامِ لا غَيْرَ؛ إذْ لا يُعَوَّلُ عَلى ما في أيْدِي اليَهُودِ ولَيْسَ في الأخْبارِ الصَّحِيحَةِ ما يَدُلُّ عَلى وُقُوعِهِ يَقَظَةً أيْضًا. (p-129)ولَعَلَّ السِّرَّ في كَوْنِهِ مَنامًا لا يَقَظَةً أنْ تَكُونَ المُبادَرَةُ إلى الِامْتِثالِ أدُلَّ عَلى كَمالِ الِانْقِيادِ والإخْلاصِ. وقِيلَ: كانَ ذَلِكَ في المَنامِ دُونَ اليَقَظَةِ لِيَدُلَّ عَلى أنَّ حالَتَيِ الأنْبِياءِ يَقِظَةً ومَنامًا سَواءٌ في الصِّدْقِ، والأوَّلُ أوْلى، والتَّأْكِيدُ لِما في تَحَقُّقِ المُخْبَرِ بِهِ مِنَ الِاسْتِبْعادِ، وصِيغَةُ المُضارِعِ في المَوْضِعَيْنِ قِيلَ لِاسْتِحْضارِ الصُّورَةِ الماضِيَةِ لِنَوْعِ غَرابَةٍ، وقِيلَ: في الأوَّلِ لِتَكَرُّرِ الرُّؤْيا، وفي الثّانِي لِلِاسْتِحْضارِ المَذْكُورِ أوْ لِتُكَرُّرِ الذَّبْحِ حَسَبَ تَكَرُّرِ الرُّؤْيا، أوْ لِلْمُشاكَلَةِ، ومَن نَظَرَ بَعْدُ ظَهَرَ لَهُ غَيْرُ ذَلِكَ. ﴿فانْظُرْ ماذا تَرى﴾ مِنَ الرَّأْيِ، وإنَّما شاوَرَهُ في ذَلِكَ - وهو حَتْمٌ - لِيَعْلَمَ ما عِنْدَهُ فِيما نَزَلَ مِن بَلاءِ اللَّهِ - عَزَّ وجَلَّ - فَيُثَّبِتَ قَدَمَهُ إنْ جَزِعَ، ويَأْمَنَ عَلَيْهِ إنْ سَلَّمَ، ولِيُوَطِّنَ نَفْسَهُ عَلَيْهِ فَيُهَوِّنَ عَلَيْهِ ويَكْتَسِبَ المَثُوبَةَ بِالِانْقِيادِ لِأمْرِ اللَّهِ تَعالى قَبْلَ نُزُولِهِ، ولِيَكُونَ سُنَّةً في المُشاوَرَةِ، فَقَدْ قِيلَ: لَوْ شاوَرَ آدَمُ المَلائِكَةَ في أكْلِهِ مِنَ الشَّجَرَةِ لَما فَرَطَ مِنهُ ذَلِكَ، وقَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ ”ماذا تُرِي“ بِضَمِّ التّاءِ وكَسْرِ الرّاءِ خالِصَةً، أيْ ما الَّذِي تُرِينِي إيّاهُ مِنَ الصَّبْرِ وغَيْرِهِ؟ أوْ أيَّ شَيْءٍ تُرِينِي؟ عَلى أنَّ ما مُبْتَدَأٌ وذا مَوْصُولٌ خَبَرُهُ ومَفْعُولَيْ ”تَرى“ مَحْذُوفانِ، أوْ ”ماذا“ كالشَّيْءِ الواحِدِ مَفْعُولٌ ثانٍ لِتَرى والمَفْعُولُ الأوَّلُ مَحْذُوفٌ، وقُرِئَ ”ماذا تُرى“ بِضَمِّ التّاءِ وفَتْحِ الرّاءِ عَلى البِناءِ لِلْمَفْعُولِ، أيْ ماذا تُرِيكَ نَفْسُكَ مِنَ الرَّأْيِ، و(انْظُرْ) في جَمِيعِ القِراءاتِ مُعَلَّقَةٌ عَنِ العَمَلِ وفي ”ماذا“ الِاحْتِمالانِ. فَلا تَغْفُلْ. ﴿قالَ يا أبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ﴾ أيِ الَّذِي تُؤْمَرُ بِهِ فَحُذِفَ الجارُّ والمَجْرُورُ دَفْعَةً، أوْ حُذِفَ الجارُّ أوَّلًا فَعُدِّيَ الفِعْلُ بِنَفْسِهِ، نَحْوُ: أمَرْتُكَ الخَيْرَ، ثُمَّ حُذِفَ المَجْرُورُ بَعْدَ أنْ صارَ مَنصُوبًا ثانِيًا، والحَذْفُ الأوَّلُ شائِعٌ مَعَ الأمْرِ حَتّى كادَ يُعَدُّ مُتَعَدِّيًا بِنَفْسِهِ، فَكَأنَّهُ لَمْ يَجْتَمِعْ حَذْفانِ، أوِ افْعَلْ أمْرَكَ عَلى أنَّ ”ما“ مَصْدَرِيَّةٌ، والمُرادُ بِالمَصْدَرِ الحاصِلُ بِالمَصْدَرِ، أيِ: المَأْمُورُ بِهِ، ولا فَرْقَ في جَوازِ إرادَةِ ذَلِكَ مِنَ المَصْدَرِ بَيْنَ أنْ يَكُونَ صَرِيحًا وأنْ يَكُونَ مَسْبُوكًا. وإضافَتُهُ إلى ضَمِيرِ إبْراهِيمَ إضافَةٌ إلى المَفْعُولِ، ولا يَخْفى بُعْدُ هَذا الوَجْهِ، وهَذا الكَلامُ يَقْتَضِي تَقَدُّمَ الأمْرِ، وهو غَيْرُ مَذْكُورٍ، فَإمّا أنْ يَكُونَ فُهِمَ مِن كَلامِهِ - عَلَيْهِ السَّلامُ - أنَّهُ رَأى أنَّهُ يَذْبَحُهُ مَأْمُورًا، أوْ عَلِمَ أنَّ رُؤْيا الأنْبِياءِ حَقٌّ وأنَّ مِثْلَ ذَلِكَ لا يُقْدِمُونَ عَلَيْهِ إلّا بِأمْرٍ، وصِيغَةُ المُضارِعِ لِلْإيذانِ بِغَرابَةِ ذَلِكَ، مِثْلُها في كَلامِ إبْراهِيمَ عَلى وجْهٍ، وفِيهِ إشارَةٌ إلى أنَّ ما قالَهُ لَمْ يَكُنْ إلّا عَنْ حُلُمٍ غَيْرِ مَشُوبٍ بِجَهْلٍ بِحالِ المَأْمُورِ بِهِ، وقِيلَ: لِلدَّلالَةِ عَلى أنَّ الأمْرَ مُتَعَلِّقٌ بِهِ مُتَوَجِّهٌ إلَيْهِ مُسْتَمِرٌّ إلى حِينِ الِامْتِثالِ بِهِ، وقِيلَ: لِتَكَرُّرِ الرُّؤْيا، وقِيلَ: جِيءَ بِها لِأنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَعْدُ أمْرٌ، وإنَّما كانَتْ رُؤْيا الذَّبْحِ، فَأخْبَرَهُ بِها، فَعَلِمَ لِعِلْمِهِ بِمَقامِ أبِيهِ، وإنَّهُ مِمَّنْ لا يَجِدُ الشَّيْطانُ سَبِيلًا بِإلْقاءِ الخَيالاتِ الباطِلَةِ إلَيْهِ في المَنامِ - أنَّهُ سَيَكُونُ ذَلِكَ، ولا يَكُونُ إلّا بِأمْرٍ إلَهِيٍّ، فَقالَ لَهُ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ بَعْدُ مِنَ الذَّبْحِ الَّذِي رَأيْتَهُ في مَنامِكَ، ولَمّا كانَ خِطابُ الأبِ (يا بُنَيَّ) عَلى سَبِيلِ التَّرَحُّمِ قالَ هُوَ: (يا أبَتِ) عَلى سَبِيلِ التَّوْقِيرِ والتَّعْظِيمِ، ومَعَ ذَلِكَ أتى بِجَوابٍ حَكِيمٍ لِأنَّهُ فَوَّضَ الأمْرَ حَيْثُ اسْتَشارَهُ، فَأجابَ بِأنَّهُ لَيْسَ مُجاوِزَها وإنَّما الواجِبُ إمْضاءُ الأمْرِ. ﴿سَتَجِدُنِي إنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصّابِرِينَ﴾ عَلى قَضاءِ اللَّهِ تَعالى ذَبْحًا كانَ أوْ غَيْرَهُ، وقِيلَ: عَلى الذَّبْحِ، والأوَّلُ أوْلى لِلِعُمُومِ، ويَدْخُلُ الذَّبْحُ دُخُولًا أوَّلِيًّا، وفي قَوْلِهِ ﴿مِنَ الصّابِرِينَ﴾ دُونَ صابِرًا وإنْ كانَتْ رُؤُوسُ الآيِ تَقْتَضِي ذَلِكَ مِنَ التَّواضُعِ ما فِيهِ، وقِيلَ ولَعَلَّهُ وُفِّقَ لِلصَّبْرِ بِبَرَكَتِهِ مَعَ بَرَكَةِ الِاسْتِثْناءِ، ومُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - لَمّا لَمْ يَسْلُكْ هَذا المَسْلَكَ مِنَ التَّواضُعِ في قَوْلِهِ: ﴿سَتَجِدُنِي إنْ شاءَ اللَّهُ صابِرًا﴾ حَيْثُ لَمْ يَنْظِمْ نَفْسَهُ الكَرِيمَةَ في سِلْكِ (p-130)الصّابِرِينَ؛ بَلْ أخْرَجَ الكَلامَ عَلى وجْهٍ لا يُشْعِرُ بِوُجُودِ صابِرٍ سِواهُ - لَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُ الصَّبْرُ مَعَ أنَّهُ لَمْ يُهْمِلْ أمْرَ الِاسْتِثْناءِ. وفِيهِ أيْضًا إغْراءٌ لِأبِيهِ - عَلَيْهِ السَّلامُ - عَلى الصَّبْرِ لِما يَعْلَمُ مِن شَفَقَتِهِ عَلَيْهِ مَعَ عِظَمِ البَلاءِ، حَيْثُ أشارَ إلى أنَّ لِلَّهِ تَعالى عِبادًا صابِرِينَ، وهي زَهْرَةُ رَبِيعٍ لا تَتَحَمَّلُ الفَرْكَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب