الباحث القرآني

﴿وإذا قِيلَ لَهم أنْفِقُوا مِمّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ﴾ أيْ أعْطاكم سُبْحانَهُ بِطَرِيقِ التَّفَضُّلِ والإنْعامِ مِن أنْواعِ الأمْوالِ، وعَبَّرَ بِذَلِكَ تَحْقِيقًا لِلْحَقِّ وتَرْغِيبًا في الإنْفاقِ عَلى مِنهاجِ قَوْلِهِ تَعالى ﴿وأحْسِنْ كَما أحْسَنَ اللَّهُ إلَيْكَ﴾ وتَنْبِيهًا عَلى عِظَمِ جِنايَتِهِمْ في تَرْكِ الِامْتِثالِ بِالأمْرِ، وكَذَلِكَ الإتْيانُ بِـ ”مِن“ التَّبْعِيضِيَّةِ، والكَلامُ عَلى ما قِيلَ لِذَمِّهِمْ عَلى تَرْكِ الشَّفَقَةِ عَلى خَلْقِ اللَّهِ تَعالى أثَرَ ذَمِّهِمْ عَلى تَرْكِ تَعْظِيمِهِ - عَزَّ وجَلَّ - بِتَرْكِ التَّقْوى، وفي ذَلِكَ إشارَةٌ إلى أنَّهم أخَلُّوا بِجَمِيعِ التَّكالِيفِ لِأنَّها كُلَّها تَرْجِعُ إلى أمْرَيْنِ: التَّعْظِيمِ لِلَّهِ تَعالى والشَّفَقَةِ عَلى خَلْقِهِ سُبْحانَهُ، وقِيلَ هو لِلْإشارَةِ إلى عَدَمِ مُبالاتِهِمْ بِنُصْحِ النّاصِحِ وإرْشادِهِ إيّاهم إلى ما يَدْفَعُ (p-30)البَلاءَ عَنْهم نَظِيرَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿وإذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا﴾ إلَخْ والمَعْنى عَلَيْهِ؛ إذا قِيلَ لَهم بِطَرِيقِ النَّصِيحَةِ والإرْشادِ إلى ما فِيهِ نَفْعُهم أنْفَقُوا بَعْضَ ما آتاكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلى المُحْتاجِينَ فَإنَّ ذَلِكَ مِمّا يَرُدُّ البَلاءَ ويَدْفَعُ المَكارِهَ ﴿قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أنُطْعِمُ مَن لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أطْعَمَهُ﴾ والأوَّلُ أظْهَرُ، والظّاهِرُ أنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الَّذِينَ قِيلَ لَهم أنْفَقُوا، وعَدَلَ عَنْ ضَمِيرِهِمْ إلى الظّاهِرِ إيماءً إلى عِلَّةِ القَوْلِ المَذْكُورِ، وفي كَوْنِ القَوْلِ لِلَّذِينِ آمَنُوا إيماءً إلى أنَّهُمُ القائِلُونَ، قِيلَ: لَمّا أسْلَمَ حَواشِي الكُفّارِ مِن أقْرِبائِهِمْ ومَوالِيهِمْ مِنَ المُسْتَضْعَفِينَ قَطَعُوا عَنْهم ما كانُوا يُواسُونَهم بِهِ وكانَ ذَلِكَ بِمَكَّةَ قَبْلَ نُزُولِ آياتِ القِتالِ، فَنَدَبَهُمُ المُؤْمِنُونَ إلى صِلَةِ حَواشِيهِمْ، فَقالُوا: ﴿أنُطْعِمُ﴾ إلَخْ، وقِيلَ: شَحَّتْ قُرَيْشٌ بِسَبَبِ أزْمَةٍ عَلى المَساكِينِ مِن مُؤْمِنٍ وغَيْرِهِ فَنَدَبَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ إلى النَّفَقَةِ عَلَيْهِمْ فَقالُوا هَذا القَوْلَ، وقِيلَ: قالَ فُقَراءُ المُؤْمِنِينَ أعْطُونا ما زَعَمْتُمْ مِن أمْوالِكم أنَّها لِلَّهِ تَعالى فَحَرَمُوا وقالُوا ذَلِكَ، ورُوِيَ هَذا عَنْ مُقاتِلٍ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: كانَ بِمَكَّةَ زَنادِقَةٌ إذا أُمِرُوا بِالصَّدَقَةِ قالُوا لا واللَّهِ أيُفْقِرُهُ اللَّهُ تَعالى ونُطْعِمُهُ نَحْنُ؟ وكانُوا يَسْمَعُونَ المُؤْمِنِينَ يُعَلِّقُونَ الأفْعالَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعالى يَقُولُونَ لَوْ شاءَ اللَّهُ تَعالى لَأغْنى فُلانًا ولَوْ شاءَ لَأعَزَّهُ ولَوْ شاءَ سُبْحانَهُ لَكانَ كَذا فَأخْرَجُوا هَذا الجَوابَ مَخْرَجَ الِاسْتِهْزاءِ بِالمُؤْمِنِينَ وبِما كانُوا يَقُولُونَ. وقالَ القُشَيْرِيُّ أيْضًا: إنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ في قَوْمٍ مِنَ الزَّنادِقَةِ لا يُؤْمِنُونَ بِالصّانِعِ وأنْكَرُوا وُجُودَهُ، فَقَوْلُهم ”لَوْ يَشاءُ اللَّهُ“ مِن بابِ الِاسْتِهْزاءِ بِالمُسْلِمِينَ. وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا عَلى اعْتِقادِ المُخاطَبِينَ، ويُفْهَمُ مِن هَذا أنَّ الزِّنْدِيقَ مَن يُنْكِرُ الصّانِعَ، وقَدْ حَقَّقَ الأمْرَ فِيهِ عَلى الوَجْهِ الأكْمَلِ ابْنُ الكَمالِ في رِسالَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ فارْجِعْ إلَيْها إنْ أرَدْتَ ذَلِكَ. وعَنِ الحَسَنِ، وأبِي خالِدٍ أنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ في اليَهُودِ أُمِرُوا بِالإنْفاقِ عَلى الفُقَراءِ فَقالُوا ذَلِكَ. وظاهِرُ ما تَقَدَّمَ يَقْتَضِي أنَّها في كُفّارِ مَكَّةَ أُمِرُوا بِالإنْفاقِ مِمّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ تَعالى وهو عامٌّ في الإطْعامِ وغَيْرِهِ فَأجابُوا بِنَفْيِ الإطْعامِ الَّذِي لَمْ يَزالُوا يَفْتَخِرُونَ بِهِ دَلالَةً عَلى نَفْيِ غَيْرِهِ بِالطَّرِيقِ الأوْلى ولِذا لَمْ يَقُلْ أنُنْفِقُ. وقِيلَ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ لِأنَّ الإطْعامَ هو المُرادُ مِنَ الإنْفاقِ أوْ لِأنَّ ﴿نُطْعِمُ﴾ بِمَعْنى نُعْطِي ولَيْسَ بِذاكَ، و﴿أطْعَمَهُ﴾ جَوابُ ﴿لَوْ﴾ ووُرُودُ المُوجِبِ جَوابًا بِغَيْرِ لامٍ فَصِيحٌ ومِنهُ ﴿أنْ لَوْ نَشاءُ أصَبْناهُمْ﴾، ﴿لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجًا﴾ نَعَمِ الأكْثَرُ مَجِيئُهُ بِاللّامِ. والظّاهِرُ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى ﴿إنْ أنْتُمْ إلا في ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ مِن تَتِمَّةِ قَوْلِ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينِ آمَنُوا أيْ ما أنْتُمْ إلّا في ضَلالٍ ظاهِرٍ حَيْثُ طَلَبْتُمْ مِنّا ما يُخالِفُ مَشِيئَةَ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ، ولَعَمْرِي إنَّ الإناءَ يَنْضَحُ بِما فِيهِ فَإنَّ جَوابَهم يَدُلُّ عَلى غايَةِ ضَلالِهِمْ وفَرْطِ جَهْلِهِمْ حَيْثُ لَمْ يَعْلَمُوا أنَّهُ تَعالى يُطْعِمُ بِأسْبابٍ مِنها حَثِّ الأغْنِياءِ عَلى إطْعامِ الفُقَراءِ وتَوْفِيقِهِمْ سُبْحانَهُ لَهُ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ جَوابًا مِن جِهَتِهِ تَعالى زَجَرَ بِهِ الكَفَرَةَ وجَهْلَهم بِهِ أوْ حِكايَةً لِجَوابِ المُؤْمِنِينَ لَهم فَيَكُونُ عَلى الوَجْهَيْنِ اسْتِئْنافًا بَيانِيًّا جَوابًا لِما عَسى أنْ يُقالَ ما قالَ اللَّهُ تَعالى أوْ ما قالَ المُؤْمِنُونَ في جَوابِهِمْ؟
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب