الباحث القرآني

وقَدْ عادَ إلى المَساقِ الأوَّلِ مِنَ التَّلَطُّفِ بِالإرْشادِ فَقالَ: ﴿أأتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً﴾ إنْكارٌ ونَفْيٌ لِاتِّخاذِ جِنْسِ الآلِهَةِ عَلى الإطْلاقِ وفِيهِ مِن تَحْمِيقِ مَن يَعْبُدُ الأصْنامَ ما فِيهِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهم شَيْئًا﴾ اسْتِئْنافٌ سِيقَ لِتَعْلِيلِ النَّفْيِ المَذْكُورِ، وجَعْلُهُ صِفَةً لِ: ”آلِهَةً“ كَما ذَهَبَ إلَيْهِ البَعْضُ رُبَّما يُوهِمُ أنَّ هُناكَ آلِهَةً لَيْسَتْ كَذَلِكَ، ومَعْنى: ”لا تُغْنِي...“ إلَخْ: لا تَنْفَعُنِي شَيْئًا مِنَ النَّفْعِ، وهو إمّا عَلى حَدِّ: لا تَرى الضَّبَّ بِها يَنْجَحِرُ. أيْ لا شَفاعَةَ لَهم حَتّى تَنْفَعَنِي، وإمّا عَلى فَرْضِ وُقُوعِ الشَّفاعَةِ؛ أيْ: لا تُغْنِي عَنِّي شَفاعَتُهم لَوْ وقَعَتْ شَيْئًا. ”ولا يُنْقِذُونِ“ يُخَلَّصُونَ مِن ذَلِكَ الضُّرِّ بِالنَّصْرِ والمُظاهَرَةِ، وهو تَرَقٍّ مِنَ الأدْنى إلى الأعْلى؛ بَدَأ أوَّلًا بِنَفْيِ الجاهِ وذَكَرَ ثانِيًا انْتِفاءَ القُدْرَةِ وعَبَّرَ عَنْهُ بِانْتِفاءِ الإنْقاذِ؛ لِأنَّهُ نَتِيجَتُهُ، وفَتَحَ ياءَ المُتَكَلِّمِ في ”يُرِدْنِي“ طَلْحَةُ السَّمّانُ عَلى ما قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وقالَ ابْنُ خالَوَيْهِ: طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ وعِيسى الهَمَذانِيُّ وأبُو جَعْفَرٍ، ورُوِيَتْ عَنْ نافِعٍ وعاصِمٍ وأبِي عَمْرٍو، وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وقُرِئَ: ”إنْ يَرِدْنِي الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ“ بِمَعْنى: إنْ يُورِدْنِي ضُرًّا؛ أيْ: يَجْعَلُنِي مَوْرِدًا لِلضُّرِّ اه. قالَ أبُو حَيّانَ: كَأنَّهُ -واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ- رَأى في كُتُبِ القِراءاتِ: «يَرِدْنِي» بِفَتْحِ الياءِ فَتُوُهِّمَ أنَّها ياءُ المُضارَعَةِ؛ فَجَعَلَ الفِعْلَ مُتَعَدِّيًا بِالياءِ المُعَدِّيَةِ كالهَمْزَةِ فَلِذَلِكَ أدْخَلَ عَلَيْهِ هَمْزَةَ التَّعْدِيَةِ ونَصَبَ بِهِ اثْنَيْنِ، والَّذِي في كُتُبِ الشَّواذِّ أنَّها ياءُ الإضافَةِ المَحْذُوفَةُ خَطًّا ونُطْقًا لِالتِقاءِ السّاكِنَيْنِ، قالَ في كِتابِ ابْنِ خالَوَيْهِ: بِفَتْحِ الياءِ ياءِ الإضافَةِ، وقالَ في اللَّوامِحِ: «أنْ يَرِدْنِي الرَّحْمَنُ» بِالفَتْحِ وهو أصْلُ الياءِ البَصَرِيَّةِ؛ أيْ المُثْبَتَةِ بِالخَطِّ الَّذِي يُرى بِالبَصَرِ لَكِنَّ هَذِهِ مَحْذُوفَةٌ اه كَلامُهُ، وحُسْنُ الظَّنِّ بِالزَّمَخْشَرِيَ يَقْتَضِي خِلافَ ما ذَكَرَهُ: ”إنِّي إذًا“ أيْ: إذا اتَّخَذْتُ مِن دُونِهِ آلِهَةً لَفي ضَلالٍ مُبِينٍ؛ فَإنَّ إشْراكَ ما يَصْنَعُ ولَيْسَ مِن شَأْنِهِ النَّفْعُ ولا دَفْعُ الضُّرِّ بِالخالِقِ المُقْتَدِرِ الَّذِي لا قادِرَ غَيْرُهُ ولا خَيْرَ إلّا خَيْرُهُ، ضَلالٌ وخَطَأٌ بَيِّنٌ لا يَخْفى عَلى مَن لَهُ أدْنى تَمْيِيزٍ ﴿إنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ﴾ الظّاهِرُ أنَّ (p-228)الخِطابَ لِقَوْمِهِ شافَهَهم بِذَلِكَ وصَدَعَ بِالحَقِّ إظْهارًا لِلتَّصَلُّبِ في الدِّينِ وعَدَمِ المُبالاةِ بِما يَصْدُرُ مِنهُمْ، والجُمْلَةُ خَبَرِيَّةٌ لَفْظًا ومَعْنًى، والتَّأْكِيدُ قِيلَ: إنَّهم لَمْ يَعْلَمُوا مِن كَلامِهِ أنَّهُ آمَنَ بَلْ تَرَدَّدُوا في ذَلِكَ لَمّا سَمِعُوا مِنهُ ما سَمِعُوا. وإضافَةُ الرَّبِّ إلى ضَمِيرِهِمْ لِتَحْقِيقِ الحَقِّ والتَّنْبِيهِ عَلى بُطْلانِ ما هم عَلَيْهِ مِنَ اتِّخاذِ الأصْنامِ أرْبابًا؛ أيْ: إنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمُ الَّذِي خَلَقَكم فاسْمَعُونِ؛ أيْ: فاسْمَعُوا قَوْلِي فَإنِّي لا أُبالِي بِما يَكُونُ مِنكم عَلى ذَلِكَ، وقِيلَ: مُرادُهُ دَعَوْتُهم إلى الخَيْرِ الَّذِي اخْتارَهُ لِنَفْسِهِ، وقِيلَ: لَمْ يُرِدْ بِهَذا الكَلامِ إلّا أنْ يُغْضِبَهم ويَشْغَلَهم عَنِ الرُّسُلِ بِنَفْسِهِ لَمّا رَآهم لا يَنْجَعُ فِيهِمُ الوَعْظُ وقَدْ عَزَمُوا عَلى الإيقاعِ بِهِمْ ولَيْسَ بِشَيْءٍ، وقَدَّرَ بَعْضُهُمُ المُضافَ المَحْذُوفَ عامًّا، وفَسَّرَ السَّماعَ بِالقَبُولِ كَما فِي: سَمِعَ اللَّهُ تَعالى لِمَن حَمِدَهُ. أيْ: فاسْمَعُوا جَمِيعَ ما قُلْتُهُ واقْبَلُوهُ وهو مِمّا يُسْمَعُ. وجَعْلُ الخِطابِ لِلْقَوْمِ في الجُمْلَتَيْنِ هو المَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وكَعْبٍ ووَهْبٍ وأخْرَجَ الحاكِمُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أنَّهُ قالَ: لَمّا قالَ صاحِبُ يس: ﴿يا قَوْمِ اتَّبِعُوا المُرْسَلِينَ﴾ خَنَقُوهُ لِيَمُوتَ فالتَفَتَ إلى الأنْبِياءِ فَقالَ: ﴿إنِّي آمَنتُ بِرَبِّكم فاسْمَعُونِ﴾ أيْ: فاشْهَدُوا فالخِطابُ فِيهِما لِلرُّسُلِ بِطَرِيقِ التَّلْوِينِ، وأكَّدَ الخَبَرَ إظْهارًا لِصُدُورِهِ عَنْهُ بِكَمالِ الرَّغْبَةِ والنَّشاطِ، وأضافَ الرَّبَّ إلى ضَمِيرِهِمْ رَوْمًا لِزِيادَةِ التَّقْرِيرِ وإظْهارًا لِلِاخْتِصاصِ والِاقْتِداءِ بِهِمْ كَأنَّهُ قالَ: بِرَبِّكُمُ الَّذِي أرْسَلَكم أوِ الَّذِي تَدْعُونَنا إلى الإيمانِ بِهِ، وطَلَبَ السَّماعَ مِنهم لِيَشْهَدُوا لَهُ بِالإيمانِ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ كَما يُشِيرُ إلَيْهِ كَلامُ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ، وقِيلَ: الخِطابُ الأوَّلُ لِقَوْمِهِ، والثّانِي لِلرُّسُلِ خاطَبَهم عَلى جِهَةِ الِاسْتِشْهادِ بِهِمْ والِاسْتِحْفاظِ لِلْأمْرِ عِنْدَهُمْ، وقِيلَ: الخِطابانِ لِلنّاسِ جَمِيعًا، ورُوِيَ عَنْ عاصِمٍ أنَّهُ قَرَأ: «فاسْمَعُونَ» بِفَتْحِ النُّونِ، قالَ أبُو حاتِمٍ: هَذا خَطَأٌ لا يَجُوزُ؛ لِأنَّهُ أمْرٌ؛ فَإمّا أنْ تُحْذَفَ كَما حُذِفَتْ نُونُ الإعْرابِ ويُقالُ: فاسْمَعُوا، وإمّا أنْ تَبْقى وتُكْسَرَ، ومِنَ النّاسِ مَن وجَّهَهُ بِأنَّ الأصْلَ ”فاسْمَعُونا“ أيْ: فاسْمَعُوا كَلامَنا؛ أيْ: كَلامِي وكَلامَهم لِتَشْهَدُوا بِما كانَ مِنِّي ومِنهم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب