الباحث القرآني

﴿وهم يَصْطَرِخُونَ فِيها﴾ اِفْتِعالٌ مِنَ الصُّراخِ وهو شَدَّةُ الصِّياحِ والأصْلُ يَصْتَرِخُونَ فَأُبْدِلَتِ التّاءُ طاءً ويُسْتَعْمَلُ كَثِيرًا في الِاسْتِغاثَةِ لِأنَّ المُسْتَغِيثَ يَصِيحُ غالِبًا، وبِهِ فَسَّرَهُ هُنا قَتادَةُ فَقالَ: يَسْتَغِيثُونَ فِيها، واسْتِغاثَتُهم بِاَللَّهِ عَزَّ وجَلَّ بِدَلِيلِ ما بَعْدَهُ وقِيلَ بِبَعْضِهِمْ لِحَيْرَتِهِمْ ولَيْسَ بِذاكَ. ﴿رَبَّنا أخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنّا نَعْمَلْ﴾ بِإضْمارِ القَوْلِ، أيْ ويَقُولُونَ بِالعَطْفِ أوْ يَقُولُونَ بِدُونِهِ عَلى أنَّهُ تَفْسِيرٌ لِما قَبْلَهُ أوْ قائِلِينَ عَلى أنَّهُ حالٌ مِن ضَمِيرِهِمْ، وتَقْيِيدُ العَمَلِ الصّالِحِ بِالوَصْفِ المَذْكُورِ لِلتَّحَسُّرِ عَلى ما عَمِلُوهُ مِن غَيْرِ الصّالِحِ مَعَ الِاعْتِرافِ بِهِ والأشْعارِ بِأنَّ اِسْتِخْراجَهم لِتَلافِيهِ فَهو وصْفٌ مُؤَكِّدٌ، ولِأنَّهم كانُوا يَحْسَبُونَ أنَّهم يُحْسِنُونَ صُنْعًا فَكَأنَّهم قالُوا: نَعْمَلْ صالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنّا نَحْسَبُهُ صالِحًا فَنَعْمَلْهُ، فالوَصْفُ مُقَيَّدٌ. وذَكَرَ أبُو البَقاءِ أنَّ ﴿صالِحًا﴾ و﴿غَيْرَ الَّذِي﴾ يَجُوزُ أنْ يَكُونا صِفَتَيْنِ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أوْ لِمَفْعُولٍ مَحْذُوفٍ وأنْ يَكُونَ ﴿صالِحًا﴾ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ و﴿غَيْرَ الَّذِي﴾ مَفْعُولُ ﴿نَعْمَلْ﴾ . وأيًّا ما كانَ فالمُرادُ أخْرِجْنا مِنَ النّارِ ورُدَّنا إلى الدُّنْيا نَعْمَلْ (p-201)صالِحًا، وكَأنَّهم أرادُوا بِالعَمَلِ الصّالِحِ التَّوْحِيدَ وامْتِثالَ أمْرِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ والِانْقِيادَ لَهُ، وعَنِ اِبْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما أنَّهُ قالَ: ﴿نَعْمَلْ صالِحًا﴾ نَقُلْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ. ﴿أوَلَمْ نُعَمِّرْكم ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ﴾ جَوابٌ مِن جِهَتِهِ تَعالى وتَوْبِيخٌ لَهم في الآخِرَةِ حِينَ يَقُولُونَ ﴿رَبَّنا﴾ إلخ فَهو بِتَقْدِيرِ فَنَقُولُ لَهم أوْ فَيُقالُ لَهم ﴿أوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ﴾ الخ، وفي بَعْضِ الآثارِ أنَّهم يُجابُونَ بِذَلِكَ بَعْدَ مِقْدارِ الدُّنْيا، والهَمْزَةُ لِلْإنْكارِ والواوُ لِلْعَطْفِ عَلى مُقَدَّرٍ يَقْتَضِيهِ المَقامُ وما مَوْصُولَةٌ أوْ مَوْصُوفَةٌ أيْ ألَمْ نُمْهِلْكم ونُعَمِّرْكُمُ الَّذِي أيِ العُمْرَ الَّذِي أوْ عُمْرًا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ أيْ يَتَمَكَّنَ فِيهِ مَن أرادَ التَّذَكُّرَ وتَحَقَّقَتْ مِنهُ تِلْكَ الإرادَةُ مِنَ التَّذَكُّرِ والتَّفَكُّرِ. وقالَ أبُو حَيّانَ: ما مَصْدَرِيَّةٌ ظَرْفِيَّةٌ أيْ ألَمْ نُعَمِّرْكم في مُدَّةِ تَذَكُّرٍ، وتُعُقِّبَ بِأنَّ ضَمِيرَ (فِيهِ) يَأْباهُ لِأنَّها لا يَعُودُ عَلَيْها ضَمِيرٌ إلّا عَلى نَظَرِ الأخْفَشِ فَإنَّهُ يَرى اِسْمِيَّتَها وهو ضَعِيفٌ، ولَعَلَّهُ يَجْعَلُ الضَّمِيرَ لِلْعُمْرِ المَفْهُومِ مِن (نُعَمِّرُ) وفِيهِ بُعْدٌ. وجَعْلُ ما نافِيَةً لا يَصِحُّ كَما قالَ اِبْنُ الحاجِبِ لَفْظًا ومَعْنًى، وهَذا العُمْرُ عَلى ما رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ وأخْرَجَهُ جَماعَةٌ وصَحَّحَهُ الحاكِمُ عَنِ اِبْنِ عَبّاسٍ سِتُّونَ سَنَةً. وقَدْ أخْرَجَ الإمامُ أحْمَدُ والبُخارِيُّ والنَّسائِيُّ وغَيْرُهم عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قالَ: ««قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أعْذَرَ اللَّهُ تَعالى إلى اِمْرِئٍ أخَّرَ عُمْرَهُ حَتّى بَلَغَ سِتِّينَ سَنَةً»». وقِيلَ: هو خَمْسُونَ سَنَةً، وفي رِوايَةٍ عَنِ اِبْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ سِتٌّ وأرْبَعُونَ سَنَةً، وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ الحَسَنِ أنَّهُ أرْبَعُونَ سَنَةً، وفي رِوايَةٍ أُخْرى عَنْهُ أنَّهُ سِنُّ البُلُوغِ، وقِيلَ: سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وعَنْ قَتادَةَ ثَمانِ عَشْرَةَ سَنَةً، وعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ عِشْرُونَ سَنَةً، وعَنْ مُجاهِدٍ ما بَيْنَ العِشْرِينَ إلى السِّتِّينَ. وقَرَأ الأعْمَشُ: «ما يَذَّكَّرُ فِيهِ» مِنِ اِذَّكَّرَ بِالإدْغامِ واجْتِلابِ هَمْزَةِ الوَصْلِ مَلْفُوظًا بِها في الدَّرَجِ. ﴿وجاءَكُمُ النَّذِيرُ﴾ عَطْفٌ عَلى مَعْنى الجُمْلَةِ الِاسْتِفْهامِيَّةِ، فَكَأنَّهُ قِيلَ: عَمَّرْناكم وجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَلَيْسَ مِن عَطْفِ الخَبَرِ عَلى الإنْشاءِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ألَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ ﴿ووَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ﴾ [اَلشَّرْحِ: 1، 2] وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلى ﴿نُعَمِّرْكُمْ﴾ ودُخُولُ الهَمْزَةِ عَلَيْهِما فَلا تَغْفُلْ. والمُرادُ بِالنَّذِيرِ عَلى ما رُوِيَ عَنِ السُّدِّيِّ وابْنِ زَيْدٍ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وقِيلَ: ما مَعَهُ مِنَ القُرْآنِ، وقالَ أبُو حَيّانَ: المُرادُ جِنْسُ النَّذِيرِ وهُمُ الأنْبِياءُ عَلَيْهِمُ السَّلامُ فَكُلُّ نَبِيٍّ نَذِيرُ أُمَّتِهِ، ويُؤَيِّدُهُ أنَّهُ قُرِئَ «اَلنُّذُرُ» جَمْعًا، وعَنِ اِبْنِ عَبّاسٍ وعِكْرِمَةَ وسُفْيانَ بْنِ عُيَيْنَةَ ووَكِيعٍ والحُسَيْنِ بْنِ الفَضْلِ والفَرّاءِ والطَّبَرِيِّ هو الشَّيْبُ وفي الأثَرِ ما مِن شَعْرَةٍ تَبِيضُ إلّا قالَتْ لِأُخْتِها اِسْتَعِدِّي فَقَدْ قَرُبَ المَوْتُ، ومِن هُنا قِيلَ: ؎رَأيْتُ الشَّيْبَ مِن نُذُرِ المَنايا لِصاحِبِهِ وحَسْبُكَ مِن نَذِيرِ ؎وقائِلَةً تَخَضَّبْ يا حَبِيبِي ∗∗∗ وسَوِّدْ شَعْرَ شَيْبِكَ بِالعَبِيرِ ؎فَقُلْتُ لَها المَشِيبُ نَذِيرُ عُمْرِي ∗∗∗ ولَسْتُ مُسَوِّدًا وجْهَ النَّذِيرِ وقِيلَ: الحُمّى، وقِيلَ: مَوْتُ الأهْلِ والأقارِبِ، وقِيلَ: كَمالُ العَقْلِ، والِاقْتِصارُ عَلى النَّذِيرِ لِأنَّهُ الَّذِي يَقْتَضِيهِ المَقامُ، والفاءُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَذُوقُوا﴾ لِتَرْتِيبِ الأمْرِ بِالذَّوْقِ عَلى ما قَبْلَها مِنَ التَّعْمِيرِ ومَجِيءِ النَّذِيرِ، وفي قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿فَما لِلظّالِمِينَ مِن نَصِيرٍ﴾ لِلتَّعْلِيلِ، والمُرادُ بِالظُّلْمِ هُنا الكُفْرُ، قِيلَ كانَ الظّاهِرُ فَما لَكَمَ، لَكِنْ عَدَلَ إلى المُظْهَرِ لِتَقْرِيعِهِمْ، والمُرادُ اِسْتِمْرارُ نَفْيِ أنْ يَكُونَ لَهم نَصِيرٌ يَدْفَعُ عَنْهُمُ العَذابَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب