﴿جَنّاتُ عَدْنٍ﴾ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَدْخُلُونَها﴾ ويُؤَيِّدُهُ قِراءَةُ الجَحْدَرِيِّ وهارُونَ عَنْ عاصِمٍ «جَنّاتِ» بِالنَّصْبِ عَلى الِاشْتِغالِ أيْ يَدْخُلُونَ جَنّاتِ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها، واحْتِمالُ جَرِّهِ بَدَلًا مِنَ الخَيْراتِ بِعِيدٌ، وفِيهِ الفَصْلُ بَيْنَ البَدَلِ والمُبْدَلِ مِنهُ بِأجْنَبِيٍّ فَلا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ.
وضَمِيرُ الجَمْعِ لِلَّذِينَ اِصْطَفَيْنا أوْ لِلثَّلاثَةِ، وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ذَلِكَ إشارَةٌ إلى السَّبْقِ بِالخَيْراتِ و﴿جَنّاتُ عَدْنٍ﴾ بَدَلٌ مِنَ الفَضْلِ الَّذِي هو السَّبْقُ، ولَمّا كانَ السَّبْقُ بِالخَيْراتِ سَبَبًا لِنَيْلِ الثَّوابِ جُعِلَ نَفْسُ الثَّوابِ إقامَةً لِلسَّبَبِ مَقامَ المُسَبَّبِ، ثُمَّ أُبْدِلَ مِنهُ، وضَمِيرُ الجَمْعِ لِلسّابِقِ لِأنَّ القَصْدَ إلى الجِنْسِ، فَخُصَّ الوَعْدُ بِالقِسْمِ الأخِيرِ مُراعاةً لِمَذْهَبِ الِاعْتِزالِ، وهو عَلى ما سَمِعْتَ لِلْأقْسامِ الثَّلاثَةِ، وذَلِكَ هو الأظْهَرُ في النَّظْمِ الجَلِيلِ لِيُطابِقَهُ قَوْلُهُ تَعالى بَعْدُ ﴿والَّذِينَ كَفَرُوا لَهم نارُ جَهَنَّمَ﴾ ولِيُناسِبَ حَدِيثَ التَّعْظِيمِ والِاخْتِصاصَ المُدْمَجَ في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ ﴿ثُمَّ أوْرَثْنا الكِتابَ﴾ وإلّا فَأيُّ تَعْظِيمٍ في ذَلِكَ الذِّكْرِ بَعْدَ أنْ لَزِمَ أكْثَرُ المُصْطَفَيْنَ في قِرْنِ الكافِرِينَ ولِيُناسِبَ ذِكْرُ الغَفُورِ بَعْدَ حالِ الظّالِمِ والمُقْتَصِدِ والشَّكُورِ حالَ السّابِقِ، ولِتَعَسُّفِ ما ذَكَرَهُ مِنَ الإعْرابِ وبُعْدِهِ عَنِ الذَّوْقِ وكَيْفَ لا يَكُونُ الأظْهَرَ وقَدْ فَسَّرَهُ كَذَلِكَ أفْضَلُ الرُّسُلِ ومَن أُنْزِلَ عَلَيْهِ هَذا الكِتابُ المُبِينُ عَلى ما مَرَّ آنِفًا، وإلَيْهِ ذَهَبَ الكَثِيرُ مِن أصْحابِهِ الفِخامِ ونُجُومِ الهِدايَةِ بَيْنَ الأنامِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم وعَدَّ مِنهم في البَحْرِ عُمَرَ وعُثْمانَ وابْنَ مَسْعُودٍ وأبا الدَّرْداءِ وأبا سَعِيدٍ وعائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم.
وقَدْ أخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ والبَيْهَقِيُّ في البَعْثِ عَنِ البَراءِ بْنِ عازِبٍ أنَّهُ قالَ بَعْدَ أنْ قَرَأ الآيَةَ: أشْهَدُ عَلى اللَّهِ تَعالى أنَّهُ يُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ جَمِيعًا، وأخْرَجَ غَيْرُ واحِدٍ عَنْ كَعْبٍ أنَّهُ قَرَأ الآيَةَ إلى ﴿لُغُوبٌ﴾ فَقالَ دَخَلُوها ورَبِّ الكَعْبَةِ، وفي لَفْظٍ: كُلُّهم في الجَنَّةِ، ألا تَرى عَلى أثَرِهِ ﴿والَّذِينَ كَفَرُوا لَهم نارُ جَهَنَّمَ﴾ نَعَمْ إنْ أُرِيدَ بِالظّالِمِ لِنَفَسِهِ الكافِرُ يَتَعَذَّرُ رُجُوعُ الضَّمِيرِ إلى ما ذُكِرَ ويَتَعَيَّنُ رُجُوعُهُ إلى السّابِقِ وإلَيْهِ وإلى المُقْتَصِدِ، لِأنَّ المُرادَ بِهِما الجِنْسُ لَكِنْ لا يَنْبَغِي أنْ يُرادَ بَعْدَ هاتِيكَ الأخْبارِ.
وقَرَأ زَرُّ بْنُ حُبَيْشٍ والزُّهْرِيُّ «جَنَّةُ عَدْنٍ» بِالأفْرادِ والرَّفْعِ، وقَرَأ أبُو عَمْرٍو «يُدْخَلُونَها» بِالبِناءِ لِلْمَفْعُولِ، ورُوِيَتْ عَنِ اِبْنِ كَثِيرٍ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿يُحَلَّوْنَ فِيها﴾ خَبَرٌ ثانٍ لِجَنّاتٍ أوْ حالٌ مُقَدَّرَةٌ، وقِيلَ: إنَّها لِقُرْبِ الوُقُوعِ بَعْدَ الدُّخُولِ تُعَدُّ مُقارَنَةً، وقُرِئَ «يَحْلُوْنَ» بِفَتْحِ الياءِ وسُكُونِ الحاءِ وتَخْفِيفِ اللّامِ مِن حَلِيَتِ المَرْأةُ فَهي حالِيَةٌ إذا لَبِسَتِ الحُلِيَّ، ويُقالُ جِيدٌ حالٍ إذا كانَ عَلَيْهِ الحُلِيُّ.
﴿مِن أساوِرَ﴾ جَمْعُ سِوارٍ عَلى ما في الإرْشادِ، وفي القامُوسِ السِّوارُ كَكِتابٍ وغُرابٍ القَلْبُ كالأسْوارِ بِالضَّمِّ جَمْعُهُ أسْوِرَةٌ وأساوِرُ وأساوِرَةُ وسُورٌ وسُؤُورٌ اه، وإطْلاقُ الجَمْعِ عَلى جَمْعِ الجَمْعِ كَثِيرٌ فَلا مُخالَفَةَ، وسِوارُ المَرْأةِ مُعَرَّبٌ كَما قالَ الرّاغِبُ وأصْلُهُ دستواره، ومِن لِلتَّبْعِيضِ أيْ يُحَلَّوْنَ بَعْضَ أساوِرَ كَأنَّهُ بَعْضٌ لَهُ اِمْتِيازٌ وتَفَوُّقٌ عَلى سائِرِ الأبْعاضِ، وجُوِّزَ أنْ تَكُونَ لِلْبَيانِ لِما أنَّ ذِكْرَ التَّحْلِيَةِ مِمّا يُنْبِئُ عَنِ الحُلِيِّ المُبْهَمِ، وقِيلَ: زائِدَةٌ بِناءً عَلى ما يَرى الأخْفَشُ مِن جَوازِ زِيادَتِها في الإثْباتِ، وقِيلَ: نَعْتٌ لِمَفْعُولٍ مَحْذُوفٍ لِ ﴿يُحَلَّوْنَ﴾ وأنَّهُ بِمَعْنى يَلْبَسُونَ ومِن في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿مِن ذَهَبٍ﴾ (p-199)بَيانِيَّةٌ ﴿ولُؤْلُؤًا﴾ عَطْفٌ عَلى مَحَلِّ ﴿مِن أساوِرَ﴾ أيْ ويُحَلَّوْنَ فِيها لُؤْلُؤًا.
أخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ والحاكِمُ وصَحَّحَهُ والبَيْهَقِيُّ في البَعْثِ عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ تَلا الآيَةَ فَقالَ: إنَّ عَلَيْهِمُ التِّيجانَ إنَّ أدْنى لُؤْلُؤَةٍ مِنها لَتُضِيءُ ما بَيْنَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ».
وقِيلَ: عُطِفَ عَلى المَفْعُولِ المَحْذُوفِ أوْ مَنصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ ﴿يُحَلَّوْنَ﴾ أيْ ويُؤْتَوْنَ لُؤْلُؤًا.
وقَرَأ جَمْعٌ مِنَ السَّبْعَةِ «لُؤْلُؤٍ» بِالجَرِّ عَطْفًا عَلى ﴿ذَهَبٍ﴾ أيْ يُحَلَّوْنَ فِيها بَعْضَ أساوِرَ مِن مَجْمُوعِ ذَهَبٍ ولُؤْلُؤٍ بِأنْ تُنَظَّمَ حَبّاتِ ذَهَبٍ مَعَ حَبّاتِ لُؤْلُؤٍ ويُتَّخَذَ مِن ذَلِكَ سِوارٌ كَما هو مَعْهُودٌ اليَوْمَ في بِلادِنا أوْ بِأنْ يُرَصَّعَ الذَّهَبُ بِاللُّؤْلُؤِ كَما يُرَصَّعُ بِبَعْضِ الأحْجارِ، وقِيلَ: أيْ مِن ذَهَبٍ في صَفاءِ اللُّؤْلُؤِ، وفِيهِ ما فِيهِ مِنَ الكَدَرِ.
ولَعَلَّ مَن يَقُولُ بِأنَّهُ لا اِشْتِراكَ بَيْنَ ذَهَبِ الدُّنْيا ولُؤْلُؤِها وذَهَبِ الآخِرَةِ ولُؤْلُؤِها إلّا بِالِاسْمِ لا يَلْتَزِمُ النَّظْمَ ولا التَّرْصِيعَ كَما لا يَخْفى، وقُرِئَ «لُؤْلُؤًا» بِتَخْفِيفِ الهَمْزَةِ الأُولى.
﴿ولِباسُهم فِيها حَرِيرٌ﴾ أيْ إبْرَيْسِمٌ مَحْضٌ كَما في (مَجْمَعِ البَيانِ)، وقالَ الرّاغِبُ: مارِقٌ مِنَ الثِّيابِ، وتَغْيِيرُ الأُسْلُوبِ حَيْثُ لَمْ يَقُلْ ويَلْبَسُونَ فِيها حَرِيرًا قِيلَ لِلْإيذانِ بِأنَّ ثُبُوتَ اللِّباسِ لَهم أمْرٌ مُحَقَّقٌ غَنِيٌّ عَنِ البَيانِ إذْ لا يُمْكِنُ عَراؤُهم عَنْهُ، وإنَّما المُحْتاجُ إلى البَيانِ أنْ لِباسَهم ماذا بِخِلافِ الأساوِرِ واللُّؤْلُؤِ فَإنَّها لَيْسَتْ مِنَ اللَّوازِمِ الضَّرُورِيَّةِ، ولِذا لا يَلْزَمُ العَدْلُ بَيْنَ الزَّوْجاتِ فِيها، فَجُعِلَ بَيانُ تَحْلِيَتِهِمْ مَقْصُورًا بِالذّاتِ، ولَعَلَّ هَذا هو الباعِثُ عَلى تَقْدِيمِ التَّحْلِيَةِ عَلى بَيانِ حالِ اللِّباسِ، وقِيلَ: إنَّ ذَلِكَ لِلدَّلالَةِ عَلى أنَّ الحَرِيرَ ثِيابُهُمِ المُعْتادَةُ مَعَ المُحافَظَةِ عَلى هَيْئَةِ الفَواصِلِ، ولَيْسَ بِذاكَ.
{"ayah":"جَنَّـٰتُ عَدۡنࣲ یَدۡخُلُونَهَا یُحَلَّوۡنَ فِیهَا مِنۡ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبࣲ وَلُؤۡلُؤࣰاۖ وَلِبَاسُهُمۡ فِیهَا حَرِیرࣱ"}