الباحث القرآني

﴿ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنّاسِ مِن رَحْمَةٍ﴾ أيْ ما يُطْلِقُها ويُرْسِلُها فالفَتْحُ مَجازٌ عَنِ الإرْسالِ بِعَلاقَةِ السَّبَبِيَّةِ فَإنَّ فَتْحَ المُغْلَقِ سَبَبٌ لِإطْلاقِ ما فِيهِ وإرْسالِهِ، ولِذا قُوبِلَ بِالإمْساكِ والإطْلاقِ كِنايَةً عَنِ الإعْطاءِ، كَما قِيلَ أطْلَقَ السُّلْطانُ لِلْجُنْدِ أرْزاقَهم فَهو كِنايَةٌ مُتَفَرِّعَةٌ عَلى المَجازِ. وفِي اِخْتِيارِ لَفْظِ الفَتْحِ رَمْزٌ إلى أنَّ الرَّحْمَةَ مِن أنْفَسِ الخَزائِنِ وأعَزِّها مَنالًا، وتَنْكِيرُها لِلْإشاعَةِ والإبْهامِ، أيْ أيَّ شَيْءٍ يَفْتَحُ اللَّهُ تَعالى مِن خَزائِنِ رَحْمَتِهِ أيِّ رَحْمَةٍ كانَتْ مِن نِعْمَةٍ وصِحَّةٍ وأمْنٍ وعِلْمٍ وحِكْمَةٍ إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِمّا (p-165)لا يُحاطُ بِهِ حَتّى أنَّ عُرْوَةَ كانَ يَقُولُ كَما أخْرَجَ اِبْنُ المُنْذِرِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْهُ في رُكُوبِ المَحْمِلِ هي واَللَّهِ رَحْمَةٌ فُتِحَتْ لِلنّاسِ ثُمَّ يَقُولُ ﴿ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنّاسِ مِن رَحْمَةٍ﴾ الخ. وأخْرَجَ اِبْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ الرَّحْمَةُ المَطَرُ، وعَنِ اِبْنِ عَبّاسٍ التَّوْبَةُ والمُرادُ التَّمْثِيلُ، والجارُّ والمَجْرُورُ في مَوْضِعِ الحالِ لا في مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِأنَّ اِسْمَ الشَّرْطِ لا يُوصَفُ. ﴿فَلا مُمْسِكَ لَها﴾ أيْ فَلا أحَدَ يَقْدِرُ عَلى إمْساكِها ﴿وما يُمْسِكْ﴾ أيْ أيَّ شَيْءٍ يُمْسِكُ ﴿فَلا مُرْسِلَ لَهُ﴾ أيْ فَلا أحَدَ يَقْدِرُ عَلى إرْسالِهِ، واخْتِلافُ الضَّمِيرَيْنِ لِما أنَّ مَرْجِعَ الأوَّلِ مُبَيَّنٌ بِالرَّحْمَةِ ومَرْجِعَ الثّانِي مُطْلَقٌ يَتَناوَلُها وغَيْرُها، وفي ذَلِكَ مَعَ تَقْدِيمِ أمْرِ فَتْحِ الرَّحْمَةِ إشْعارٌ بِأنَّ رَحْمَتَهُ تَعالى سَبَقَتْ غَضَبَهُ عَزَّ وجَلَّ كَما ورَدَ في الحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وقِيلَ المُرادُ وما يُمْسِكُ مِن رَحْمَةٍ إلّا أنَّهُ حَذَفَ المُبَيِّنَ لِدَلالَةِ ما قَبْلُ عَلَيْهِ، والتَّذْكِيرُ بِاعْتِبارِ اللَّفْظِ وعَدَمِ ما يُقَوِّي اِعْتِبارَ المَعْنى في التَّلَفُّظِ، وأُيِّدَ بِأنَّهُ قُرِئَ «فَلا مُرْسِلَ لَها» بِتَأْنِيثِ الضَّمِيرِ. ﴿مِن بَعْدِهِ﴾ أيْ مِن بَعْدِ إمْساكِهِ ﴿وهُوَ العَزِيزُ﴾ الغالِبُ عَلى كُلِّ ما يَشاءُ مِنَ الأُمُورِ الَّتِي مِن جُمْلَتِها الفَتْحُ والإمْساكُ ﴿الحَكِيمُ﴾ الَّذِي يَفْعَلُ كُلَّ ما يَفْعَلُ حَسْبَما تَقْتَضِيهِ الحِكْمَةُ والمَصْلَحَةُ، والجُمْلَةُ تَذْيِيلٌ مُقَرِّرٌ لِما قَبْلَها ومُعْرِبٌ عَنْ كَوْنِ كُلٍّ مِنَ الفَتْحِ والإمْساكِ بِمُوجِبِ الحِكْمَةِ الَّتِي يَدُورُ عَلَيْها أمْرُ التَّكْوِينِ، وما أدْعى هَذِهِ الآيَةِ إلى الِانْقِطاعِ إلى اللَّهِ تَعالى والإعْراضِ عَمّا سِواهُ عَزَّ وجَلَّ وإراحَةِ البالِ عَنِ التَّخَيُّلاتِ المُوجِبَةِ لِلتَّهْوِيشِ وسَهَرِ اللِّيالِ. وقَدْ أخْرَجَ اِبْنُ المُنْذِرِ عَنْ عامِرِ بْنِ عَبْدِ قَيْسٍ: قالَ أرْبَعُ آياتٍ مِن كِتابِ اللَّهِ تَعالى إذا قَرَأْتُهُنَّ فَما أُبالِي ما أُصْبِحُ عَلَيْهِ وأُمْسِي ﴿ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنّاسِ مِن رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ﴾، ﴿وإنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إلا هو وإنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رادَّ لِفَضْلِهِ﴾ [يُونُسَ: 107] و﴿سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا﴾ [اَلطَّلاقِ: 7] ﴿وما مِن دابَّةٍ في الأرْضِ إلا عَلى اللَّهِ رِزْقُها﴾ [هُودٍ: 6]
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب