الباحث القرآني

﴿أفْتَرى عَلى اللَّهِ كَذِبًا﴾ فِيما يُنْسَبُ إلَيْهِ مِن أمْرِ البَعْثِ ﴿أمْ بِهِ جِنَّةٌ﴾ أيْ جُنُونٌ يُوهِمُهُ ذَلِكَ ويُلْقِيهِ عَلى لِسانِهِ، واسْتَدَلَّ بِهِ أبُو عَمْرٍو الجاحِظُ عَلى ما ذَهَبَ إلَيْهِ مِن أنَّ صِدْقَ الخَبَرِ مُطابَقَتُهُ لِلْواقِعِ مَعَ الِاعْتِقادِ، وكَذِبَهُ عَدَمُها مَعَهُ، وغَيْرَهُما لَيْسَ بِصِدْقٍ ولا كَذِبٍ، وذَلِكَ أنَّ الكُفّارَ وهم عُقَلاءُ مِن أهْلِ اللِّسانِ عارِفُونَ بِاللُّغَةِ حَصَرُوا أخْبارَ النَّبِيِّ ﷺ بِالبَعْثِ في الِافْتِراءِ والأخْبارُ حالُ الجَنَّةِ عَلى سَبِيلِ مَنعِ الخُلُوِّ بِالمَعْنى الأعَمِّ ولا شَكَّ أنَّ المُرادِ بِالثّانِي غَيْرُ الكَذِبِ لِأنَّهُ قَسِيمُهُ وغَيْرُ الصِّدْقِ لِأنَّهُمُ اِعْتَقَدُوا عَدَمَهُ، وأيْضًا لا دَلالَةَ لِقَوْلِهِمْ: ﴿أمْ بِهِ جِنَّةٌ﴾ عَلى مَعْنى أمْ صِدْقٌ بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ فَيَجِبُ أنْ يَكُونَ بَعْضُ الخَبَرِ ما لَيْسَ بِصادِقٍ ولا كاذِبٍ لِيَكُونَ ذَلِكَ مِنهُ بِزَعْمِهِمْ وإنْ كانَ صادِقًا في نَفْسِ الأمْرِ، وتَوْضِيحُهُ أنَّ ظاهِرَ كَلامِهِمْ هَذا يَدُلُّ عَلى طَلَبِ تَعْيِينِ أحَدِ حالَيِ النَّبِيِّ ﷺ المُسْتَوِيَيْنِ في اِعْتِقادِ المُتَكَلِّمِ حِينَ الإخْبارِ بِالبَعْثِ وهو يَسْتَلْزِمُ تَعْيِينَ أحَدِ حالَيِ الخَبَرِ، والِاسْتِفْهامُ هاهُنا لِلتَّقْرِيرِ فَيُفِيدُ ثُبُوتَ أحَدِ الحالَيْنِ لِلْخَبَرِ ولا شَكَّ أنَّ ثُبُوتَ أحَدِهِما لا يُثْبِتُ الواسِطَةَ ما لَمْ يُعْتَبَرْ تَنافِيهِما وكَذا تَنافِيهِما في الجَمْعِ لا يُثْبِتُها بَلْ لا بُدَّ مِن تَنافِيهِما في الِارْتِفاعِ، يَعْنِي أنَّ خَبَرَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بِالبَعْثِ لا يَخْلُو عَنْ أحَدِ الأمْرَيْنِ المُتَنافِيَيْنِ، فَيَكُونُ المُرادِ بِالثّانِي ما هو مُنافٍ وقَسِيمٌ لِلْأوَّلِ، ومَعْلُومٌ أنَّهُ غَيْرُ الصِّدْقِ، فَلَيْسَ الصِّدْقُ عِبارَةً عَنْ مُطابَقَةِ الواقِعِ فَقَطْ والكَذِبُ عَنْ عَدَمِ المُطابَقَةِ لَهُ كَما يَقُولُ الجُمْهُورُ، أوْ عَنْ مُطابَقَةِ الِاعْتِقادِ لَهُ وعَدَمِ مُطابَقَتِهِ لَهُ كَما يَقُولُ النَّظّامُ فَيَكُونانِ عِبارَتَيْنِ عَنْ مُطابَقَتِهِما وعَدَمِ مُطابَقَتِهِما وتَثْبُتُ الواسِطَةُ. وأُجِيبَ بِأنَّ مَعْنى ﴿أمْ بِهِ جِنَّةٌ﴾ أمْ لَمْ يَفْتَرِ فَعَبَّرَ عَنْ عَدَمِ الِافْتِراءِ بِالجِنَّةِ لِأنَّ المَجْنُونَ يَلْزَمُهُ أنْ لا اِفْتِراءَ لَهُ كَما دَلَّ عَلَيْهِ نَقْلُ الأئِمَّةِ، واسْتِعْمالُ العَرَبِ الكَذِبَ عَنْ عَمْدٍ ولا عَمْدَ لِلْمَجْنُونِ فالثّانِي لَيْسَ قَسِيمًا لِلْكَذِبِ بَلْ لِما هو أخَصُّ مِنهُ، أعْنِي الِافْتِراءَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ حَصْرًا لِلْخَبَرِ الكاذِبِ بِزَعْمِهِمْ في نَوْعَيْهِ الكَذِبِ عَنْ عَمْدٍ والكَذِبِ لا عَنْ عَمْدٍ، ولَوْ سُلِّمَ أنَّ الِافْتِراءَ بِمَعْنى الكَذِبِ مُطْلَقًا فالمَعْنى أقْصِدُ الِافْتِراءَ أيِ الكَذِبَ أمْ لَمْ يَقْصِدْ بَلْ كَذِبَ بِلا قَصْدٍ لِما بِهِ مِنَ الجِنَّةِ. وقِيلَ: المَعْنى اِفْتَرى أمْ لَمْ يَفْتَرِ بَلْ بِهِ جُنُونٌ وكَلامُ المَجْنُونِ لَيْسَ بِخَبَرٍ لِأنَّهُ لا قَصْدَ لَهُ يُعْتَدُّ بِهِ ولا شُعُورَ فَيَكُونُ مُرادُهم حَصْرُهُ في كَوْنِهِ خَبَرًا كاذِبًا أوْ لَيْسَ بِخَبَرٍ فَلا يَثْبُتُ خَبَرُ لا يَكُونُ صادِقًا ولا كاذِبًا، ونُوقِشَ فِيهِ كَما لا يَخْفى عَلى مَن راجَعَ كُتُبَ المَعانِي. بَقِيَ هاهُنا بَحْثٌ وهو أنَّ الطِّيبِيَّ أشارَ إلى أنَّ مَبْنى الِاسْتِدْلالِ كَوْنُ ( أمْ ) مُتَّصِلَةً واعْتَرَضَهُ بِأنَّ الظّاهِرَ كَوْنُها مُنْقَطِعَةً إمّا لَفْظًا فَلِاخْتِلافِ مَدْخُولِ الهَمْزَةِ وأمْ، وإمّا مَعْنًى فَلِأنَّ الكَفَرَةَ المُعانِدِينَ لَمّا أخْرَجُوا قَوْلَهم هَلْ نَدُلُّكم عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكم مَخْرَجَ الظَّنِّ والسُّخْرِيَةِ مُتَجاهِلِينَ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ وبِكَلامِهِ مِن إثْباتِ الحَشْرِ والنَّشْرِ وعَقَّبُوهُ بِقَوْلِهِمْ ﴿أفْتَرى عَلى اللَّهِ كَذِبًا﴾ أضْرَبُوا عَنْهُ إلى ما هو أبْلَغُ مِنهُ تَرَقِّيًا مِنَ الأهْوَنِ إلى الأغْلَظِ مِن نِسْبَةِ الجُنُونِ إلَيْهِ وحاشاهُ ﷺ فَكَأنَّهم قالُوا: دَعَوْا حَدِيثَ الِافْتِراءِ فَإنَّ هاهُنا ما هو أطْعَمُ مِنهُ لِأنَّ العاقِلَ كَيْفَ يُحَدِّثُ بِإنْشاءِ خَلْقٍ جَدِيدٍ بَعْدَ الرُّفاتِ والتُّرابِ، ولَمّا كانَ التَّعْوِيلُ عَلى ما بَعْدَ الإضْرابِ مِن إثْباتِ الجُنُونِ أُوقِعَ الإضْرابُ الثّانِي في كَلامِهِ تَعالى رَدًّا لِقَوْلِهِمْ ونَفْيًا لِلْجُنُونِ عَنْهُ صَلَواتُ اللَّهِ (p-111)تَعالى وسَلامُهُ عَلَيْهِ وإثْباتًا لَهُ فِيهِمْ إلى آخِرِ ما قالَ، ولَمْ يَرْتَضِ ذَلِكَ صاحِبُ الكَشْفِ فَقالَ في كَلامِ الكَشّافِ إشارَةٌ إلى أنَّ أمْ مُتَّصِلَةٌ: وفائِدَةُ العُدُولِ عَنِ الفِعْلِ في جُنَّ إيماءٌ إلى أنَّ الثّابِتَ هو ذَلِكَ الشِّقُّ كَأنَّهُ قِيلَ: أعَنِ اِفْتِراءٍ هَذا الكَذِبُ العُجابُ أمْ جُنُونٍ، والتَّقابُلُ لِأنَّ المَجْنُونَ لا اِفْتِراءَ لَهُ فالِاسْتِدْلالُ عَلى الِانْقِطاعِ بِتَخالُفِ العَدِيلِينَ ساقِطٌ، وأمّا التَّرَقِّي مِنَ الِاتِّصالِ أيْضًا عَلى ما لَوَّحَ إلَيْهِ بِوَجْهٍ ألْطَفُ اه. وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّ ظاهِرَ الِاسْتِدْلالِ يَقْتَضِي الِاتِّصالَ لَكِنْ قالَ الخَفاجِيُّ: إنَّ كَوْنَ الِاسْتِدْلالِ مَبْنِيًّا عَلى الِاتِّصالِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ فَتَأمَّلْ، والظّاهِرُ أفْتَرى عَلى اللَّهِ كَذِبًا أمْ بِهِ جِنَّةٌ مِن قَوْلِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ. وفي البَحْرِ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مِن كَلامِ السّامِعِ المُجِيبِ لِمَن قالَ هَلْ نَدُلُّكم تَرَدُّدٌ بَيْنَ شَيْئَيْنِ ولَمْ يُجْزَمْ بِأحَدِهِما لِما في كُلٍّ مِنَ الفَظاعَةِ. ﴿بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ في العَذابِ والضَّلالِ البَعِيدِ﴾ إبْطالٌ مِن جِهَتِهِ تَعالى لِما قالُوا بِقَسِيمَيْهِ وإثْباتُ ما هو أشَدُّ وأفْظَعُ لَهم ولِذا وضَعَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ تَوْبِيخًا لَهم وإيماءً إلى سَبَبِ الحُكْمِ بِما بَعْدَهُ كَأنَّهُ قِيلَ: لَيْسَ الأمْرُ كَما زَعَمُوا بَلْ هم في كَمالِ اِخْتِلالِ العَقْلِ وغايَةِ الضَّلالِ عَنِ الفَهْمِ والإدْراكِ الَّذِي هو الجُنُونُ حَقِيقَةً وفِيما يُؤَدِّي إلَيْهِ ذَلِكَ مِنَ العَذابِ حَيْثُ أنْكَرُوا حِكْمَةَ اللَّهِ تَعالى في خَلْقِ العالَمِ وكَذَّبُوهُ عَزَّ وجَلَّ في وعْدِهِ ووَعِيدِهِ وتَعَرَّضُوا لِسَخَطِهِ سُبْحانَهُ، وتَقْدِيمُ العَذابِ عَلى ما يُوجِبُهُ ويَسْتَتْبِعُهُ لِلْمُسارَعَةِ إلى بَيانِ ما يَسُوءُهم ويَفُتُّ في أعَضادِهِمْ والإشْعارِ بِغايَةِ سُرْعَةِ تَرَتُّبِهِ عَلَيْهِ كَأنَّهُ يُسابِقُهُ فَيَسْبِقُهُ، ووَصْفُ الضَّلالِ بِالبَعِيدِ الَّذِي هو وصْفُ الضّالِّ لِلْمُبالَغَةِ لِأنَّ ضَلالَهم إذا كانَ بَعِيدًا في نَفْسِهِ فَكَيْفَ بِهِمْ أنْفُسِهِمْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب