الباحث القرآني

﴿قُلْ إنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ ويَقْدِرُ لَهُ﴾ أيْ يُوَسِّعُهُ سُبْحانَهُ عَلَيْهِ تارَةً ويُضَيِّقُهُ عَلَيْهِ أُخْرى فَلا تَخْشَوُا الفَقْرَ وأنْفِقُوا في سَبِيلِ اللَّهِ تَعالى وتَقَرَّبُوا لَدَيْهِ عَزَّ وجَلَّ بِأمْوالِكم (p-150)وتَعَرَّضُوا لِنَفَحاتِهِ جَلَّ وعَلا فَمَساقُ الآيَةِ لِلْوَعْظِ والتَّزْهِيدِ في الدُّنْيا والحَضِّ عَلى التَّقَرُّبِ إلَيْهِ تَعالى بِالإنْفاقِ، وهَذا بِخِلافِ مَساقِ نَظِيرِها المُتَقَدِّمِ، فَإنَّهُ لِلرَّدِّ عَلى الكَفَرَةِ كَما سَمِعْتَ، وأيْضًا ما سَبَقَ عامٌّ وما هُنا خاصٌّ في البَسْطِ والتَّضْيِيقِ لِشَخْصٍ واحِدٍ بِاعْتِبارِ وقْتَيْنِ كَما يُشْعِرُ بِهِ قَوْلُهُ تَعالى هُنا ( لَهُ ) وعَدَمُ قَوْلِهِ هُناكَ، والضَّمِيرُ وإنْ كانَ في مَوْضِعٍ مِنَ المُبْهَمِ إلّا أنْ سَبْقَ النَّظِيرِ خالِيًا عَنْ ذَلِكَ وذِكْرَ هَذا بَعْدُ مُشْتَمِلًا عَلَيْهِ كالقَرِينَةِ عَلى إرادَةِ ما ذُكِرَ فَلا تَغْفُلْ. ﴿وما أنْفَقْتُمْ مِن شَيْءٍ﴾ يُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ ما شَرْطِيَّةً في مَوْضِعِ نَصْبٍ بِ أنْفَقْتُمْ وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَهُوَ يُخْلِفُهُ﴾ جَوابُ الشَّرْطِ، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ بِمَعْنى الَّذِي في مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِداءِ، والجُمْلَةُ بَعْدُ خَبَرُهُ، ودَخَلَتِ الفاءُ لِتَضَمُّنِ المُبْتَدَأِ مَعْنى الشَّرْطِ، و﴿مِن شَيْءٍ﴾ تَبْيِينٌ عَلى الِاحْتِمالَيْنِ، ومَعْنى ﴿يُخْلِفُهُ﴾ يُعْطِي بَدَلَهُ وما يَقُومُ مَقامَهُ عِوَضًا عَنْهُ وذَلِكَ إمّا في الدُّنْيا بِالمالِ كَما هو الظّاهِرُ أوْ بِالقَناعَةِ الَّتِي هي كَنْزٌ لا يَفْنى كَما قِيلَ، وإمّا في الآخِرَةِ بِالثَّوابِ الَّذِي كُلُّ خَلَفٍ دُونَهُ وخَصَّهُ بَعْضُهم بِالآخِرَةِ، أخْرَجَ الفِرْيابِيُّ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ مُجاهِدٍ قالَ: إذا كانَ لِأحَدِكم شَيْءٌ فَلْيَقْتَصِدْ ولا يَتَأوَّلْ هَذِهِ الآيَةَ ﴿وما أنْفَقْتُمْ مِن شَيْءٍ فَهو يُخْلِفُهُ﴾ فَإنَّ الرِّزْقَ مَقْسُومٌ، ولَعَلَّ ما قُسِمَ لَهُ قَلِيلٌ وهو يُنْفِقُ المُوسَعُ عَلَيْهِ، وأخْرَجَ مَن عَدا الفِرْيابِيِّ مِنَ المَذْكُورِينَ عَنْهُ أنَّهُ قالَ في الآيَةِ: أيَّ ما كانَ مِن خَلَفٍ فَهو مِنهُ تَعالى، ورُبَّما أنْفَقَ الإنْسانُ مالَهُ كُلَّهُ في الخَيْرِ ولَمْ يُخْلِفْ حَتّى يَمُوتَ، ومِثْلُها: ﴿وما مِن دابَّةٍ في الأرْضِ إلا عَلى اللَّهِ رِزْقُها﴾ [هُودٍ: 6] يَقُولُ ما آتاها مِن رِزْقٍ فَمِنهُ تَعالى ورُبَّما لَمْ يَرْزُقْها حَتّى تَمُوتَ، والأوَّلُ أظْهَرُ لِأنَّ الآيَةَ في الحَثِّ عَلى الإنْفاقِ وأنَّ البَسْطَ والقَدَرَ إذا كانا مِن عِنْدِهِ عَزَّ وجَلَّ فَلا يَنْبَغِي لِمَن وسَّعَ عَلَيْهِ أنْ يَخافَ الضَّيْعَةَ بِالإنْفاقِ ولا لِمَن قَدَّرَ عَلَيْهِ زِيادَتَها، وقَوْلَهُ تَعالى: ﴿وهُوَ خَيْرُ الرّازِقِينَ﴾ تَذْيِيلٌ يُؤَيِّدُ ذَلِكَ كَأنَّهُ قِيلَ: فَيُرْزَقُهُ مِن حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ. وقَدْ أخْرَجَ الشَّيْخانِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: ««قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ما مِن يَوْمٍ يُصْبِحُ العِبادُ فِيهِ إلّا مَلِكانِ يَنْزِلانِ فَيَقُولُ أحَدُهُما اللَّهُمَّ أعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا ويَقُولُ الآخَرُ اللَّهُمَّ أعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا»». وأخْرَجَ البَيْهَقِيُّ في (شُعَبِ الإيمانِ) عَنْ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: ««كُلَّ ما أنْفَقَ العَبْدُ نَفَقَةً فَعَلى اللَّهِ تَعالى خَلَفُها ضامِنًا إلّا نَفَقَةً في بُنْيانٍ أوْ مَعْصِيَةٍ»» . وأخْرَجَ البُخارِيُّ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: ««قالَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ أنْفِقْ يا اِبْنَ آدَمَ أُنْفِقْ عَلَيْكَ»». وأخْرَجَ الحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ في (نَوادِرِ الأُصُولِ) عَنْهُ قالَ: ««قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إنَّ المَعُونَةَ تَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ عَلى قَدْرِ المَئُونَةِ»». وفِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ عَنِ الزُّبَيْرِ قالَ اللَّهُ تَبارَكَ وتَعالى: ««أنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ وأوْسِعْ أُوسِعْ عَلَيْكَ ولا تُضَيِّقْ أُضَيِّقْ عَلَيْكَ ولا تُصِرَّ فَأصُرَّ عَلَيْكَ ولا تُخَزِّنْ فَأُخَزِّنْ عَلَيْكَ، إنَّ بابَ الرِّزْقِ مَفْتُوحٌ مِن فَوْقِ سَبْعِ سَماواتٍ مُتَواصِلٌ إلى العَرْشِ لا يُغْلَقُ لَيْلًا ولا نَهارًا يُنَزِّلُ اللَّهُ تَعالى مِنهُ الرِّزْقَ عَلى كُلِّ اِمْرِئٍ بِقَدْرِ نِيَّتِهِ وعَطِيَّتِهِ وصَدَقَتِهِ ونَفَقَتِهِ، فَمَن أكْثَرَ أُكْثِرْ لَهُ ومَن أقَلَّ أُقِلَّ لَهُ ومَن أمْسَكَ أُمْسِكْ عَلَيْهِ، يا زُبَيْرُ فَكُلْ وأطْعِمْ ولا تُوكِ فَيُوكى عَلَيْكَ ولا تُحْصِ فَيُحْصى عَلَيْكَ ولا تَقْتُرْ فَيُقْتَرْ عَلَيْكَ ولا تُعَسِّرْ فَيُعَسَّرْ عَلَيْكَ»» الحَدِيثَ. ومَعْنى الرّازِقِينَ المُوَصِّلِينَ لِلرِّزْقِ والمُوهِبِينَ لَهُ فَيُطْلَقُ الرّازِقُ حَقِيقَةً عَلى اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ وعَلى غَيْرِهِ ويُشْعِرُ بِذَلِكَ ﴿فارْزُقُوهم مِنهُ﴾ [اَلنِّساءِ: 8] نَعَمْ لا يُقالُ لِغَيْرِهِ سُبْحانَهُ رازِقٌ فَلا إشْكالَ في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿وهُوَ خَيْرُ الرّازِقِينَ﴾ ووَجْهُ الأخْيَرِيَّةِ في غايَةِ الظُّهُورِ، وقِيلَ إطْلاقُ الرّازِقِ عَلى غَيْرِهِ تَعالى مَجازٌ بِاعْتِبارِ أنَّهُ واسِطَةٌ في إيصالِ رِزْقِهِ تَعالى، فَهو رازِقٌ صُورَةً فاسْتُشْكِلَ أمْرُ التَّفْضِيلِ بِأنَّهُ لا بُدَّ مِن مُشارَكَةِ المُفَضِّلِ المُفَضَّلَ عَلَيْهِ في أصْلِ الفِعْلِ حَقِيقَةً لا صُورَةً. (p-151) وأجابَ الآمِدِيُّ بِأنَّ المَعْنى خَيْرُ مَن تَسَمّى بِهَذا الِاسْمِ وأُطْلِقَ عَلَيْهِ حَقِيقَةً أوْ مَجازًا وهو ضَرْبٌ مِن عُمُومِ المَجازِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب