الباحث القرآني

﴿فَلَمّا قَضَيْنا عَلَيْهِ المَوْتَ﴾ قِيلَ أيْ أوْقَعَنا عَلى سُلَيْمانَ المَوْتَ حاكِمِينَ بِهِ عَلَيْهِ، وفي (مَجْمَعِ البَيانِ) أيْ حَكَمْنا عَلَيْهِ بِالمَوْتِ، وقِيلَ: أوْجَبْناهُ عَلَيْهِ، وفي البَحْرِ أيْ أنْفَذْنا عَلَيْهِ ما قَضَيْنا عَلَيْهِ في الأزَلِ مِنَ المَوْتِ وأخْرَجْناهُ إلى حَيِّزِ الوُجُودِ، وفِيهِ تَكَلُّفٌ، وأيًّا ما كانَ فَلَيْسَ المُرادُ بِالقَضاءِ أخا القَدْرِ، فَتَدَبَّرْ، ولَمّا شَرْطِيَّةٌ ما بَعْدَها شَرْطُها وجَوابُها قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ما دَلَّهم عَلى مَوْتِهِ إلا دابَّةُ الأرْضِ﴾ واسْتُدِلَّ بِذَلِكَ عَلى حَرْفِيَّتِها وفِيهِ نَظَرٌ، وضَمِيرُ ﴿دَلَّهُمْ﴾ عائِدٌ عَلى الجِنِّ الَّذِينَ كانُوا يَعْمَلُونَ لَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ، وقِيلَ: عائِدٌ عَلى آلِ سُلَيْمانَ، ويَأْباهُ بِحَسَبِ الظّاهِرِ قَوْلُهُ تَعالى بَعْدَ ﴿تَبَيَّنَتِ الجِنُّ﴾ والمُرادُ بِدابَّةِ الأرْضِ الأرَضَةُ بِفَتَحاتٍ وهي دُوَيْبَةٌ تَأْكُلُ الخَشَبَ ونَحْوَهُ وتُسَمّى سُرْفَةٌ بِضَمِّ السِّينِ وإسْكانِ الرّاءِ المُهْمَلَةِ وبِالفاءِ، وفي حَياةِ الحَيَوانِ عَنِ اِبْنِ السِّكِّيتِ أنَّها دُوَيْبَةٌ سَوْداءُ الرَّأْسِ وسائِرُها أحْمَرُ تَتَّخِذُ لِنَفْسِها بَيْتًا مُرَبَّعًا مِن دِقاقِ العِيدانِ تَضُمُّ بَعْضَها إلى بَعْضٍ بِلُعابِها ثُمَّ تَدْخُلُ فِيهِ وتَمُوتُ، وفي المَثَلِ أصْنَعُ مِن سُرْفَةٍ، وسَمّاها في البَحْرِ بِسُوسَةِ الخَشَبِ، والأرْضُ عَلى ما ذَهَبَ إلَيْهِ أبُو حاتِمٍ وجَماعَةٌ مَصْدَرُ أرَضَتِ الدّابَّةُ الخَشَبَ تَأْرِضُهُ إذا أكَلَتْهُ مِن بابِ ضَرَبَ يَضْرِبُ فَإضافَةُ ﴿دابَّةُ﴾ إلَيْهِ مِن إضافَةِ الشَّيْءِ إلى فِعْلِهِ، ويُؤَيِّدُ ذَلِكَ قِراءَةُ اِبْنِ عَبّاسٍ والعَبّاسِ بْنِ الفَضْلِ (اَلْأرَضِ) بِفَتْحِ الرّاءِ لِأنَّهُ مَصْدَرُ أرِضَ مِن بابِ عَلِمَ المُطاوِعُ لِ أرَضَ مِن بابِ ضَرَبَ، يُقالُ أرَضَتِ الدّابَّةُ الخَشَبَ بِالفَتْحِ فَأرِضَ بِالكَسْرِ كَما يُقالُ أكَلَتِ القَوادِحُ الأسْنانَ أكْلًا فَأكِلَتْ أكْلًا، فالأرْضُ بِالسُّكُونِ الأكْلُ والأرَضُ بِالفَتْحِ التَّأثُّرُ مِن ذَلِكَ الفِعْلِ، وقَدْ يُفَسَّرُ الأوَّلُ بِالتَّأثُّرِ الَّذِي هو الحاصِلُ بِالمَصْدَرِ لِتَتَوافَقَ القِراءَتانِ، وقِيلَ الأرَضُ بِالفَتْحِ جَمْعُ أرَضَةٍ، وإضافَةُ ﴿دابَّةُ﴾ إلَيْهِ مِن إضافَةِ العامِّ إلى الخاصِّ، وقِيلَ: إنَّ الأرْضَ بِالسُّكُونِ بِمَعْناها المَعْرُوفِ، وإضافَةُ ﴿دابَّةُ﴾ إلَيْها قِيلَ لِأنَّ فِعْلَها في الأكْثَرِ فِيها، وقِيلَ لِأنَّها تُؤَثِّرُ في الخَشَبِ ونَحْوِهِ كَما تُؤَثِّرُ الأرْضُ فِيهِ إذا دُفِنَ فِيها، وقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، والأوْلى التَّفْسِيرُ الأوَّلُ وإنْ لَمْ تَجِئِ الأرْضُ في القُرْآنِ بِذَلِكَ المَعْنى في غَيْرِ هَذا المَوْضِعِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿تَأْكُلُ مِنسَأتَهُ﴾ في مَوْضِعِ الحالِ مِن ﴿دابَّةُ﴾ أيْ آكِلَةً مِنسَأتَهُ، والمِنسَأةُ العَصا مِن نَسَأتِ البَعِيرَ إذا طَرَدَتْهُ لِأنَّها يُطْرَدُ بِها، أوْ مِن نَسَأتْهُ إذا أخَّرَتْهُ ومِنهُ النَّسِيءُ، ويَظْهَرُ مِن هَذا أنَّها العَصا الكَبِيرَةُ الَّتِي تَكُونُ مَعَ الرّاعِي وأضْرابِهِ. وقَرَأ نافِعٌ وابْنُ عامِرٍ وجَماعَةٌ «مِنساتَهُ» بِألِفٍ وأصْلُهُ (مِنسَأتَهُ) فَأُبْدِلَتِ الهَمْزَةُ ألِفًا بَدَلًا غَيْرَ قِياسِيٍّ، وقالَ أبُو عَمْرٍو: أنا لا أهْمِزُها لِأنِّي لا أعْرِفُ لَها اِشْتِقاقًا فَإنْ كانَتْ مِمّا لا تُهْمَزُ فَقَدِ اِحْتَطْتُ وإنْ كانَتْ مِمّا تُهْمَزُ فَقَدْ يَجُوزُ لِي تَرْكُ الهَمْزِ فِيما يُهْمَزُ، ولَعَلَّهُ بَيانٌ لِوَجْهِ اِخْتِيارِ القِراءَةِ بِدُونِ هَمْزَةٍ، وبِالهَمْزِ جاءَتْ في قَوْلِ الشّاعِرِ: ؎ضَرَبْتُ بِمِنسَأةٍ وجْهَهُ فَصارَ بِذاكَ مَهِينًا ذَلِيلًا وبِدُونِهِ في قَوْلِهِ: ؎إذا دَبَبْتَ عَلى المِنساةِ مِن هَرَمٍ ∗∗∗ فَقَدْ تَباعَدَ مِنكَ اللَّهْوُ والغَزَلُ وقَرَأ اِبْنُ ذَكْوانَ وبَكّارٌ والوَلِيدُ بْنُ أبِي عُتْبَةَ وابْنُ مُسْلِمٍ وآخِرُونَ «مِنسَأْتَهُ» بِهَمْزَةٍ ساكِنَةٍ وهو مِن تَسْكِينِ المُتَحَرِّكِ تَخْفِيفًا ولَيْسَ بِقِياسٍ، وضَعَّفَ النُّحاةُ هَذِهِ القِراءَةَ لِأنَّهُ يَلْزَمُ فِيها أنْ يَكُونَ ما قَبْلَ تاءِ التَّأْنِيثِ ساكِنًا (p-122)غَيْرَ ألِفٍ، وقِيلَ: قِياسُها التَّخْفِيفُ بَيْنَ بَيْنَ والرّاوِي لَمْ يَضْبُطْ، وأنْشَدَ هارُونُ بْنُ مُوسى الأخْفَشُ الدِّمَشْقِيُّ شاهِدًا عَلى السُّكُونِ في هَذِهِ القِراءَةِ قَوْلَ الرّاجِزِ: ؎صَرِيعُ خَمْرٍ قامَ مِن وكْأتِهِ ∗∗∗ كَقَوْمَةِ الشَّيْخِ إلى مِنسَأْتِهِ وقُرِئَ بِفَتْحِ المِيمِ وتَخْفِيفِ الهَمْزَةِ قَلْبًا وحَذْفًا و«مِنساءَتَهُ» بِالمَدِّ عَلى وزْنِ مِفْعالَةٍ كَما يُقالُ في المِيضَأةِ وهي آلَةُ التَّوَضُّؤِ وتُطْلَقُ عَلى مَحَلِّهِ أيْضًا مِيضاءَةٌ، وقُرِئَ «مِنسِيتَهُ» بِإبْدالِ الهَمْزَةِ ياءً، وقَرَأتْ فِرْقَةٌ مِنهم عَمْرُو بْنُ ثابِتٍ عَنِ اِبْنِ جُبَيْرٍ «مِن» مَفْصُولَةً حَرْفَ جَرٍّ «ساتِهِ» بِجَرِّ التّاءِ وهي طَرَفُ العَصا وأصْلُها ما اِنْعَطَفَ مِن طَرَفَيِ القَوْسِ، ويُقالُ فِيهِ سِيَةٌ أيْضًا اُسْتُعِيرَتْ لِما ذُكِرَ إمّا اِسْتِعارَةً اِصْطِلاحِيَّةً لِأنَّها كانَتْ خَضْراءَ فاعْوَجَّتْ بِالِاتِّكاءِ عَلَيْها عَلى ما سَتَسْمَعُهُ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى في القِصَّةِ، أوْ لُغَوِيَّةً بِاسْتِعْمالِ المُقَيَّدِ في المُطْلَقِ، وبِما ذُكِرَ عُلِمَ رَدُّ ما قالَهُ البَطْلَيُوسِيُّ بَعْدَ ما نَقَلَ هَذِهِ القِراءَةَ عَنِ القُرّاءِ أنَّهُ تَعَجْرُفٌ لا يَجُوزُ أنْ يُسْتَعْمَلَ في كِتابِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ ولَمْ يَأْتِ بِهِ رِوايَةٌ ولا سَماعٌ ومَعَ ذَلِكَ هو غَيْرُ مُوافِقٍ لِقِصَّةِ سُلَيْمانَ عَلَيْهِ السَّلامُ لِأنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُعْتَمِدًا عَلى قَوْسٍ، وإنَّما كانَ مُعْتَمِدًا عَلى عَصًا، وقُرِئَ «أكَلَتْ مِنسَأتَهُ» بِصِيغَةِ الماضِي فالجُمْلَةُ إمّا حالٌ أيْضًا بِتَقْدِيرِ قَدْ أوْ بِدُونِهِ وإمّا اِسْتِئْنافٌ بَيانِيٌّ. ﴿فَلَمّا خَرَّ﴾ أيْ سَقَطَ ﴿تَبَيَّنَتِ الجِنُّ﴾ أيْ عَلِمَتْ بَعْدَ اِلْتِباسِ أمْرِ سُلَيْمانَ مِن حَياتِهِ ومَماتِهِ عَلَيْهِمْ ﴿أنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الغَيْبَ ما لَبِثُوا في العَذابِ المُهِينِ﴾ أنَّهم لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الغَيْبَ كَما يَزْعُمُونَ لَعَلِمُوا مَوْتَهُ زَمَنَ وُقُوعِهِ فَلَمْ يَلْبَثُوا بَعْدَهُ حَوْلًا في الأعْمالِ الشّاقَّةِ إلى أنْ خَرَّ، والمُرادُ بِالجِنِّ الَّذِينَ عَلِمُوا ذَلِكَ ضُعَفاءُ الجِنِّ وبِاَلَّذِينِ نُفِيَ عَنْهم عِلْمُ الغَيْبِ رُؤَساؤُهم وكِبارُهم عَلى ما رُوِيَ عَنْ قَتادَةَ، وجُوِّزَ عَلَيْهِ أنْ يُرادَ بِالأمْرِ المُلْتَبِسِ عَلَيْهِمْ أمْرُ عِلْمِ الغَيْبِ أوِ المُرادُ بِالجِنِّ الجِنْسُ بِأنْ يُسْنَدَ لِلْكُلِّ ما لِلْبَعْضِ أوِ المُرادُ كِبارُهُمُ المُدَّعُونَ عِلْمَ الغَيْبِ، أيْ عَلِمَ المُدَّعُونَ عِلْمَ الغَيْبِ مِنهم عَجْزَهم وأنَّهم لا يَعْلَمُونَ الغَيْبَ، وهم وإنْ كانُوا عالِمِينَ قَبْلَ ذَلِكَ بِحالِهِمْ لَكِنْ أُرِيدَ التَّهَكُّمُ بِهِمْ كَما تَقُولُ لِلْمُبْطِلِ إذا دَحَضْتَ حُجَّتَهُ هَلْ تَبَيَّنْتَ أنَّكَ مُبْطِلٌ، وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّهُ لَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ مُتَبَيِّنًا. وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ تَبَيَّنَ بِمَعْنى بانَ وظَهَرَ فَهو غَيْرُ مُتَعَدٍّ لِمَفْعُولٍ كَما في الوَجْهِ الأوَّلِ فَإنَّ مَفْعُولَهُ فِيهِ ﴿أنْ لَوْ كانُوا﴾ إلخ وهو في هَذا الوَجْهِ بَدَلٌ مِن ( الجِنُّ ) بَدَلُ اِشْتِمالٍ نَحْوَ تَبَيَّنَ زَيْدٌ جَهْلَهُ، والظُّهُورُ في الحَقِيقَةِ مُسْنَدٌ إلَيْهِ أيْ فَلَمّا خَرَّ بِأنَّ لِلنّاسِ وظَهَرَ أنَّ الجِنَّ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الغَيْبَ ما لَبِثُوا في العَذابِ، ولا حاجَةَ عَلى ما قُرِّرَ إلى اِعْتِبارِ مُضافٍ مُقَدَّرٍ هو فاعِلُ تَبَيَّنَ في الحَقِيقَةِ إلّا أنَّهُ بَعْدَ حَذْفِهِ أُقِيمَ المُضافُ إلَيْهِ مَقامَهُ وأُسْنِدَ إلَيْهِ الفِعْلُ ثُمَّ جُعِلَ ﴿أنْ لَوْ كانُوا﴾ إلخ بَدَلًا مِنهُ بَدَلَ كُلٍّ مِن كُلٍّ والأصْلُ تَبَيَّنَ أمْرَ الجِنِّ أنْ لَوْ كانُوا الخ، وجَعَلَ بَعْضُهم في قَوْلِهِ تَعالى ﴿أنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ﴾ إلخ قِياسًا طُوِيَتْ كُبْراهُ فَكَأنَّهُ قِيلَ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الغَيْبَ ما لَبِثُوا في العَذابِ المُهِينِ لَكِنَّهم لَبِثُوا في العَذابِ المُهِينِ فَهم لا يَعْلَمُونَ الغَيْبَ، ومَجِيءُ تَبَيَّنَ بِمَعْنى بانَ وظَهَرَ لازِمًا وبِمَعْنى أدْرَكَ وعَلِمَ مُتَعَدِّيًا مَوْجُودٌ في كَلامِ العَرَبِ قالَ الشّاعِرُ: ؎تَبَيَّنَ لِي أنَّ القَماءَةَ ذِلَّةٌ ∗∗∗ وأنَّ أعِزّاءَ الرِّجالِ طِيالُها وقالَ الآخَرُ: ؎أفاطِمُ إنِّي مَيِّتٌ فَتَبَيِّنِي ∗∗∗ ولا تَجْزَعِي كُلُّ الأنامِ تَمُوتُ وفِي البَحْرِ نَقْلًا عَنِ اِبْنِ عَطِيَّةَ قالَ: ذَهَبَ سِيبَوَيْهِ إلى أنَّ (أنْ) لا مَوْضِعَ لَها مِنَ الأعْرابِ وإنَّما هي مُنَزَّلَةٌ مَنزِلَةَ القَسَمِ مِنَ الفِعْلِ الَّذِي مَعْناهُ التَّحْقِيقُ واليَقِينُ، لِأنَّ هَذِهِ الأفْعالَ الَّتِي هي تَحَقَّقَتْ وتَيَقَّنَتْ وعُلِمَتْ ونَحْوُها (p-123)تَحُلُّ مَحَلَّ القَسَمِ، (فَما لَبِثُوا) جَوابُ القِسْمِ لا جَوابُ لَوْ اه فَتَأمَّلْهُ، فَإنِّي لا أكادُ أتَعَقَّلُهُ وجْهًا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ. وفِي أمالِي العِزِّ بْنِ عَبْدِ السَّلامِ أنَّ الجِنَّ لَيْسَ فاعِلُ ﴿تَبَيَّنَتِ﴾ بَلْ هو مُبْتَدَأٌ و﴿أنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ﴾ خَبَرُهُ والجُمْلَةُ مُفَسِّرَةٌ لِضَمِيرِ الشَّأْنِ في ﴿تَبَيَّنَتِ﴾ إذْ لَوْلا ذَلِكَ لَكانَ مَعْنى الكَلامِ لَمّا ماتَ سُلَيْمانُ وخَرَّ ظَهَرَ لَهم أنَّهم لا يَعْلَمُونَ الغَيْبَ، وعِلْمُهم بِعَدَمِ عِلْمِهِمُ الغَيْبَ لا يَتَوَقَّفُ عَلى هَذا بَلِ المَعْنى تَبَيَّنَتِ القِصَّةُ ما هي والقِصَّةُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿تَبَيَّنَتِ الجِنُّ أنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الغَيْبَ ما لَبِثُوا في العَذابِ المُهِينِ﴾ اه، والعَجَبُ مِن صُدُورِ مِثْلِهِ عَنْ مَثَلِهِ، وما جَعَلَهُ مانِعًا عَنْ فاعِلِيَّةِ ( الجِنُّ ) مَدْفُوعٌ بِما سَمِعْتَ في تَفْسِيرِ الآيَةِ كَما لا يَخْفى، وفي كِتابِ النَّحّاسِ إشارَةٌ إلى أنَّهُ قُرِئَ «تَبَيَّنَتِ الجِنَّ» بِالنَّصْبِ عَلى أنَّ تَبَيَّنَتْ بِمَعْنى عَلِمَتْ والفاعِلَ ضَمِيرُ الإنْسِ والجِنَّ مَفْعُولُهُ، وقَرَأ اِبْنُ عَبّاسٍ فِيما ذَكَرَ اِبْنُ خالَوَيْهِ ويَعْقُوبُ بِخِلافٍ عَنْهُ «تُبِيِّنَتِ» مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وقَرَأ أُبَيٌّ «تَبَيَّنَتِ الإنْسُ» وعَنِ الضَّحّاكِ «تَبايَنَتِ الإنْسُ» بِمَعْنى تَعارَقَتْ وتَعالَمَتْ والضَّمِيرُ في ( كانُوا ) لِلْجِنِّ المَذْكُورِ فِيما سُبِقَ، وقَرَأ اِبْنُ مَسْعُودٍ «تَبَيَّنَتِ الإنْسُ أنَّ الجِنَّ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الغَيْبَ» وهي قِراءاتٌ مُخالِفَةٌ لِسَوادِ المُصْحَفِ مُخالَفَةً كَثِيرَةً وفي القِصَّةِ رِواياتٌ: فَرُوِيَ أنَّهُ كانَ مِن عادَةِ سُلَيْمانَ عَلَيْهِ السَّلامُ أنْ يَعْتَكِفَ في مَسْجِدِ بَيْتِ المَقْدِسِ المُدَدَ الطِّوالَ فَلَمّا دَنا أجْلُهُ لَمْ يُصْبِحْ إلّا رَأى في مِحْرابِهِ شَجَرَةً نابِتَةً قَدْ أنْطَقَها اللَّهُ تَعالى فَيَسْألُها لِأيِّ شَيْءٍ أنْتِ؟ فَتَقُولُ: لِكَذا حَتّى أصْبَحَ ذاتَ يَوْمٍ فَرَأى الخَرْنُوبَةَ فَسَألَها، فَقالَتْ نَبْتٌ لِخَرابِ هَذا المَسْجِدِ، فَقالَ: ما كانَ اللَّهُ تَعالى لِيُخَرِّبَهُ وأنا حَيٌّ أنْتِ الَّتِي عَلى وجْهِكِ هَلاكِي وخَرابِ بَيْتِ المَقْدِسِ فَنَزَعَها وغَرَسَها في حائِطٍ لَهُ واِتَّخَذَ مِنها عَصًا، وقالَ: اللَّهُمَّ عَمِّ عَلى الجِنِّ مَوْتِي حَتّى يُعْلَمَ أنَّهم لا يَعْلَمُونَ الغَيْبَ كَما يُمَوِّهُونَ وقالَ لِمَلَكِ المَوْتِ: إذا أُمِرْتَ بِي فاعْلِمْنِي، فَقالَ: أُمِرْتُ بِكَ وقَدْ بَقِيَ مِن عُمْرِكَ ساعَةٌ، فَدَعا الجِنَّ فَبَنَوْا عَلَيْهِ صَرْحًا مِن قَوارِيرَ لَيْسَ لَهُ بابٌ فَقامَ يُصَلِّي مُتَّكِئًا عَلى عَصاهُ فَقُبِضَ رُوحُهُ وهو مُتَّكِئٌ عَلَيْها، وكانَتِ الجِنُّ تَجْتَمِعُ حَوْلَ مِحْرابِهِ أيْنَما صَلّى فَلَمْ يَكُنْ جِنِّيٌ يَنْظُرُ إلَيْهِ في صِلاتِهِ إلّا اِحْتَرَقَ فَمَرَّ جِنِّيٌّ فَلَمْ يَسْمَعْ صَوْتَهُ ثُمَّ رَجَعَ فَلَمْ يَسْمَعْ فَنَظَرَ إذا سُلَيْمانُ قَدْ خَرَّ مَيِّتًا فَفَتَحُوا عَنْهُ فَإذا العَصا قَدْ أكَلَتْها الأرَضَةُ، فَأرادُوا أنْ يَعْرِفُوا وقْتَ مَوْتِهِ فَوَضَعُوا الأرَضَةَ عَلى العَصا فَأكَلَتْ مِنها في يَوْمٍ ولَيْلَةٍ مِقْدارًا فَحَسِبُوا عَلى ذَلِكَ النَّحْوِ فَوَجَدُوهُ قَدْ ماتَ مُنْذُ سَنَةٍ، وكانُوا يَعْمَلُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ ويَحْسَبُونَهُ حَيًّا فَتَبَيَّنَ أنَّهم لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الغَيْبَ لَما لَبِثُوا في العَذابِ سَنَةً. ولا يَخْفى أنَّ هَذا مِن بابِ التَّخْمِينِ والِاقْتِصارِ عَلى الأقَلِّ وإلّا فَيَجُوزُ أنْ تَكُونَ الأرَضَةُ بَدَأتْ بِالأكْلِ بَعْدَ مَوْتِهِ بِزَمانٍ كَثِيرٍ وأنَّها كانَتْ تَأْكُلُ أحْيانًا وتَتْرُكُ أحْيانًا. وأمّا كَوْنُ بَدْئِها في حَياتِهِ فَبِعِيدٌ، وكَوْنُهُ بِالوَحْيِ إلى نَبِيٍّ في ذَلِكَ الزَّمانِ كَما قِيلَ فَواهٍ لِأنَّهُ لَوْ كانَ كَذَلِكَ لَمْ يَحْتاجُوا إلى وضْعِ الأرَضَةِ عَلى العَصا لِيَسْتَعْلِمُوا المُدَّةَ، ورُوِيَ أنَّ داوُدَ عَلَيْهِ السَّلامُ أسَّسَ بِناءَ بَيْتِ المَقْدِسِ في مَوْضِعِ فُسْطاطِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ فَماتَ قَبْلَ أنْ يُتِمَّهُ فَوَصّى بِهِ إلى سُلَيْمانَ فَأمَرَ الجِنَّ بِإتْمامِهِ فَلَمّا بَقِيَ مِن عُمْرِهِ سَنَةً سَألَ أنْ يُعَمّى عَلَيْهِمْ مَوْتُهُ حَتّى يَفْرَغُوا مِنهُ ولِتُبْطَلَ دَعْواهم عِلْمَ الغَيْبِ، وهَذا بِظاهِرِهِ مُخالِفٌ لِما رُوِيَ أنَّ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ هو الَّذِي أسَّسَ بَيْتَ المَقْدِسِ بَعْدَ الكَعْبَةِ بِأرْبَعِينَ سَنَةً ثُمَّ خَرِبَ وأعادَهُ داوُدُ وماتَ قَبْلَ أنْ يُتِمَّهُ، وأيْضًا أنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ لَمْ يَدْخُلْ بَيْتَ المَقْدِسِ بَلْ ماتَ في التِّيهِ، وجاءَ في الحَدِيثِ الصَّحِيحِ أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ سَألَ رَبَّهُ عِنْدَ وفاتِهِ أنْ يُدْنِيَهُ مِنَ الأرْضِ المُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ، وأيْضًا قَدْ رُوِيَ أنَّ سُلَيْمانَ قَدْ فَرَغَ مِن بِناءِ المَسْجِدِ وتَعَبَّدَ فِيهِ وتَجَهَّزَ بَعْدَهُ لِلْحَجِّ شُكْرًا لِلَّهِ تَعالى عَلى ذَلِكَ. وأُجِيبَ عَنِ الأوَّلِ بِأنَّ المُرادَ تَجْدِيدُ التَّأْسِيسِ، وعَنِ الثّانِي بِأنَّ المُرادَ بِفُسْطاطِ مُوسى فُسْطاطُهُ المُتَوارَثُ وكانُوا يَضْرِبُونَهُ يَتَعَبَّدُونَ فِيهِ تَبَرُّكًا لا أنَّهُ كانَ يُضْرَبُ هُنالِكَ في زَمَنِهِ (p-124)عَلَيْهِ السَّلامُ، ويَحْتاجُ هَذا إلى نَقْلٍ فَإنَّ مِثْلَهُ لا يُقالُ بِالرَّأْيِ فَإنْ كانَ فَأهْلًا ومَرْحَبًا، وقِيلَ المُرادُ بِهِ مَجْمَعُ العِبادَةِ عَلى دِينِ مُوسى كَما وقَعَ في الحَدِيثِ فُسْطاطُ إيمانٍ. وقالَ القُرْطُبِيُّ في التَّذْكِرَةِ: المُرادُ بِهِ فِرْقَةٌ مُنْحازَةٌ عَنْ غَيْرِها، مُجْتَمِعَةٌ تَشْبِيهًا بِالخَيْمَةِ، ولا يَخْفى ما فِيهِما وإنْ قِيلَ إنَّهُما أظْهَرُ مِنَ الأوَّلِ، وعَنِ الثّالِثِ بِأنَّ المُرادَ بِالفَراغِ القُرْبُ مِنَ الفَراغِ وما قارَبَ الشَّيْءَ لَهُ حُكْمُهُ، وفِيهِ بُعْدٌ واخْتِيرَ أنَّ هَذا رِوايَةٌ وذاكَ رِوايَةٌ واَللَّهُ تَعالى أعْلَمُ بِالصَّحِيحِ مِنهُما. ورُوِيَ أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ قَدْ أمَرَ بِبَناءِ صَرْحٍ لَهُ فَبَنَوْهُ فَدَخَلَهُ مُخْتَلِيًا لِيَصْفُوَ لَهُ يَوْمٌ في الدَّهْرِ مِنَ الكَدَرِ فَدَخَلَ عَلَيْهِ شابٌّ فَقالَ لَهُ: كَيْفَ دَخَلْتَ عَلَيَّ بِلا إذْنٍ؟ فَقالَ: إنَّما دَخَلْتُ بِإذْنٍ، فَقالَ: ومَن أذِنَ لَكَ؟ قالَ: رَبُّ هَذا الصَّرْحِ، فَعَلِمَ أنَّهُ مَلَكُ المَوْتِ أتى لِقَبْضِ رُوحِهِ، فَقالَ: سُبْحانَ اللَّهِ هَذا اليَوْمُ الَّذِي طَلَبْتُ فِيهِ الصَّفا، فَقالَ لَهُ: طَلَبْتَ ما لَمْ يَخْلُقْ فاسْتَوْثَقَ مِنَ الِاتِّكاءِ عَلى عَصاهُ فَقُبِضَ رُوحُهُ وخَفِيَ عَلى الجِنِّ مَوْتُهُ حَتّى سَقَطَ. ورُوِيَ أنَّ أفْرِيدُونَ جاءَ لِيَصْعَدُ كُرْسِيَّهُ فَلَمّا دَنا ضَرَبَ الأسَدانِ ساقَهُ فَكَسَراها فَلَمْ يَجْسُرْ أحَدٌ بَعْدَهُ أنْ يَدْنُوَ مِنهُ، ولِذا لَمْ تَقْرَبْهُ الجِنُّ وخَفِيَ أمْرُ مَوْتِهِ عَلَيْهِمْ، ونُظِرَ فِيهِ بِأنَّ سُلَيْمانَ كانَ بَعْدَ مُوسى بِمُدَّةٍ مَدِيدَةٍ وأفْرِيدُونُ كانَ قَبْلَهُ لِأنَّ مَنُوجَهَرَ مِن أسْباطِ أفْرِيدُونَ وظَهَرَ مُوسى عَلَيْهِ في زَمانِهِ. وعَلى جَمِيعِ الرِّواياتِ الدّالَّةِ عَلى مَوْتِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ خُرُورُهُ لَمّا كُسِرَتِ العَصا لِضَعْفِها بِأكْلِ الأرَضَةِ مِنها، ونِسْبَةُ الدَّلالَةِ في الآيَةِ إلَيْها نِسْبَةٌ إلى السَّبَبِ البَعِيدِ. ومِنَ الغَرِيبِ ما نُقِلَ عَنِ اِبْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ ماتَ في مُتَعَبَّدِهِ عَلى فِراشِهِ، وقَدْ أغْلَقَ البابَ عَلى نَفْسِهِ فَأكَلَتِ الأرَضَةُ المِنسَأةَ أيْ عَتَبَةَ البابِ فَلَمّا خَرَّ أيِ البابُ عُلِمَ مَوْتُهُ فَإنَّ فِيهِ جَعْلَ ضَمِيرِ ( خَرَّ ) لِلْبابِ وإلَيْهِ ذَهَبَ بَعْضُهُمْ، وفِيهِ أنَّهُ لَمْ يُعْهَدْ تَسْمِيَةُ العَتَبَةِ مِنسَأةً، وأيْضًا كانَ اللّازِمُ عَلَيْهِ خَرَّتْ بِتاءِ التَّأْنِيثِ ولا يَجِيءُ حَذْفُها في مِثْلِ ذَلِكَ إلّا في ضَرُورَةِ الشِّعْرِ، وكَوْنُ التَّذْكِيرِ عَلى مَعْنى العَوْدِ بَعِيدٌ، فالظّاهِرُ عَدَمُ صِحَّةِ الرِّوايَةِ عَنِ الحَبْرِ واَللَّهُ تَعالى أعْلَمُ، وحَكى البَغَوِيُّ عَنْهُ أنَّ الجِنَّ شَكَرُوا الأرَضَةَ فَهم يَأْتُونَها بِالماءِ والطِّينِ في جَوْفِ الخَشَبِ وهَذا شَيْءٌ لا أقُولُ بِهِ ولا أعْتَقِدُ صِحَّةَ الرِّوايَةِ أيْضًا. وكانَ عُمْرُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ ثَلاثًا وخَمْسِينَ سَنَةً ومَلِكَ بَعْدَ أبِيهِ وعُمْرُهُ ثَلاثَ عَشْرَةَ سَنَةً وابْتَدَأ في بِناءِ بَيْتِ المَقْدِسِ لِأرْبَعِ سِنِينَ مَضَيْنَ مِن مُلْكِهِ ثُمَّ مَضى وانْقَضى وسُبْحانَ مَن لا يَنْقَضِي مُلْكُهُ ولا يَزُولُ سُلْطانُهُ، وفي الآيَةِ دَلِيلٌ عَلى أنَّ الغَيْبَ لا يَخْتَصُّ بِالأُمُورِ المُسْتَقْبَلَةِ بَلْ يَشْمَلُ الأُمُورَ الواقِعَةَ الَّتِي هي غائِبَةٌ عَنِ الشَّخْصِ أيْضًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب