الباحث القرآني

وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿ورَدَّ اللَّهُ﴾ إلَخْ، رُجُوعٌ إلى حِكايَةِ بَقِيَّةِ القِصَّةِ وتَفْصِيلٌ لِتَتِمَّةِ النِّعْمَةِ المُشارِ إلَيْها إجْمالًا بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَأرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحًا وجُنُودًا لَمْ تَرَوْها﴾ [الأحْزابُ: 9]، وهو مَعْطُوفٌ عَلى (أرْسَلْنا)، وقَدْ وسَّطَ بَيْنَهُما بَيانُ كَوْنِ ما نَزَلَ بِهِمْ واقِعَةً طامَّةً تَحَيَّرَتْ بِهِ العُقُولُ والأفْهامُ، وداهِيَةً تَحاكَّتْ فِيها الرُّكَبُ، وزَلَّتِ الأقْدامُ، وتَفْصِيلُ ما صَدَرَ عَنْ فَرِيقَيْ أهْلِ الإيمانِ وأهْلِ الكُفْرِ والنِّفاقِ مِنَ الأحْوالِ والأقْوالِ لِإظْهارِ عِظَمِ النِّعْمَةِ وإبانَةِ خَطَرِها الجَلِيلِ بِبَيانِ وُصُولِها إلَيْهِمْ عِنْدَ غايَةِ احْتِياجِهِمْ إلَيْها، أيْ فَأرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحًا وجُنُودًا لَمْ تَرَوْها، ورَدَدْنا بِذَلِكَ ( الَّذِينَ كَفَرُوا ) والِالتِفاتُ إلى الِاسْمِ الجَلِيلِ لِتَرْبِيَةِ المَهابَةِ وإدْخالِ الرَّوْعَةِ، وجَوَّزَ شَيْخُ الإسْلامِ، ولَعَلَّ صَنِيعَهُ يُشِيرُ إلى أوْلَوِيَّتِهِ حَيْثُ بَدَأ بِهِ كَوْنُهُ مَعْطُوفًا عَلى عَلى المُقَدَّرِ قَبْلَ: ( لِيَجْزِيَ اللَّهُ ) كَأنَّهُ قِيلَ إثْرَ حِكايَةِ الأُمُورِ المَذْكُورَةِ وقَعَ ما وقَعَ مِنَ الحَوادِثِ ورَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا، وقِيلَ: هو مَعْطُوفٌ مِن حَيْثُ المَعْنى عَلى قَوْلِهِ تَعالى: ( لِيَجْزِيَ ) كَأنَّهُ قِيلَ: فَكانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ أنْ جَزاهُمُ اللَّهُ تَعالى بِصِدْقِهِمْ، ورَدَّ أعْداءَهم وهَذا الرَّدُّ مِن جُمْلَةِ جَزائِهِمْ عَلى صِدْقِهِمْ، وهو كَما تَرى، والمُرادُ بِالَّذِينِ كَفَرُوا الأحْزابُ عَلى ما رَوى غَيْرُ واحِدٍ عَنْ مُجاهِدٍ، والظّاهِرُ أنَّهُ عَنى المُشْرِكِينَ واليَهُودَ الَّذِينَ تَحَزَّبُوا. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنِ السُّدِّيِّ أنَّهُ فَسَّرَ ذَلِكَ بِأبِي سُفْيانَ، وأصْحابِهِ، ولَعَلَّهُ الأوْلى، وعَلى القَوْلَيْنِ المُرادُ: رَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَحَلِّ اجْتِماعِهِمْ حَوْلَ المَدِينَةِ وتَحَزُّبِهِمْ إلى مَساكِنِهِمْ، ﴿بِغَيْظِهِمْ﴾ حالٌ مِنَ المَوْصُولِ لا مِن ضَمِيرِ ( كَفَرُوا )، والباءُ لِلْمُلابَسَةِ أيْ مُلْتَبِسِينَ بِغَيْظِهِمْ، وهو أشَدُّ الغَضَبِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَمْ يَنالُوا خَيْرًا﴾ حالٌ مِن ذاكَ أيْضًا، أوْ مِن ضَمِيرِ ( بِغَيْظِهِمْ ) أيْ غَيْرَ ظافِرِينَ بِخَيْرٍ أصْلًا، وفَسَّرَ بَعْضُهُمُ الخَيْرَ بِالظَّفَرِ بِالنَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ والمُؤْمِنِينَ، وإطْلاقُ الخَيْرِ عَلَيْهِ مَبْنِيٌّ عَلى زَعْمِهِمْ، وفَسَّرَهُ بَعْضُهم بِالمالِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإنَّهُ لِحُبِّ الخَيْرِ لَشَدِيدٌ﴾ [العادِياتُ: 8]، والأوْلى أنْ يُرادَ بِهِ كُلُّ خَيْرٍ عِنْدَهُمْ، فالنَّكِرَةُ في سِياقِ النَّفْيِ تَعُمُّ، وجُوِّزَ أنْ تَكُونَ الجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً لِبَيانِ سَبَبِ غَيْظِهِمْ، أوْ بَدَلًا، ﴿وكَفى اللَّهُ المُؤْمِنِينَ القِتالَ﴾ أيْ وقاهم سُبْحانَهُ ذَلِكَ، ( وكَفى ) هَذِهِ تَتَعَدّى لِاثْنَيْنِ، وقِيلَ: هي بِمَعْنى أغْنى وتَتَعَدّى إلى مَفْعُولٍ واحِدٍ. والكَلامُ هُنا عَلى الحَذْفِ والإيصالِ، والأصْلُ: وكَفى اللَّهُ المُؤْمِنِينَ عَنِ القِتالِ، أيْ أغْناهم سُبْحانَهُ عَنْهُ، ولا وجْهَ لَهُ (p-175)وهَذِهِ الكِفايَةُ كانَتْ كَما أخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنْ قَتادَةَ بِالرِّيحِ والمَلائِكَةِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، وقِيلَ: بِقَتْلِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ عَمْرَو بْنَ عَبْدِ وُدٍّ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، وابْنُ مَرْدُوَيْهِ، وابْنُ عَساكِرَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ أنَّهُ كانَ يَقْرَأُ هَذا الحَرْفَ «وكَفى اللَّهُ المُؤْمِنِينَ القِتالَ بِعَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ» وفي مَجْمَعِ البَيانِ: هو المَرْوِيُّ عَنْ أبِي عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ. ولا يَكادُ يَصِحُّ ذَلِكَ، والظّاهِرُ ما رُوِيَ عَنْ قَتادَةَ لِمَكانِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَأرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحًا وجُنُودًا لَمْ تَرَوْها﴾ [الأحْزابُ: 9]، وكَأنَّ المُرادَ بِالقِتالِ الَّذِي كَفاهُمُ اللَّهُ تَعالى إيّاهُ القِتالُ عَلى الوَجْهِ المَعْرُوفِ مِن تَعْبِيَةِ الصُّفُوفِ، والرَّمْيِ بِالسِّهامِ، والمُقارَعَةِ بِالسُّيُوفِ، أوِ القِتالُ الَّذِي يَقْتَضِيهِ ذَلِكَ التَّحَزُّبُ والِاجْتِماعُ بِحُكْمِ العادَةِ. وفِي البَحْرِ: ما هو ظاهِرٌ في أنَّ المُرادَ كَفى اللَّهُ المُؤْمِنِينَ مُداوَمَةَ القِتالِ، وعَوْدَتَهُ، فَإنَّ قُرَيْشًا هُزِمُوا بِقُوَّةِ اللَّهِ تَعالى وعِزَّتِهِ عَزَّ وجَلَّ، وما غَزَوُا المُسْلِمِينَ بَعْدَ ذَلِكَ، وإلّا فَقَدْ وقَعَ قِتالٌ في الجُمْلَةِ، وقَتْلٌ مِنَ المُشْرِكِينَ عَلى ما رُوِيَ عَنِ ابْنِ إسْحاقَ: ثَلاثَةُ نَفَرٍ مِن بَنِي عَبْدِ الدّارِ بْنِ قُصَيٍّ: مُنَبِّهُ بْنُ عُثْمانَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ السَّبّاقِ بْنِ عَبْدِ الدّارِ أصابَهُ سَهْمٌ فَماتَ مِنهُ بِمَكَّةَ، ومِن بَنِي مَخْزُومِ بْنِ يَقَظَةَ نَوْفَلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ المُغِيرَةِ اقْتَحَمَ الخَنْدَقَ فَتَوَرَّطَ فِيهِ فَقُتِلَ، ومِن بَنِي عامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، ثُمَّ مِن بَنِي مالِكِ بْنِ حِسْلٍ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ وُدٍّ، نازَلَهُ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ كَما عَلِمْتَ فَقَتَلَهُ. ورُوِيَ عَنِ ابْنِ شِهابٍ أنَّهُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ قَتَلَ يَوْمَئِذٍ ابْنَهُ حِسْلًا أيْضًا فَيَكُونُ مَن قُتِلَ مِنَ المُشْرِكِينَ أرْبَعَةً، واسْتُشْهِدَ مِنَ المُؤْمِنِينَ بِسَبَبِ هَذِهِ الغَزْوَةِ سَعْدُ بْنُ مُعاذٍ، وأنَسُ بْنُ أُوَيْسِ بْنِ عَتِيكٍ، وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَهْلٍ، وهم مِن بَنِي عَبْدِ الأشْهَلِ، والطُّفَيْلُ بْنُ النُّعْمانِ، وثَعْلَبَةُ بْنُ عَثَمَةَ، وهُما مِن بَنِي جُشَمَ بْنِ الخَزْرَجِ مِن بَنِي سَلِمَةَ، وكَعْبُ بْنُ زَيْدٍ، وهو مِن بَنِي النَّجّارِ، ثُمَّ مِن بَنِي دِينارٍ أصابَهُ سَهْمٌ غَرْبٌ فَقَتَلَهُ، قالَ ابْنُ إسْحاقَ: ولَمْ يُسْتَشْهَدْ إلّا هَؤُلاءِ السِّتَّةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُمْ: ﴿وكانَ اللَّهُ قَوِيًّا﴾ عَلى إحْداثِ كُلِّ ما يُرِيدُ جَلَّ شَأْنُهُ، ﴿عَزِيزًا﴾ غالِبًا عَلى كُلِّ شَيْءٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب