الباحث القرآني

﴿لَقَدْ كانَ لَكم في رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ الظّاهِرُ أنَّ الخِطابَ لِلْمُؤْمِنِينَ الخُلَّصِ المُخاطَبِينَ مِن قَبْلُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿عَنْ أنْبائِكُمْ﴾ وقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿ولَوْ كانُوا فِيكُمْ﴾ . والإسْوَةُ بِكَسْرَةِ الهَمْزَةِ كَما قَرَأ الجُمْهُورُ وبِضَمِّها كَما قَرَأ عاصِمٌ الخَصْلَةُ، وقالَ الرّاغِبُ: الحالَةُ الَّتِي يَكُونُ عَلَيْها الإنْسانُ وهي اسْمُ كانَ ( ولَكُمُ ) الخَبَرُ، ( وفي رَسُولِ اللَّهِ ) مُتَعَلِّقٌ بِما تَعَلَّقَ بِهِ ( لَكم )، أوْ في مَوْضِعٍ مِن ( أُسْوَةٌ )، لِأنَّهُ لَوْ تَأخَّرَ جازَ أنْ يَكُونَ نَعْتًا لَها، أوْ مُتَعَلِّقٌ بَكانَ عَلى مَذْهَبِ مَن أجازَ فِيها ناقِصَةً وفي أخَواتِها أنْ تَعْمَلَ في الظَّرْفِ، وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ (فِي رَسُولِ اللَّهِ) الخَبَرَ، (ولَكُمْ) تَبْيِينٌ، أيْ أعْنِي لَكم أيْ واللَّهِ لَقَدْ كانَ لَكم في رَسُولِ اللَّهِ خَصْلَةٌ حَسَنَةٌ مِن حَقِّها أنْ يُؤْتَسى ويُقْتَدى بِها كالثَّباتِ في الحَرْبِ، ومُقاساةِ الشَّدائِدِ، ويَجُوزُ أنْ يُرادَ بِالأُسْوَةِ القُدْوَةُ بِمَعْنى المُقْتَدى عَلى مَعْنى هو صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ في نَفْسِهِ قُدْوَةٌ يَحْسُنُ التَّأسِّي بِهِ، وفي الكَلامِ صَنْعَةُ التَّجْرِيدِ، وهو أنْ يُنْتَزَعَ مِن ذِي صِفَةٍ آخَرُ مِثْلُهُ فِيها مُبالَغَةً في الِاتِّصافِ نَحْوَ: لَقِيتُ مِنهُ أسَدًا، وهو كَما يَكُونُ بِمَعْنى مِن يَكُونُ بِمَعْنى في كَقَوْلِهِ: ؎أراقَتْ بَنُو مَرْوانَ ظُلْمًا دِماءَنا وفي اللَّهِ إنْ لَمْ يَعْدِلُوا حُكْمُ عَدْلِ وكَقَوْلِهِ: في البَيْضَةِ عِشْرُونَ مَنًّا حَدِيدًا، أيْ هي نَفْسُها هَذا القَدْرُ مِنَ الحَدِيدِ، والآيَةُ وإنْ سِيقَتْ لِلِاقْتِداءِ بِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ في أمْرِ الحَرْبِ مِنَ الثَّباتِ ونَحْوِهِ، فَهي عامَّةٌ في كُلِّ أفْعالِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ إذا لَمْ يُعْلَمْ أنَّها مِن خُصُوصِيّاتِهِ كَنِكاحِ ما فَوْقَ أرْبَعِ نِسْوَةٍ، أخْرَجَ ابْنُ ماجَهْ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ حَفْصِ بْنِ عاصِمٍ قالَ: «قُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما رَأيْتُكَ في السَّفَرِ لا تُصَلِّي قَبْلَ الصَّلاةِ، ولا بَعْدَها، فَقالَ: يا ابْنَ أخِي صَحِبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ كَذا وكَذا فَلَمْ أرَهُ يُصَلِّي قَبْلَ الصَّلاةِ ولا بَعْدَها، ويَقُولُ اللَّهُ تَعالى: ﴿لَقَدْ كانَ لَكم في رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾» وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ في المُصَنَّفِ عَنْ قَتادَةَ قالَ: «هَمَّ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ أنْ يَنْهى عَنِ الحِبَرَةِ، فَقالَ رَجُلٌ: ألَيْسَ قَدْ رَأيْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ يَلْبَسُها؟ قالَ عُمَرُ: بَلى، قالَ الرَّجُلُ: ألَمْ يَقُلِ اللَّهُ تَعالى: ﴿لَقَدْ كانَ لَكم في رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ فَتَرَكَ ذَلِكَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ.» وأخْرَجَ الشَّيْخانِ، والنَّسائِيُّ، وابْنُ ماجَهْ، وغَيْرُهم عَنِ ابْنِ عُمَرَ «أنَّهُ سَألَ عَنْ رَجُلٍ مُعْتَمِرٍ طافَ بِالبَيْتِ أيَقَعُ عَلى امْرَأتِهِ قَبْلَ أنْ يَطُوفَ بَيْنَ الصَّفا والمَرْوَةِ؟ فَقالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ فَطافَ بِالبَيْتِ وصَلّى خَلْفَ المَقامِ رَكْعَتَيْنِ، وسَعى بَيْنَ الصَّفا والمَرْوَةِ ثُمَّ قَرَأ ﴿لَقَدْ كانَ لَكم في رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾» (p-168)وأخْرَجَ الشَّيْخانِ، وغَيْرُهُما عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: إذا حَرَّمَ الرَّجُلُ عَلَيْهِ امْرَأتَهُ فَهو يَمِينٌ يُكَفِّرُها، وقالَ: ﴿لَقَدْ كانَ لَكم في رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأخْبارِ، وتَمامُ الكَلامِ في كُتُبِ الأُصُولِ. ﴿لِمَن كانَ يَرْجُو اللَّهَ واليَوْمَ الآخِرَ﴾ أيْ يُؤَمِّلُ اللَّهَ تَعالى وثَوابَهُ كَما يَرْمُزُ إلَيْهِ أثَرٌ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما، وعَلَيْهِ يَكُونُ قَدْ وضَعَ ﴿اليَوْمَ الآخِرَ﴾ بِمَعْنى يَوْمِ القِيامَةِ مَوْضِعَ الثَّوابِ، لِأنَّ ثَوابَهُ تَعالى يَقَعُ فِيهِ، فَهو عَلى ما قالَ الطِّيبِيُّ مِن إطْلاقِ اسْمِ المَحَلِّ عَلى الحالِّ، والكَلامُ نَحْوُ قَوْلِكَ: أرْجُو زَيْدًا وكَرَمَهُ، مِمّا يَكُونُ ذِكْرُ المَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِيهِ تَوْطِئَةً لِلْمَعْطُوفِ، وهو المَقْصُودُ، وفِيهِ مِنَ الحُسْنِ والبَلاغَةِ ما لَيْسَ في قَوْلِكَ: أرْجُو زَيْدًا كَرَمَهُ، عَلى البَدَلِيَّةِ. وقالَ صاحِبُ الفَرائِدِ، يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: يَرْجُو رَحْمَةَ اللَّهِ، أوْ رِضا اللَّهِ، وثَوابَ اليَوْمِ الآخِرِ، فَفي الكَلامِ مُضافانِ مُقَدَّرانِ، وعَنْ مُقاتِلٍ، أيْ يَخْشى اللَّهَ تَعالى ويَخْشى البَعْثَ الَّذِي فِيهِ جَزاءُ الأعْمالِ عَلى أنَّهُ وضَعَ اليَوْمَ الآخِرَ مَوْضِعَ البَعْثِ، لِأنَّهُ يَكُونُ فِيهِ، والرَّجاءُ عَلَيْهِ بِمَعْنى الخَوْفِ، ومُتَعَلِّقُ الرَّجاءِ بِأيِّ مَعْنى كانَ أمْرٌ مِن جِنْسِ المَعانِي، لِأنَّهُ لا يَتَعَلَّقُ بِالذَّواتِ، وقَدَّرَ بَعْضُهُمُ المُضافَ إلى الِاسْمِ الجَلِيلِ لَفْظَ أيّامٍ مُرادًا بِها الوَقائِعُ، فَإنَّ اليَوْمَ يُطْلَقُ عَلى ما يَقَعُ فِيهِ مِنَ الحُرُوبِ والحَوادِثِ، واشْتُهِرَ في هَذا حَتّى صارَ بِمَنزِلَةِ الحَقِيقَةِ، وجُعِلَ قَرِينَةَ هَذا التَّقْدِيرِ المَعْطُوفُ، وجُعِلَ العَطْفُ مِن عَطْفِ الخاصِّ عَلى العامِّ، والظّاهِرُ أنَّ الرَّجاءَ عَلى هَذا بِمَعْنى الخَوْفِ، وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ الكَلامُ عَلَيْهِ كَقَوْلِكَ: أرْجُو زَيْدًا وكَرَمَهُ، وأنْ يَكُونَ الرَّجاءُ فِيهِ بِمَعْنى الأمَلِ إنْ أُرِيدَ ما في اليَوْمِ مِنَ النَّصْرِ والثَّوابِ، وأنْ يَكُونَ بِمَعْنى الخَوْفِ والأمَلِ مَعًا، بِناءً عَلى جَوازِ اسْتِعْمالِ اللَّفْظِ في مَعْنَيَيْهِ، أوْ في حَقِيقَتِهِ ومَجازِهِ، وإرادَةِ ما يَقَعُ فِيهِ مِنَ المُلائِمِ والمُنافِرِ، وعِنْدِي أنَّ تَقْدِيرَ أيّامٍ غَيْرُ مُتَبادِرٍ إلى الفَهْمِ، وفَسَّرَ بَعْضُهُمُ ﴿اليَوْمَ الآخِرَ﴾ بِيَوْمِ السِّياقِ والمُتَبادِرُ مِنهُ يَوْمُ القِيامَةِ، و(مَن) عَلى ما قِيلَ بَدَلٌ مِن ضَمِيرِ الخِطابِ في ( لَكم )، وأُعِيدَ العامِلُ لِلتَّأْكِيدِ، وهو بَدَلُ كُلٍّ مِن كُلٍّ، والفائِدَةُ فِيهِ الحَثُّ عَلى التَّأسِّي، وإبْدالُ الِاسْمِ الظّاهِرِ مِن ضَمِيرِ المُخاطَبِ هَذا الإبْدالَ جائِزٌ عِنْدَ الكُوفِيِّينَ، والأخْفَشِ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ؎بِكم قُرَيْشُ كُفِينا كُلَّ مُعْضِلَةٍ ∗∗∗ وأمَّ نَهْجَ الهُدى مَن كانَ ضَلِيلا ومَنَعَ ذَلِكَ جُمْهُورُ البَصْرِيِّينَ: ومِن هُنا قالَ صاحِبُ التَّقْرِيبِ، هو بَدَلُ اشْتِمالٍ، أوْ بَدَلُ بَعْضٍ مِن كُلٍّ، ولا يَتَسَنّى إلّا عَلى القَوْلِ بِأنَّ الخِطابَ عامٌّ وهو مُخالِفٌ لِلظّاهِرِ كَما سَمِعْتَ، ومَعَ هَذا يَحْتاجُ إلى تَقْدِيرِ مِنكُمْ، وقالَ أبُو البَقاءِ: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ لِمَن مُتَعَلِّقًا (بِحَسَنَةً)، أوْ بِمَحْذُوفٍ وقَعَ صِفَةً لَها، لِأنَّهُ وقَعَ بَعْدَ نَكِرَةٍ، وقِيلَ: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ صِفَةً (لِأُسْوَةً)، وتُعُقِّبَ بِأنَّ المَصْدَرَ المَوْصُوفَ لا يَعْمَلُ فِيما بَعْدَ وصْفِهِ، وكَذا تَعَدُّدُ الوَصْفِ بِدُونِ العَطْفِ لا يَصِحُّ، وقَدْ صَرَّحَ بِمَنعِ ذَلِكَ الإمامُ الواحِدِيُّ، ولا يَخْفى أنَّ المَسْألَةَ خِلافِيَّةٌ فَلا تَغْفُلْ. ﴿وذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ أيْ ذِكْرًا كَثِيرًا، وقَرَنَ سُبْحانَهُ بِالرَّجاءِ كَثْرَةَ الذِّكْرِ، لِأنَّ المُثابَرَةَ عَلى كَثْرَةِ ذِكْرِهِ عَزَّ وجَلَّ تُؤَدِّي إلى مُلازَمَةِ الطّاعَةِ، وبِها يَتَحَقَّقُ الِائْتِساءُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، ومِمّا يَنْبَغِي أنْ يُعْلَمَ أنَّهُ قَدْ صَرَّحَ بَعْضُ الأجِلَّةِ كالنَّوَوِيِّ أنَّ ذِكْرَ اللَّهِ تَعالى المُعْتَبَرَ شَرْعًا ما يَكُونُ في ضِمْنِ جُمْلَةٍ مُفِيدَةٍ، كَسُبْحانَ اللَّهِ، والحَمْدُ لِلَّهِ، ولا إلَهَ إلّا اللَّهُ، واللَّهُ أكْبَرُ، ولا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلّا بِاللَّهِ، ونَحْوِ ذَلِكَ، وما لا يَكُونُ بِمُفْرَدٍ لا يُعَدُّ شَرْعًا ذِكْرًا نَحْوَ اللَّهِ، أوْ قادِرٍ، أوْ سَمِيعٍ، أوْ بَصِيرٍ إذْ لَمْ يُقَدَّرْ هُناكَ ما يَصِيرُ بِهِ اللَّفْظُ كَلامًا، والنّاسُ عَنْ هَذا غافِلُونَ، وأنَّهم أجْمَعُوا عَلى أنَّ الذِّكْرَ المُتَعَبَّدَ بِمَعْناهُ لا يُثابُ صاحِبُهُ ما لَمْ يَسْتَحْضِرْ مَعْناهُ، فالمُتَلَفِّظُ بِنَحْوِ: سُبْحانَ اللَّهِ، ولا إلَهَ إلّا اللَّهُ، إذا كانَ غافِلًا عَنِ المَعْنى غَيْرَ مُلاحِظٍ ومُسْتَحْضِرًا إيّاهُ لا يُثابُ إجْماعًا، والنّاسُ أيْضًا عَنْ هَذا غافِلُونَ (p-169)فَإنّا لِلَّهِ، وإنّا إلَيْهِ راجِعُونَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب