الباحث القرآني

﴿أمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ﴾ فَإنَّ قَوْلَهم هَذا مُفْتَرًى إنْكارٌ لِأنْ يَكُونَ مِن رَبِّ العالَمِينَ، أيْ فالأنْسَبُ أنْ يَكُونَ نَفْيُ الرَّيْبِ عَمّا أنْكَرُوهُ، وهو كَوْنُهُ مِن رَبِّ العالَمِينَ جَلَّ شَأْنُهُ، وقِيلَ: أيْ فَلا بُدَّ مِن أنْ يَكُونَ مَوْرِدُهُ حُكْمًا مَقْصُودًا بِالإفادَةِ، لا قَيْدًا لِلْحُكْمِ بِنَفْيِ الرَّيْبِ عَنْهُ، وفِيهِ بَحْثٌ، وكَذا قَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿بَلْ هو الحَقُّ مِن رَبِّكَ﴾ فَإنَّهُ تَقْرِيرٌ لِما قَبْلَهُ، فَيَكُونُ مِثْلَهُ في الشَّهادَةِ، ثُمَّ قالَ في نَظْمِ الكَلامِ عَلى ذَلِكَ: إنَّهُ أُسْلُوبٌ صَحِيحٌ مُحْكَمٌ، أثْبَتَ سُبْحانَهُ أوَّلًا أنَّ تَنْزِيلَهُ مِن رَبِّ العالَمِينَ، وإنَّ ذَلِكَ مِمّا لا رَيْبَ فِيهِ، أيْ لا مَدْخَلَ لِلرَّيْبِ في أنَّهُ تَنْزِيلُ اللَّهِ تَعالى، وهو أبْعَدُ شَيْءٍ مِنهُ، لِأنَّ نافِيَ الرَّيْبِ ومُمِيطَهُ مَعَهُ لا يَنْفَكُّ أصْلًا عَنْهُ، وهو كَوْنُهُ مُعْجِزًا لِلْبَشَرِ، ثُمَّ أضْرَبَ جَلَّ وعَلا عَنْ ذَلِكَ إلى قَوْلِهِ تَعالى: «أمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ»، لِأنَّ «أمْ» هي المُنْقَطِعَةُ الكائِنَةُ بِمَعْنى بَلْ، والهَمْزَةُ إنْكارًا لِقَوْلِهِمْ وتَعْجِيبًا مِنهُ، لِظُهُورِ عَجْزِ بُلَغائِهِمْ عَنْ مِثْلِ أقْصَرِ سُورَةٍ مِنهُ، فَهو إمّا قَوْلُ مُتَعَنِّتٍ مُكابِرٍ، أوْ جاهِلٍ عَمِيَتْ مِنهُ النَّواظِرُ، ثُمَّ أضْرَبَ سُبْحانَهُ عَنِ الإنْكارِ إلى إثْباتِ أنَّهُ الحَقُّ مِن رَبِّكَ، وفي الكَشْفِ: أنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ بَيَّنَ وجاهَةَ كَوْنِ ( تَنْزِيلُ الكِتابِ ) مُبْتَدَأً، و( لا رَيْبَ فِيهِ ) اعْتِراضًا، ( ومِن رَبِّ العالَمِينَ ) خَبَرًا، بِحُسْنِ مَوْقِعِ الِاعْتِراضِ إذْ ذاكَ حَسُنَ الإنْكارُ عَلى الزّاعِمِ أنَّهُ مُفْتَرًى، مَعَ وُجُودِ نافِي الرَّيْبِ ومُمِيطِهِ، ثُمَّ إثْباتُ ما هو المَقْصُودُ، وعَدَمُ الِالتِفاتِ إلى شَغَبِ هَؤُلاءِ المُكابِرَةِ بَعْدَ التَّلْخِيصِ البَلِيغِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿بَلْ هو الحَقُّ مِن رَبِّكَ﴾ وما في إيثارِ لَفْظِ ( الحَقُّ )، وتَعْرِيفِهِ تَعْرِيفُ الجِنْسِ مِنَ الحُسْنِ، ويَقْرُبُ عِنْدِي مِن هَذا الوَجْهِ جَعْلُ ( تَنْزِيلُ ) مُبْتَدَأً، وجُمْلَةِ ( لا رَيْبَ فِيهِ ) في مَوْضِعِ الحالِ مِنَ ( الكِتابِ) (ومِن رَبِّ ) خَبَرًا، فَتَدَبَّرْ، ولا تَغْفُلْ، وزَعَمَ أبُو عُبَيْدَةَ أنَّ ( أمْ ) بِمَعْنى بَلِ الِانْتِقالِيَّةِ، وقالَ: إنَّ هَذا خُرُوجٌ مِن حَدِيثٍ إلى حَدِيثٍ، ولَيْسَ بِشَيْءٍ. والظّاهِرُ أنَّ ( مِن رَبِّكَ ) في مَوْضِعِ الحالِ، أيْ كائِنًا مِن رَبِّكَ، وقِيلَ: يَجُوزُ جَعْلُهُ خَبَرًا ثانِيًا، وإضافَةُ الرَّبِّ إلى العالَمِينَ أوَّلًا، ثُمَّ إلى ضَمِيرِ سَيِّدِ المُخاطَبِينَ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ ثانِيًا بَعْدَ ما فِيهِ مِن حُسْنِ التَّخَلُّصِ إلى إثْباتِ النُّبُوَّةِ وتَعْظِيمِ شَأْنِهِ عَلا شَأْنُهُ فِيهِ أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ العَبْدُ الجامِعُ الَّذِي جَمَعَ فِيهِ ما فَرَّقَ في العالَمِ بِالأسْرِ، ووُرُودُهُ عَلى أُسْلُوبِ التَّرَقِّي دَلَّ عَلى أنَّ جَمْعِيَّتَهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ أتَمُّ مِمّا لِكُلِّ العالَمِ، وحُقَّ لَهُ ذَلِكَ صَلَواتُ اللَّهِ تَعالى وسَلامُهُ عَلَيْهِ، ﴿لِتُنْذِرَ قَوْمًا ما أتاهم مِن نَذِيرٍ مِن قَبْلِكَ﴾ بَيانٌ لِلْمَقْصُودِ مِن تَنْزِيلِهِ، فَقِيلَ: هو مُتَعَلِّقٌ (بِتَنْزِيلُ)، وقِيلَ: بِمَحْذُوفٍ، أيْ أنْزَلَهُ لِتُنْذِرَ إلَخْ، وقِيلَ: بِما تَعَلَّقَ بِهِ ( مِن رَبِّكَ)، (وقَوْمًا ) مَفْعُولٌ أوَّلُ (لِتُنْذِرَ)، والمَفْعُولُ الثّانِي مَحْذُوفٌ، أيِ العِقابَ، وما نافِيَةٌ كَما هو الظّاهِرُ، ( ومِنَ ) الأُولى صِلَةٌ، ( ونَذِيرٌ ) فاعِلُ ( أتاهم )، ويُطْلَقُ عَلى الرَّسُولِ، وهو المَشْهُورُ، وعَلى ما يَعُمُّهُ، والعالِمِ الَّذِي يُنْذِرُ عَنْهُ عَزَّ وجَلَّ، قِيلَ: وهو المُرادُ هُنا كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإنْ مِن أُمَّةٍ إلا خَلا فِيها نَذِيرٌ﴾ [فاطِرٌ: 24]. وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ النَّذِيرُ ها هُنا مَصْدَرًا بِمَعْنى الإنْذارِ، ( ومِن قَبْلِكَ ) أيْ مِن قَبْلِ إنْذارِكَ أوْ مِن قَبْلِ زَمانِكَ مُتَعَلِّقٌ بِأتى، والجُمْلَةُ في مَوْضِعِ الصِّفَةِ (لِقَوْمًا)، والمُرادُ بِهِمْ قُرَيْشٌ عَلى ما ذَهَبَ إلَيْهِ غَيْرُ واحِدٍ، قالَ في الكَشْفِ: الظّاهِرُ (p-118)أنَّهُ لَمْ يُبْعَثْ إلَيْهِمْ رَسُولٌ مِنهم قَبْلَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وكانُوا مُلْزَمِينَ بِشَرائِعِ الرُّسُلِ مِن قَبْلُ، وإنْ كانُوا مُقَصِّرِينَ في البَحْثِ عَنْها، لا سِيَّما دِينُ إبْراهِيمَ وإسْماعِيلَ عَلَيْهِما السَّلامُ، إنْ قُلْنا: إنَّ دَعْوَتَيْ مُوسى، وعِيسى عَلَيْهِما السَّلامُ لَمْ تَعُمّا، وهو الأظْهَرُ، وقَدْ تَقَدَّمَ لَكَ القَوْلُ بِانْقِطاعِ حُكْمِ نُبُوَّةِ كُلِّ نَبِيٍّ ما عَدا نَبِيَّنا ﷺ بَعْدَ مَوْتِهِ فَلا يُكَلَّفُ أحَدٌ مُطْلَقًا يَجِيءُ بَعْدَهُ بِاتِّباعِهِ، والقَوْلُ بِالِانْقِطاعِ إلّا بِالنِّسْبَةِ لِمَن كانَ مِن ذُرِّيَّتِهِ، والظّاهِرُ أنَّ قُرَيْشًا كانُوا مُلْزَمِينَ بِمِلَّةِ إبْراهِيمَ وإسْماعِيلَ عَلَيْهِما السَّلامُ، وإنَّهم لَمْ يَزالُوا عَلى ذَلِكَ إلى أنْ فَشَتْ في العَرَبِ عِبادَةُ الأصْنامِ الَّتِي أحْدَثَها فِيهِمْ عَمْرٌو الخُزاعِيُّ لَعَنَهُ اللَّهُ تَعالى، فَلَمْ يَبْقَ مِنهم عَلى المِلَّةِ الحَنِيفِيَّةِ إلّا قَلِيلٌ، بَلْ أقَلُّ مِنَ القَلِيلِ، فَهم داخِلُونَ في عُمُومِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإنْ مِن أُمَّةٍ إلا خَلا فِيها نَذِيرٌ﴾ فَإنَّهُ عامٌّ لِلرَّسُولِ، ولِلْعالِمِ يُنْذِرُ كَذا قِيلَ. واسْتَشْكَلَ مَعَ ما هُنا، وأُجِيبَ بِأنَّ المُرادَ ما أتاهم نَذِيرٌ مِنهم مِن قَبْلِكَ، وإلَيْهِ يُشِيرُ كَلامُ الكَشْفِ، وهُناكَ (إلّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) مِنها، أوْ مِن غَيْرِها، أوْ يُحْمَلُ النَّذِيرُ فِيهِ عَلى الرَّسُولِ، وفي تِلْكَ الآيَةِ عَلى الأعَمِّ، قالَ أبُو حَيّانَ في تَفْسِيرِ سُورَةِ المَلائِكَةِ: إنَّ الدُّعاءَ إلى اللَّهِ تَعالى لَمْ يَنْقَطِعْ عَنْ كُلِّ أُمَّةٍ، إمّا بِمُباشَرَةٍ مِن أنْبِيائِهِمْ، وإمّا بِنَقْلٍ إلى وقْتِ بَعْثَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، والآياتُ الَّتِي تَدُلُّ عَلى أنَّ قُرَيْشًا ما جاءَهم نَذِيرٌ مَعْناها لَمْ يُباشِرْهم وآباءَهُمُ الأقْرَبِينَ، وإمّا أنَّ النِّذارَةَ انْقَطَعَتْ فَلا تَعُمُّ، لَمّا شَرَعَتْ آثارُها تَنْدَرِسُ بُعِثَ مُحَمَّدٌ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ. وما ذَكَرَهُ أهْلُ عِلْمِ الكَلامِ مِن حالِ أهْلِ الفَتَراتِ، فَإنَّ ذَلِكَ عَلى حَسَبِ الفَرْضِ لا أنَّهُ واقِعٌ، فَلا تُوجَدُ أُمَّةٌ عَلى وجْهِ الأرْضِ إلّا وقَدْ عَلِمَتِ الدَّعْوَةَ إلى اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ وعِبادَتِهِ انْتَهى. وفِي القَلْبِ مِنهُ شَيْءٌ، ومُقْتَضاهُ أنَّ المَنفِيَّ ها هُنا إتْيانُ نَذِيرٍ مُباشِرٍ، أيْ نَبِيٍّ مِنَ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ قُرَيْشًا الَّذِينَ كانُوا في عَصْرِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ قَبْلَهُ ﷺ، وأنَّهُ كانَ فِيهِمْ مَن يُنْذِرُهُمْ، ويَدْعُوهم إلى عِبادَةِ اللَّهِ تَعالى وحْدَهُ بِالنَّقْلِ، أيْ عَنْ نَبِيٍّ كانَ يَدْعُو إلى ذَلِكَ، والأوَّلُ مِمّا لا يَنْبَغِي أنْ يَخْتَلِفَ فِيهِ اثْنانِ، بَلْ لا يَنْبَغِي أنْ يَتَوَقَّفَ فِيهِ إنْسانٌ، والثّانِي مَظْنُونُ التَّحَقُّقِ في زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ العَدَوِيِّ والِدِ سَعِيدٍ أحَدِ العَشَرَةِ، فَإنَّهُ عاصَرَ النَّبِيَّ ﷺ، واجْتَمَعَ، وآمَنَ بِهِ قَبْلَ بَعْثَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، ولَمْ يُدْرِكْها، إذْ قَدْ ماتَ، وقُرَيْشٌ تَبْنِي الكَعْبَةَ، وكانَ ذَلِكَ قَبْلَ البَعْثَةِ بِخَمْسِ سِنِينَ، وكانَ عَلى مِلَّةِ إبْراهِيمَ وإسْماعِيلَ عَلَيْهِما السَّلامُ، فَقَدْ صَحَّ عَنْ هِشامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أبِيهِ، عَنْ أسْماءَ بِنْتِ أبِي بَكْرٍ قالَتْ: لَقَدْ رَأيْتُ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إلى الكَعْبَةِ، يَقُولُ: يا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، ما أصْبَحَ أحَدٌ مِنكم عَلى دِينِ إبْراهِيمَ غَيْرِي، وفي بَعْضِ طُرُقِ الخَبَرِ عَنْهُ أيْضًا بِزِيادَةٍ، وكانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إنِّي لَوْ أعْلَمُ أحَبَّ الوُجُوهِ إلَيْكَ عَبَدْتُكَ بِهِ، ولَكِنِّي لا أعْلَمُ، ثُمَّ يَسْجُدُ عَلى راحِلَتِهِ، وذَكَرَ مُوسى بْنُ عُقْبَةَ في المَغازِي: سَمِعْتُ مَن أرْضى يُحَدِّثُ أنَّ زَيْدَ بْنَ عَمْرٍو كانَ يَعِيبُ عَلى قُرَيْشٍ ذَبْحَهم لِغَيْرِ اللَّهِ تَعالى، وصَحَّ أنَّهُ لَمْ يَأْكُلْ مِن ذَبائِحِ المُشْرِكِينَ الَّتِي أُهِلَّ بِها لِغَيْرِ اللَّهِ. وأخْرَجَ الطَّيالِسِيُّ في مُسْنَدِهِ، عَنِ ابْنِهِ سَعِيدٍ أنَّهُ قالَ: «قُلْتُ لِلنَّبِيِّ ﷺ: إنَّ أبِي كانَ كَما رَأيْتَ، وكَما بَلَغَكَ، أفَأسْتَغْفِرُ لَهُ: (قالَ، نَعَمْ، فَإنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ القِيامَةِ أُمَّةً وحْدَهُ)». ولا يَبْعُدُ مِمَّنْ كانَ هَذا شَأْنَهُ الإنْذارُ والدَّعْوَةُ إلى عِبادَةِ اللَّهِ تَعالى، بَلْ مَن أنْصَفَ يَرى تَضَمُّنَ كَلامِهِ الَّذِي حَكَتْهُ أسْماءُ، وإنْكارَهُ عَلى قُرَيْشٍ الذَّبْحَ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعالى الَّذِي ذَكَرَهُ الطَّيالِسِيُّ والدَّعْوَةَ إلى دِينِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وعِبادَةِ اللَّهِ سُبْحانَهُ وحْدَهُ، وكَذا تَضَمُّنُ كَلامِهِ النَّقْلَ أيْضًا، ويَعْلَمُ مِمّا نَقَلْناهُ أنَّ الرَّجُلَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا وهو ظاهِرٌ، وزَعَمَ بَعْضُهم أنَّهُ كانَ نَبِيًّا، واسْتَدَلَّ عَلى ذَلِكَ بِأنَّهُ كانَ يُسْنِدُ ظَهْرَهُ إلى الكَعْبَةِ ويَقُولُ: هَلُمُّوا إلَيَّ، فَإنَّهُ لَمْ يَبْقَ عَلى دِينِ الخَلِيلِ غَيْرِي، وصِحَّةُ ذَلِكَ مَمْنُوعَةٌ، وعَلى فَرْضِ التَّسْلِيمِ، لا دَلِيلَ فِيهِ عَلى المَقْصُودِ، كَما لا يَخْفى عَلى مَن لَهُ أدْنى ذَوْقٌ، ومِثْلُ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ قُسُّ بْنُ ساعِدَةَ الإيادِيُّ، فَإنَّهُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ كانَ مُؤْمِنًا بِاللَّهِ عَزَّ وجَلَّ داعِيًا إلى عِبادَتِهِ سُبْحانَهُ وحْدَهُ (p-119)وعاصَرَ النَّبِيَّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وماتَ قَبْلَ البَعْثَةِ عَلى المِلَّةِ الحَنِيفِيَّةِ، وكانَ مِنَ المُعَمَّرِينَ، ذَكَرَ السِّجِسْتانِيُّ أنَّهُ عاشَ ثَلاثَمِائَةٍ وثَمانِينَ سَنَةً، وقالَ المَرْزُبانِيُّ: ذَكَرَ كَثِيرٌ مِن أهْلِ العِلْمِ أنَّهُ عاشَ سِتَّمِائَةِ سَنَةٍ، وذَكَرُوا في شَأْنِهِ أخْبارًا كَثِيرَةً، لَكِنْ قالَ الحافِظُ ابْنُ حَجَرٍ في كِتابِهِ الإصابَةِ: قَدْ أفْرَدَ بَعْضُ الرُّواةِ طَرِيقَ قُسٍّ، وفِيهِ شِعْرُهُ، وخُطْبَتُهُ وهو في الطِّوالاتِ، لِلطَّبَرانِيِّ وغَيْرِها، وطُرُقُهُ كُلُّها ضَعِيفَةٌ، وعَدَّ مِنها ما عَدَّ فَلْيُراجَعْ، ثُمَّ إنَّ الإشْكالَ إنَّما يُتَوَهَّمُ لَوْ أُرِيدَ بِقُرَيْشٍ جَمِيعُ أوْلادِ قُصَيٍّ، أوْ فِهْرٍ، أوِ النَّضْرِ، أوْ إلْياسَ، أوْ مُضَرَ، أمّا إذا أُرِيدَ مَن كانَ مِنهم حِينَ بُعِثَ ﷺ، فَلا، كَما لا يَخْفى عَلى المُتَأمِّلِ فَتَأمَّلْ، وقِيلَ: المُرادُ بِهِمُ العَرَبُ قُرَيْشٌ وغَيْرُهُمْ، ولَمْ يَأْتِ المُعاصِرِينَ مِنهم رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَذِيرٌ مِنَ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ غَيْرُهُ ﷺ، وكانَ فِيهِمْ مَن يُنْذِرُ، ويَدْعُو إلى التَّوْحِيدِ، وعِبادَةِ اللَّهِ تَعالى وحْدَهُ، ولَيْسَ بِنَبِيٍّ عَلى ما سَمِعْتَ آنِفًا، وأمّا العَرَبُ غَيْرُ المُعاصِرِينَ فَلَمْ يَأْتِهِمْ مِن عَهْدِ إسْماعِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ نَبِيٌّ مِنهُمْ، بَلْ لَمْ يُرْسَلْ إلَيْهِمْ نَبِيٌّ مُطْلَقًا، ومُوسى. وعِيسى وغَيْرُهُما مِن أنْبِياءِ بَنِي إسْرائِيلَ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ لَمْ يُبْعَثُوا إلَيْهِمْ عَلى الأظْهَرِ، وخالِدُ بْنُ سِنانٍ العَبْسِيُّ عِنْدَ الأكْثَرِينَ لَيْسَ بِنَبِيٍّ، وخَبَرُ وُرُودِ بِنْتٍ لَهُ عَجُوزٍ عَلى النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وقَوْلُهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ لَها: «(مَرْحَبًا بِابْنَةِ نَبِيٍّ ضَيَّعَهُ قَوْمُهُ)» ونَحْوُهُ مِنَ الأخْبارِ مِمّا لِلْحُفّاظِ فِيهِ مَقالٌ لا يَصْلُحُ مَعَهُ لِلِاسْتِدْلالِ، وفي شُرُوحِ الشِّفاءِ والإصابَةِ لِلْحافِظِ ابْنِ حَجَرٍ بَعْضُ الكَلامِ في ذَلِكَ، وقِيلَ: المُرادُ بِهِمْ أهْلُ الفَتْرَةِ مِنَ العَرَبِ، وغَيْرِهِمْ، حَتّى أهْلِ الكِتابِ، والمَعْنى ما أتاهم نَذِيرٌ مِن قَبْلِكَ بَعْدَ الضَّلالِ الَّذِي حَدَثَ فِيهِمْ. هَذا وكَأنِّي بِكَ تَحْمِلُ النَّذِيرَ هُنا عَلى الرَّسُولِ الَّذِي يُنْذِرُ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ، وكَذا في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإنْ مِن أُمَّةٍ إلا خَلا فِيها نَذِيرٌ﴾ لِيُوافِقَ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿ولَقَدْ بَعَثْنا في كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ﴾ [النَّحْلُ: 36]، وأظُنُّ أنَّكَ تَجْعَلُ التَّنْوِينَ في (أُمَّةٍ) لِلتَّعْظِيمِ، أيْ وإنْ مِن أُمَّةٍ جَلِيلَةٍ مُعْتَنًى بِأمْرِها إلّا خَلا فِيها نَذِيرٌ، ولَقَدْ بَعَثْنا في كُلِّ أُمَّةٍ جَلِيلَةٍ مُعْتَنًى بِأمْرِها رَسُولًا، أوْ تُعْتَبِرُ العَرَبَ أُمَّةً وبَنِي إسْرائِيلَ أُمَّةً، ونَحْوُ ذَلِكَ أُمَّةٌ دُونَ أهْلِ عَصْرٍ واحِدٍ، وتَحْمِلُ مَن لَمْ يَأْتِهِمْ نَذِيرٌ عَلى جَماعَةٍ مِن أُمَّةٍ لَمْ يَأْتِهِمْ بِخُصُوصِهِمْ نَذِيرٌ، ومِمّا يُسْتَأْنَسُ بِهِ في ذَلِكَ أنَّهُ حِينَ يُنْفى إتْيانُ النَّذِيرِ يُنْفى عَنْ قَوْمٍ، ونَحْوِهِ لا عَنْ أُمَّةٍ، فَلْيُتَأمَّلْ، وسَيَأْتِي إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى تَمامُ الكَلامِ في هَذا المَقامِ، وجُوِّزَ كَوْنُ (ما) مَوْصُولَةً، وقَعَتْ مَفْعُولًا ثانِيًا (لِتُنْذِرَ)، ( ومِن نَذِيرٍ ) عَلَيْهِ مُتَعَلِّقٌ (بِأتاهُمْ) أيْ لِتُنْذِرَ قَوْمًا العِقابَ الَّذِي أتاهم مِن نَذِيرٍ مِن قَبْلِكَ، أيْ عَلى لِسانِ نَذِيرٍ مِن قَبْلِكَ، واخْتارَهُ أبُو حَيّانَ، وعَلَيْهِ لا مَجالَ لِتَوَهُّمِ الإشْكالِ، لَكِنْ لا يَخْفى أنَّهُ خِلافُ المُتَبادِرِ الَّذِي عَلَيْهِ أكْثَرُ المُفَسِّرِينَ، والِاقْتِصارُ عَلى الإنْذارِ في بَيانِ الحِكْمَةِ لِأنَّهُ الَّذِي يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُمُ: ( افْتَراهُ ) دُونَ التَّبْشِيرِ، ﴿لَعَلَّهم يَهْتَدُونَ﴾ أيْ لِأجْلِ أنْ يَهْتَدُوا بِإنْذارِكَ إيّاهُمْ، أوْ راجِيًا لِاهْتِدائِهِمْ، وجَعْلُ التَّرَجِّي مُسْتَعارًا لِلْإرادَةِ مَنسُوبًا إلَيْهِ عَزَّ وجَلَّ نَزْغَةٌ اعْتِزالِيَّةٌ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب