الباحث القرآني

﴿وأمّا الَّذِينَ فَسَقُوا﴾ أيْ خَرَجُوا عَنِ الطّاعَةِ، فَكَفَرُوا، وارْتَكَبُوا المَعاصِيَ، ﴿فَمَأْواهُمُ﴾ أيْ فَمَسْكَنُهم ومَحَلُّهُمُ ﴿النّارُ )،﴾ وذَكَرَ بَعْضُهم أنَّ المَأْوى صارَ مُتَعارَفًا فِيما يَكُونُ مَلْجَأً لِلشَّخْصِ، ومُسْتَراحًا يَسْتَرِيحُ إلَيْهِ مِنَ الحَرِّ والبَرْدِ، ولَوْ وهْمًا، فَإذا أُرِيدَ هُنا يَكُونُ في الكَلامِ اسْتِعارَةٌ تَهَكُّمِيَّةٌ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ( فَبَشِّرْهم بِعَذابٍ ألِيمٍ ) [آلُ عِمْرانَ: 21، التَّوْبَةُ: 34، الِانْشِقاقُ: 24]، وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ اسْتِعْمالُ ذَلِكَ مِن بابِ المُشاكَلَةِ، لِأنَّهُ لَمّا ذَكَرَ في أحَدِ القِسْمَيْنِ (فَلَهم جَنّاتُ المَأْوى) ذَكَرَ في الآخَرِ ( فَمَأْواهُمُ النّارُ)، ﴿كُلَّما أرادُوا أنْ يَخْرُجُوا مِنها أُعِيدُوا﴾ اسْتِئْنافٌ لِبَيانِ كَيْفِيَّةِ كَوْنِ النّارِ مَأْواهُمْ، والكَلامُ عَلى حَدِّ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿جِدارًا يُرِيدُ أنْ يَنْقَضَّ﴾ [الكَهْفُ: 77] عَلى ما قِيلَ، والمَعْنى كُلَّما شارَفُوا الخُرُوجَ مِنها، وقَرُبُوا مِنهُ أُعِيدُوا فِيها ودُفِعُوا إلى قَعْرِها. فَقَدْ رُوِيَ أنَّهم يَضْرِبُهم لَهَبُ النّارِ فَيَرْتَفِعُونَ إلى أعْلاها حَتّى إذا قَرُبُوا مِن بابِها، وأرادُوا أنْ يَخْرُجُوا مِنها، يَضْرِبُهُمُ اللَّهَبُ فَيَهْوُونَ إلى قَعْرِها، وهَكَذا يُفْعَلُ بِهِمْ أبَدًا. وقِيلَ: الكَلامُ عَلى ظاهِرِهِ، إلّا أنَّ فِيهِ حَذْفًا أيْ (p-134)كُلَّما أرادُوا أنْ يَخْرُجُوا مِنها فَخَرَجُوا مِن مُعْظَمِها أُعِيدُوا فِيها، ويُشِيرُ إلى أنَّ الخُرُوجَ مِن مُعْظَمِها قَوْلُهُ تَعالى: ( فِيها ) دُونَ إلَيْها، وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ الكَلامُ هُنا عِبارَةً عَنْ خُلُودِهِمْ فِيها، وأيًّا ما كانَ، لا مُنافاةَ بَيْنَ هَذِهِ الآيَةِ، وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما هم بِخارِجِينَ مِنَ النّارِ﴾ [البَقَرَةُ: 167]، ﴿وقِيلَ لَهُمْ﴾ تَشْدِيدًا عَلَيْهِمْ، وزِيادَةً في غَيْظِهِمْ. ﴿ذُوقُوا عَذابَ النّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ﴾ أيْ بِعَذابِ النّارِ ﴿تُكَذِّبُونَ﴾ عَلى الِاسْتِمْرارِ في الدُّنْيا، وأُظْهِرَتِ النّارُ مَعَ تَقَدُّمِها قَبْلُ لِزِيادَةِ التَّهْدِيدِ والتَّخْوِيفِ، وتَعْظِيمِ الأمْرِ، وذَكَرابْنُ الحاجِبِ في أمالِيهِ وجْهًا آخَرَ لِلْإظْهارِ وهو أنَّ الجُمْلَةَ الواقِعَةَ بَعْدَ القَوْلِ حِكايَةٌ لِما يُقالُ لَهم يَوْمَ القِيامَةِ عِنْدَ إرادَتِهِمُ الخُرُوجَ مِنَ النّارِ، فَلا يُناسِبُ ذَلِكَ وضْعُ الضَّمِيرِ إذْ لَيْسَ القَوْلُ حِينَئِذٍ مُقَدَّمًا عَلَيْهِ ذِكْرُ النّارِ، وإنَّما ذَكَرَها سُبْحانَهُ قَبْلُ إخْبارًا عَنْ أحْوالِهِمْ، ونَظَرَ فِيهِ الطِّيبِيُّ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ بِأنَّ هَذا القَوْلَ داخِلٌ أيْضًا في حَيِّزِ الإخْبارِ لِعَطْفِهِ عَلى ( أُعِيدُوا ) الواقِعِ جَوابًا لِكُلَّما، فَكَما جازَ الإضْمارُ في المَعْطُوفِ عَلَيْهِ جازَ فِيهِ أيْضًا، إنْ لَمْ يُقْصَدْ زِيادَةُ التَّهْدِيدِ والتَّخْوِيفِ. ورُدَّ بِأنَّ المانِعَ أنَّهُ حِكايَةٌ لِما يُقالُ لَهم يَوْمَ القِيامَةِ، والأصْلُ في الحِكايَةِ أنْ تَكُونَ عَلى وفْقِ المَحْكِيِّ عَنْهُ، دُونَ تَغْيِيرٍ ولا إضْمارٍ في المَحْكِيِّ لِعَدَمِ تَقَدُّمِ ذِكْرِ النّارِ فِيهِ. وتُعُقِّبَ بِأنَّهُ قَدْ يُناقَشُ فِيهِ بِأنَّ مُرادَهُ أنَّهُ يَجُوزُ رِعايَةُ المَحْكِيِّ، والحِكايَةِ، وكَما أنَّ الأصْلَ رِعايَةُ المَحْكِيِّ الأصْلُ الإضْمارُ إذا تَقَدَّمَ الذِّكْرُ، فَلا بُدَّ مِن مُرَجِّحٍ. وقالَ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ: أرادَ ابْنُ الحاجِبِ أنَّ الإظْهارَ هو المُناسِبُ في هَذِهِ الجُمْلَةِ نَظَرًا إلى ذاتِها، ونَظَرًا إلى سِياقِها، أمّا الأوَّلُ: فَلِأنَّها تُقالُ مِن غَيْرِ تَقَدُّمِ ذِكْرِ النّارِ، وأمّا الثّانِي: فَلِأنَّ سِياقَ الآيَةِ لِلتَّهْدِيدِ والتَّخْوِيفِ وتَعْظِيمِ الأمْرِ، وفي الإظْهارِ مِن ذَلِكَ ما لَيْسَ في الإضْمارِ، وهَذا بَعِيدٌ مِن أنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ نَظَرُ الطِّيبِيِّ، والإنْصافُ أنَّ كُلًّا مِنَ الإضْمارِ والإظْهارِ جائِزٌ، وأنَّهُ رَجَّحَ الإظْهارَ اقْتِضاءُ السِّياقِ لِذَلِكَ، ونُقِلَ عَنِ الرّاغِبِ ما يَدُلُّ عَلى أنَّ المَقامَ في هَذِهِ الآيَةِ مَقامُ الضَّمِيرِ حَيْثُ ذُكِرَ عَنْهُ أنَّهُ قالَ في دُرَّةِ التَّنْزِيلِ: إنَّهُ تَعالى قالَ ها هُنا ﴿ذُوقُوا عَذابَ النّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾ وقالَ سُبْحانَهُ في آيَةٍ أُخْرى: ﴿عَذابَ النّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ﴾ [سَبَأٌ: 42]، فَذَكَّرَ جَلَّ وعَلا ها هُنا، وأنَّثَ سُبْحانَهُ هُناكَ، والسِّرُّ في ذَلِكَ أنَّ النّارَ ها هُنا وقَعَتْ مَوْقِعَ الضَّمِيرِ، والضَّمِيرُ لا يُوصَفُ، فَأُجْرِيَ الوَصْفُ عَلى العَذابِ المُضافِ إلَيْها، وهو مُذَكَّرٌ، وفي تِلْكَ الآيَةِ لَمْ يَجْرِ ذِكْرُ النّارِ في سِياقِها، فَلَمْ تَقَعِ النّارُ مَوْقِعَ الضَّمِيرِ فَأُجْرِيَ الوَصْفُ عَلَيْها، وهي مُؤَنَّثَةٌ دُونَ العَذابِ، فَتَأمَّلْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب