الباحث القرآني

﴿قُلْ﴾ رَدًّا عَلَيْهِمْ ﴿يَتَوَفّاكم مَلَكُ المَوْتِ﴾ يَسْتَوْفِي نُفُوسَكم لا يَتْرُكُ مِنها شَيْئًا مِن أجْزائِها، أوْ لا يَتْرُكُ شَيْئًا مِن جُزْئِيّاتِها، ولا يُبْقِي أحَدًا مِنكُمْ، وأصْلُ التَّوَفِّي أخْذُ الشَّيْءِ بِتَمامِهِ، وفُسِّرَ بِالِاسْتِيفاءِ، لِأنَّ التَّفَعُّلَ والِاسْتِفْعالَ يَلْتَقِيانِ كَثِيرًا كَتَقَضَّيْتُهُ، واسْتَقْضَيْتُهُ، وتَعَجَّلْتُهُ واسْتَعْجَلْتُهُ، ونِسْبَةُ التَّوَفِّي إلى مَلَكِ المَوْتِ بِاعْتِبارِ أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ يُباشِرُ قَبْضَ الأنْفُسِ بِأمْرِهِ عَزَّ وجَلَّ، كَما يُشِيرُ إلى قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ﴾ أيْ بِقَبْضِ أنْفُسِكم ومَعْرِفَةِ انْتِهاءِ آجالِكم. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، وأبُو الشَّيْخِ، عَنْ أبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما قالَ: «دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ عَلى رَجُلٍ مِنَ الأنْصارِ يَعُودُهُ، فَإذا مَلَكُ المَوْتِ عَلَيْهِ السَّلامُ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: (يا مَلَكَ المَوْتِ ارْفُقْ بِصاحِبِي، فَإنَّهُ مُؤْمِنٌ، فَقالَ: أبْشِرْ يا مُحَمَّدُ، فَإنِّي بِكُلِّ مُؤْمِنٍ رَفِيقٌ، واعْلَمْ يا مُحَمَّدُ أنِّي لَأقْبِضُ رُوحَ ابْنِ آدَمَ فَيَصْرُخُ أهْلُهُ، فَأقُومُ في جانِبٍ مِنَ الدّارِ فَأقُولُ: واللَّهِ ما لِي مِن ذَنْبٍ، وإنَّ لِي لَعَوْدَةٌ وعَوْدَةٌ، الحَذَرَ الحَذَرَ، وما خَلَقَ اللَّهُ تَعالى مِن أهْلِ بَيْتٍ، ولا مَدَرٍ، ولا شَعَرٍ، ولا وبَرٍ في بَرٍّ ولا بَحْرٍ إلّا وأنا أتَصَفَّحُهم فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ ولَيْلَةٍ خَمْسَ مَرّاتٍ، حَتّى أنِّي لَأعْرَفُ بِصَغِيرِهِمْ وكَبِيرِهِمْ مِنهم بِأنْفُسِهِمْ، واللَّهِ يا مُحَمَّدُ إنِّي لا أقْدِرُ أقْبِضُ رُوحَ بَعُوضَةٍ حَتّى يَكُونَ اللَّهُ تَبارَكَ وتَعالى الَّذِي يَأْمُرُ بِقَبْضِهِ)،» وأخْرَجَ نَحْوَهُ (p-126)الطَّبَرانِيُّ، وأبُو نُعَيْمٍ، وابْنُ مَندَهْ ونِسْبَتُهُ إلَيْهِ عَزَّ وجَلَّ في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿اللَّهُ يَتَوَفّى الأنْفُسَ﴾ [الزُّمَرُ: 42] بِاعْتِبارِ أنَّ أفْعالَ العِبادِ كُلَّها مَخْلُوقَةٌ لَهُ جَلَّ وعَلا، لا مَدْخَلَ لِلْعِبادِ فِيها بِسِوى الكَسْبِ كَما يَقُولُهُ الأشاعِرَةُ، أوْ بِاعْتِبارِ أنَّ ذَلِكَ بِإذْنِهِ تَعالى ومَشِيئَتِهِ، جَلَّ شَأْنُهُ، ونِسْبَتُهُ إلى الرُّسُلِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا﴾ [الأنْعامُ: 61]، وإلى المَلائِكَةِ في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿الَّذِينَ تَتَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ ظالِمِي أنْفُسِهِمْ﴾ [النَّحْلُ: 28]، لِما أنَّ مَلَكَ المَوْتِ لا يَسْتَقِلُّ بِهِ، بَلْ لَهُ أعْوانٌ كَما جاءَ في الآثارِ يُعالِجُونَ نَزْعَ الرُّوحِ حَتّى إذا قَرُبَ خُرُوجُها قَبَضَها مَلَكُ المَوْتِ، وقِيلَ: المُرادُ بِمَلَكِ المَوْتِ الجِنْسُ، وقالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ بَعْضَ النّاسِ يَتَوَفّاهم مَلَكُ المَوْتِ، وبَعْضَهم يَتَوَفّاهُمُ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ بِنَفْسِهِ. أخْرَجَ ابْنُ ماجَهْ، عَنْ أبِي أُمامَةَ قالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «إنَّ اللَّهَ تَعالى وكَّلَ مَلَكَ المَوْتِ عَلَيْهِ السَّلامُ بِقَبْضِ الأرْواحِ إلّا شُهَداءَ البَحْرِ، فَإنَّهُ سُبْحانَهُ يَتَوَلّى قَبْضَ أرْواحِهِمْ»». وجاءَ ذَلِكَ أيْضًا في خَبَرٍ آخَرَ يُفِيدُ أنَّ مَلَكَ المَوْتِ لِلْإنْسِ غَيْرُ مَلَكِ المَوْتِ لِلْجِنِّ والشَّياطِينِ، وما لا يَعْقِلُ. أخْرَجَ ابْنُ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما قالَ: وُكِّلَ مَلَكُ المَوْتِ عَلَيْهِ السَّلامُ بِقَبْضِ أرْواحِ المُؤْمِنِينَ، فَهو الَّذِي يَلِي قَبْضَ أرْواحِهِمْ، ومَلَكٌ في الجِنِّ، ومَلَكٌ في الشَّياطِينِ، ومَلَكٌ في الطَّيْرِ والوَحْشِ والسِّباعِ والحِيتانِ والنَّمْلِ، فَهم أرْبَعَةُ أمْلاكٍ، والمَلائِكَةُ يَمُوتُونَ في الصَّعْقَةِ الأُولى، وأنَّ مَلَكَ المَوْتِ يَلِي قَبْضَ أرْواحِهِمْ، ثُمَّ يَمُوتُ، وأمّا الشُّهَداءُ في البَحْرِ، فَإنَّ اللَّهَ تَعالى يَلِي قَبْضَ أرْواحِهِمْ لا يَكِلُ ذَلِكَ إلى مَلَكِ المَوْتِ بِكَرامَتِهِمْ عَلَيْهِ سُبْحانَهُ. والَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ الجُمْهُورُ أنَّ مَلَكَ المَوْتِ لِمَن يَعْقِلُ، وما لا يَعْقِلُ مِنَ الحَيَوانِ واحِدٌ، وهو عِزْرائِيلُ، ومَعْناهُ عَبْدُ اللَّهِ فِيما قِيلَ، نَعَمْ لَهُ أعْوانٌ كَما ذَكَرْنا، وخَبَرُ الضَّحّاكِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ اللَّهُ تَعالى أعْلَمُ بِصِحَّتِهِ، ﴿ثُمَّ إلى رَبِّكم تُرْجَعُونَ﴾ بِالبَعْثِ لِلْحِسابِ والجَزاءِ. ومُناسَبَةُ هَذِهِ الآيَةِ لِما قَبْلَها عَلى ما ذَكَرْنا في تَوْجِيهِ الإضْرابِ ظاهِرَةٌ، لِأنَّهم لَمّا جَحَدُوا لِقاءَ مَلائِكَةِ رَبِّهِمْ عِنْدَ المَوْتِ وما يَكُونُ بَعْدَهُ ذَكَرَ لَهم حَدِيثَ تَوَفِّي مَلَكِ المَوْتِ إيّاهم إيماءً إلى أنَّهم سَيُلاقُونَهُ، وحَدِيثَ الرُّجُوعِ إلى اللَّهِ تَعالى بِالبَعْثِ لِلْحِسابِ والجَزاءِ، وأمّا عَلى ما قِيلَ، فَوَجْهُ المُناسَبَةِ أنَّهم لَمّا أنْكَرُوا البَعْثَ والمَعادَ رَدَّ عَلَيْهِمْ بِما ذَكَرَ لِتَضَمُّنِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ثُمَّ إلى رَبِّكم تُرْجَعُونَ﴾ البَعْثَ وزِيادَةً، ذَكَرَ تَوَفِّيَ مَلَكِ المَوْتِ إيّاهم وكَوْنَهُ مُوَكَّلًا بِهِمْ لِتَوَقُّفِ البَعْثِ عَلى وفاتِهِمْ، ولِتَهْدِيدِهِمْ، وتَخْوِيفِهِمْ، ولِلْإشارَةِ إلى أنَّ القادِرَ عَلى الإماتَةِ قادِرٌ عَلى الإحْياءِ، وقِيلَ: إنَّ ذَلِكَ لِرَدِّ ما يُشْعِرُ بِهِ كَلامُهم مِن أنَّ المَوْتَ بِمُقْتَضى الطَّبِيعَةِ حَيْثُ أسْنَدُوهُ إلى أنْفُسِهِمْ في قَوْلِهِمْ: ﴿أإذا ضَلَلْنا في الأرْضِ﴾ فَلَيْسَ عِنْدَهم بِفِعْلِ اللَّهِ تَعالى ومُباشَرَةِ مَلائِكَتِهِ، ولا يَخْفى بُعْدُهُ. وأبْعَدُ مِنهُ ما قِيلَ في المُناسَبَةِ: إنَّ عِزْرائِيلَ وهو عَبْدٌ مِن عَبِيدِهِ تَعالى إذا قَدَرَ عَلى تَخْلِيصِ الرُّوحِ مِنَ البَدَنِ مَعَ سَرَيانِها فِيهِ سَرَيانَ ماءِ الوَرْدِ في الوَرْدِ والنّارِ في الجَمْرِ، فَكَيْفَ لا يَقْدِرُ خالِقُ القُوى والقُدَرِ جَلَّ شَأْنُهُ عَلى تَمْيِيزِ أجْزائِهِمُ المُخْتَلِطَةِ بِالتُّرابِ، وكَيْفَ يُسْتَبْعَدُ البَعْثُ مَعَ القُدْرَةِ الكامِلَةِ لَهُ عَزَّ وجَلَّ، لِما أنَّ ذَلِكَ السَّرَيانَ مِمّا خَفِيَ عَلى العُقَلاءِ حَتّى أنْكَرَهُ بَعْضُهُمْ، فَكَيْفَ بِجَهَلَةِ المُشْرِكِينَ، فَتَأمَّلْ. وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما «تَرْجِعُونَ» بِالبِناءِ لِلْفاعِلِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب