الباحث القرآني
﴿ومِنَ النّاسِ﴾ أيْ بَعْضٍ مِنَ النّاسِ، أوْ بَعْضُ النّاسِ ﴿مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ﴾ أيِ الَّذِي أوْ فَرِيقٌ يَشْتَرِي عَلى أنَّ مَناطَ الإفادَةِ والمَقْصُودَ بِالأصالَةِ هو اتِّصافُهم بِما في حَيِّزِ الصِّلَةِ أوِ الصِّفَةِ لا كَوْنُهم ذَواتَ أُولَئِكَ المَذْكُورِينَ، والجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلى ما قَبْلَها بِحَسَبِ المَعْنى، كَأنَّهُ قِيلَ: مِنَ النّاسِ هادٍ مَهْدِيٌّ، ومِنهم ضالٌّ مُضِلٌّ، أوْ عَطَفَ قِصَّةً عَلى قِصَّةٍ، وقِيلَ: إنَّها حالٌ مِن فاعِلِ الإشارَةِ أيْ أُشِيرَ إلى آياتِ الكِتابِ حالَ كَوْنِها هُدًى ورَحْمَةً (p-67)والحالُ مِنَ النّاسِ مَن يَشْتَرِي إلَخْ، ( ولَهْوَ الحَدِيثِ ) عَلى ما رُوِيَ عَنِ الحَسَنِ كُلُّ ما شَغَلَكَ عَنْ عِبادَةِ اللَّهِ تَعالى وذِكْرِهِ مِنَ السَّمَرِ والأضاحِيكِ والخُرافاتِ والغِناءِ ونَحْوِها، والإضافَةُ بِمَعْنى مِن، إنْ أُرِيدَ بِالحَدِيثِ المُنْكَرُ، كَما في حَدِيثِ: ««الحَدِيثُ في المَسْجِدِ يَأْكُلُ الحَسَناتِ كَما تَأْكُلُ البَهِيمَةُ الحَشِيشَ»»
بِناءً عَلى أنَّها بَيانِيَّةٌ وتَبْعِيضِيَّةٌ إنْ أُرِيدَ بِهِ ما هو أعَمُّ مِنهُ، بِناءً عَلى مَذْهَبِ بَعْضِ النُّحاةِ كابْنِ كَيْسانَ، والسِّيرافِيِّ قالُوا: إضافَةُ ما هو جُزْءٌ مِنَ المُضافِ إلَيْهِ بِمَعْنى مِنَ التَّبْعِيضِيَّةِ كَما يَدُلُّ عَلَيْهِ وُقُوعُ الفَصْلِ بِها في كَلامِهِمْ، والَّذِي عَلَيْهِ أكْثَرُ المُتَأخِّرِينَ، وذَهَبَ إلَيْهِ ابْنُ السِّراجِ، والفارِسِيُّ وهو الأصَحُّ أنَّها عَلى مَعْنى اللّامِ كَما فَصَّلَهُ أبُو حَيّانَ في شَرْحِ التَّسْهِيلِ وذَكَرَهُ شارِحُ اللُّمَعِ.
وعَنِ الضَّحّاكِ أنَّ ﴿لَهْوَ الحَدِيثِ﴾ الشِّرْكُ، وقِيلَ: السِّحْرُ، وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ، وابْنُ أبِي الدُّنْيا، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، والحاكِمُ وصَحَّحَهُ، والبَيْهَقِيُّ في شُعَبِ الإيمانِ، عَنْ أبِي الصَّهْباءِ، قالَ: سَألْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ عَنْ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ومِنَ النّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ﴾ قالَ: هو واللَّهِ الغِناءُ وبِهِ فَسَّرَ كَثِيرٌ، والأحْسَنُ تَفْسِيرُهُ بِما يَعُمُّ كُلَّ ذَلِكَ، كَما ذَكَرْناهُ عَنِ الحَسَنِ، وهو الَّذِي يَقْتَضِيهِ ما أخْرَجَهُ البُخارِيُّ في الأدَبِ المُفْرَدِ، وابْنُ أبِي الدُّنْيا، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وابْنُ مَرْدُوَيْهِ، والبَيْهَقِيُّ في سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قالَ: ( لَهْوُ الحَدِيثِ ) هو الغِناءُ، وأشْباهُهُ، وعَلى جَمِيعِ ذَلِكَ يَكُونُ الِاشْتِراءُ اسْتِعارَةٌ لِاخْتِيارِهِ عَلى القُرْآنِ واسْتِبْدالِهِ بِهِ، وأخْرَجَ ابْنُ عَساكِرَ عَنْ مَكْحُولٍ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ﴾ قالَ: الجَوارِي الضّارِباتُ.
وأخْرَجَ آدَمُ، وابْنُ جَرِيرٍ، والبَيْهَقِيُّ في سُنَنِهِ عَنْ مُجاهِدٍ أنَّهُ قالَ فِيهِ: هو اشْتِراؤُهُ المُغَنِّيَ والمُغَنِّيَةَ والِاسْتِماعُ إلَيْهِ، وإلى مِثْلِهِ مِنَ الباطِلِ، وفي رِوايَةٍ ذَكَرَها البَيْهَقِيُّ في السُّنَنِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أنَّهُ قالَ: في الآيَةِ هو رَجُلٌ يَشْتَرِي جارِيَةً تُغَنِّيهِ لَيْلًا أوْ نَهارًا، واشْتُهِرَ أنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ في النَّضْرِ بْنِ الحارِثِ، فَفي رِوايَةِ جُوَيْبِرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ «أنَّهُ اشْتَرى قَيْنَةً فَكانَ لا يَسْمَعُ بِأحَدٍ يُرِيدُ الإسْلامَ إلّا انْطَلَقَ بِهِ إلى قَيْنَتِهِ، فَيَقُولُ: أطْعِمِيهِ واسْقِيهِ وغَنِّيهِ، ويَقُولُ: هَذا خَيْرٌ مِمّا يَدْعُوكَ إلَيْهِ مُحَمَّدٌ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ مِنَ الصَّلاةِ والصِّيامِ، وأنْ تُقاتِلَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَنَزَلَتْ».
وفِي أسْبابِ النُّزُولِ لِلْواحِدِيِّ عَنِ الكَلْبِيِّ، ومُقاتِلٍ: «أنَّهُ كانَ يَخْرُجُ تاجِرًا إلى فارِسَ فَيَشْتَرِي أخْبارَ الأعاجِمِ، وفي بَعْضِ الرِّواياتِ: كُتُبَ الأعاجِمِ، فَيَرْوِيها، ويُحَدِّثُ بِها قُرَيْشًا، ويَقُولُ لَهُمْ: إنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ يُحَدِّثُكم بِحَدِيثِ عادٍ، وثَمُودَ، وأنا أُحَدِّثُكم بِحَدِيثِ رُسْتُمَ، وإسْفَنْدَيارَ، وأخْبارِ الأكاسِرَةِ، فَيَسْتَمْلِحُونَ حَدِيثَهُ، ويَتْرُكُونَ اسْتِماعَ القُرْآنِ فَنَزَلَتْ،» وقِيلَ: إنَّها نَزَلَتْ في ابْنِ خَطَلٍ اشْتَرى جارِيَةً تُغَنِّي بِالسَّبِّ، ولا يَأْبى نُزُولَها فِيمَن ذَكَرَ الجَمْعَ في قَوْلِهِ تَعالى بَعْدَ: ( أُولَئِكَ لَهم ) كَما لا يَخْفى عَلى الفَطِنِ، والِاشْتِراءُ عَلى أكْثَرِ هَذِهِ الرِّواياتِ عَلى حَقِيقَتِهِ، ويَحْتاجُ في بَعْضِها إلى عُمُومِ المَجازِ أوِ الجَمْعِ بَيْنَ الحَقِيقَةِ والمَجازِ، كَما لا يَخْفى عَلى مَن دَقَّقَ النَّظَرَ، وجَعَلَ المُغَنِّيَةَ ونَحْوَها نَفْسَ لَهْوِ الحَدِيثِ مُبالَغَةً كَما جَعَلَ النِّساءَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿زُيِّنَ لِلنّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ﴾ [آلُ عِمْرانَ: 14] نَفْسَ الزِّينَةِ.
وفِي البَحْرِ: إنْ أُرِيدَ بِلَهْوِ الحَدِيثِ ما يَقَعُ عَلَيْهِ الشِّراءُ كالجَوارِي المُغَنِّياتِ وكَكُتُبِ الأعاجِمِ، فالِاشْتِراءُ حَقِيقَةٌ، ويَكُونُ الكَلامُ عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أيْ مَن يَشْتَرِي ذاتَ لَهْوِ الحَدِيثِ.
وقالَ الخَفاجِيُّ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ: لا حاجَةَ إلى تَقْدِيرِ ذاتٍ، لِأنَّهُ لَمّا اشْتُرِيَتِ المُغَنِّيَةُ لِغِنائِها، فَكَأنَّ المُشْتَرى هو الغِناءُ نَفْسُهُ، فَتَدَبَّرْهُ، وفي الآيَةِ عِنْدَ الأكْثَرِينَ ذَمٌّ لِلْغِناءِ بِأعْلى صَوْتٍ، وقَدْ تَضافَرَتِ الآثارُ وكَلِماتُ كَثِيرٍ مِنَ العُلَماءِ الأخْيارِ عَلى ذَمِّهِ مُطْلَقًا، لا في مَقامٍ دُونَ مَقامٍ، فَأخْرَجَ ابْنُ أبِي الدُّنْيا، والبَيْهَقِيُّ، في شُعَبِهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قالَ: إذا رَكِبَ الرَّجُلُ الدّابَّةَ ولَمْ يُسَمِّ رَدِفَهُ شَيْطانٌ، فَقالَ: تَغَنَّهْ، فَإنْ كانَ لا يُحْسِنُ، قالَ: تَمَنَّهْ، وأخْرَجا أيْضًا عَنْ (p-68)الشَّعْبِيِّ قالَ: عَنِ القاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ أنَّهُ سَألَ عَنِ الغِناءِ فَقالَ لِلسّائِلِ: أنْهاكَ عَنْهُ وأكْرَهُهُ لَكَ، فَقالَ السّائِلُ: أحَرامٌ هُوَ؟ قالَ: انْظُرْ يا ابْنَ أخِي إذا مَيَّزَ اللَّهُ تَعالى الحَقَّ مِنَ الباطِلِ في أيِّهِما يَجْعَلُ سُبْحانَهُ الغَناءَ؟ وأخْرَجا عَنْهُ أيْضًا أنَّهُ قالَ: «لَعَنَ اللَّهُ تَعالى المُغَنِّيَ والمُغَنّى لَهُ»، وفي السُّنَنِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قالَ: «قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «الغِناءُ يُنْبِتُ النِّفاقَ في القَلْبِ كَما يُنْبِتُ الماءُ البَقْلَ»،» وأخْرَجَ عَنْهُ نَحْوَهُ ابْنُ أبِي الدُّنْيا، ورَواهُ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، والدَّيْلَمِيُّ عَنْهُ، وعَنْ أنَسٍ وضَعَّفَهُ ابْنُ القَطّانِ، وقالَ النَّوَوِيُّ: لا يَصِحُّ، وقالَ العِراقِيُّ: رَفْعُهُ غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأنَّ في إسْنادِهِ مَن لَمْ يُسَمَّ، وفِيهِ إشارَةٌ إلى أنَّ وقْفَهُ عَلى ابْنِ مَسْعُودٍ صَحِيحٌ، وهو في حُكْمِ المَرْفُوعِ، إذْ مِثْلُهُ لا يُقالُ مِن قِبَلِ الرَّأْيِ.
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي الدُّنْيا، وابْنُ مَرْدُوَيْهِ عَنْ أبِي أُمامَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ قالَ: ««ما رَفَعَ أحَدٌ صَوْتَهُ بِغِناءٍ إلّا بَعَثَ اللَّهُ تَعالى إلَيْهِ شَيْطانَيْنِ يَجْلِسانِ عَلى مَنكِبَيْهِ يَضْرِبانِ بِأعْقابِهِما عَلى صَدْرِهِ حَتّى يُمْسِكَ»»
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي الدُّنْيا، والبَيْهَقِيُّ عَنْ أبِي عُثْمانَ اللَّيْثِيِّ قالَ: قالَ يَزِيدُ بْنُ الوَلِيدِ النّاقِصُ: (يا بَنِي أُمَيَّةَ، إيّاكم والغِناءَ، فَإنَّهُ يَنْقُصُ الحَياءَ ويَزِيدُ في الشَّهْوَةِ، ويَهْدِمُ المُرُوءَةَ، وإنَّهُ لَيَنُوبُ عَنِ الخَمْرِ، ويَفْعَلُ ما يَفْعَلُ السُّكْرُ، فَإنْ كُنْتُمْ لا بُدَّ فاعِلِينَ فَجَنِّبُوهُ النِّساءَ فَإنَّ الغِناءَ داعِيَةُ الزِّنا)، وقالَ الضَّحّاكُ: الغِناءُ مَنفَدَةٌ لِلْمالِ مَسْخَطَةٌ لِلرَّبِّ، مَفْسَدَةٌ لِلْقَلْبِ.
وأخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ، وأحْمَدُ، والتِّرْمِذِيُّ، وابْنُ ماجَهْ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، والطَّبَرانِيُّ، وغَيْرُهم عَنْ أبِي أُمامَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ قالَ: ««لا تَبِيعُوا القَيْناتِ ولا تَشْتَرُوهُنَّ، ولا تُعَلِّمُوهُنَّ ولا خَيْرَ في تِجارَةٍ فِيهِنَّ، وثَمَنُهُنَّ حَرامٌ في مِثْلِ هَذا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: ﴿ومِنَ النّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ﴾ إلى آخِرِ الآيَةِ»»
وفِي رِوايَةِ ابْنِ أبِي الدُّنْيا، وابْنِ مَرْدُوَيْهِ عَنْ عائِشَةَ قالَتْ: «قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: «إنَّ اللَّهَ تَعالى حَرَّمَ القَيْنَةَ وبَيْعَها وثَمَنَها وتَعْلِيمَها والِاسْتِماعَ إلَيْها ثُمَّ قَرَأ: ﴿ومِنَ النّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ﴾»
ويَعُودُ هَذا ونَحْوُهُ إلى ذَمِّ الغِناءِ.
وقِيلَ: الغِناءُ جاسُوسُ القَلْبِ وسارِقُ المُرُوءَةِ والعُقُولِ، يَتَغَلْغَلُ في سُوَيْداءِ القُلُوبِ ويَطَّلِعُ عَلى سَرائِرِ الأفْئِدَةِ، ويَدِبُّ إلى بَيْتِ التَّخْيِيلِ فَيَنْشُرُ ما غُرِزَ فِيها مِنَ الهَوى، والشَّهْوَةِ، والسَّخافَةِ، والرُّعُونَةِ، فَبَيْنَما تَرى الرَّجُلَ وعَلَيْهِ سَمْتُ الوَقارِ، وبَهاءُ العَقْلِ، وبَهْجَةُ الإيمانِ، ووَقارُ العِلْمِ، كَلامُهُ حِكْمَةٌ، وسُكُوتُهُ عِبْرَةٌ فَإذا سَمِعَ الغِناءَ نَقَصَ عَقْلُهُ وحَياؤُهُ، وذَهَبَتْ مُرُوءَتُهُ وبَهاؤُهُ، فَيَسْتَحْسِنُ ما كانَ قَبْلَ السَّماعِ يَسْتَقْبِحُهُ، ويُبْدِي مِن أسْرارِهِ ما كانَ يَكْتُمُهُ، ويَنْتَقِلُ مِن بَهاءِ السُّكُوتِ والسُّكُونِ إلى كَثْرَةِ الكَلامِ، والهَذَيانِ، والِاهْتِزازِ، كَأنَّهُ جانٌّ، ورُبَّما صَفَّقَ بِيَدَيْهِ ودَقَّ الأرْضَ بِرِجْلَيْهِ، وهَكَذا تَفْعَلُ الخَمْرُ إلى غَيْرِ ذَلِكَ، واخْتَلَفَ العُلَماءُ في حُكْمِهِ، فَحَكى تَحْرِيمَهُ عَنِ الإمامِ أبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ القاضِي أبُو الطَّيِّبِ، والقُرْطُبِيُّ، والماوَرْدِيُّ، والقاضِي عِياضٌ.
وفِي التّاتارِخانِيَّةِ: اعْلَمْ أنَّ التَّغَنِّيَ حَرامٌ في جَمِيعِ الأدْيانِ، وذُكِرَ في الزِّياداتِ أنَّ الوَصِيَّةَ لِلْمُغَنِّينَ والمُغَنِّياتِ مِمّا هو مَعْصِيَةٌ عِنْدَنا، وعِنْدَ أهْلِ الكِتابِ، وحُكِيَ عَنْ ظَهِيرِ الدِّينِ المِرْغِينانِيِّ: أنَّهُ قالَ: مَن قالَ لِمُقْرِئِ زَمانِنا: أحْسَنْتَ عِنْدَ قِراءَتِهِ كَفَرَ. وصاحِبا الهِدايَةِ والذَّخِيرَةِ سَمَّياهُ كَبِيرَةً.
هَذا في التَّغَنِّي لِلنّاسِ في غَيْرِ الأعْيادِ والأعْراسِ، ويَدْخُلُ فِيهِ تَغَنِّي صُوفِيَّةِ زَمانِنا في المَساجِدِ والدَّعَواتِ بِالأشْعارِ والأذْكارِ مَعَ اخْتِلاطِ أهْلِ الأهْواءِ، والمُرادُ بَلْ هَذا أشَدُّ مِن كُلِّ تَغَنٍّ، لِأنَّهُ مَعَ اعْتِقادِ العِبادَةِ، وأمّا التَّغَنِّي وحْدَهُ بِالأشْعارِ لِدَفْعِ الوَحْشَةِ، أوْ في الأعْيادِ والأعْراسِ فاخْتَلَفُوا فِيهِ، والصَّوابُ مَنعُهُ مُطْلَقًا في هَذا الزَّمانِ انْتَهى.
وفِي الدُّرِّ المُخْتارِ التَّغَنِّي لِنَفْسِهِ لِدَفْعِ الوَحْشَةِ لا بَأْسَ بِهِ عِنْدَ العامَّةِ عَلى ما في العِنايَةِ، وصَحَّحَهُ (p-69)العَيْنِيُّ، وغَيْرُهُ. قالَ: ولَوْ فِيهِ وعْظٌ وحِكْمَةٌ فَجائِزٌ اتِّفاقًا، ومِنهم مَن أجازَهُ في العُرْسِ، كَما جازَ ضَرْبُ الدُّفِّ فِيهِ، ومِنهم مَن أباحَهُ مُطْلَقًا، ومِنهم مَن كَرِهَهُ مُطْلَقًا انْتَهى. وفي البَحْرِ: والمَذْهَبُ حُرْمَتُهُ مُطْلَقًا، فانْقَطَعَ الِاخْتِلافُ بَلْ ظاهِرُ الهِدايَةِ أنَّهُ كَبِيرَةٌ، ولَوْ لِنَفْسِهِ، وأقَرَّهُ المُصَنِّفُ، وقالَ: ولا تُقْبَلُ شَهادَةُ مَن يَسْمَعُ الغِناءَ، أوْ يَجْلِسُ مَجْلِسَهُ انْتَهى كَلامُ الدُّرِّ.
وذَكَرَ الإمامُ أبُو بَكْرٍ الطَّرَسُوسِيُّ في كِتابِهِ في تَحْرِيمِ السَّماعِ أنَّ الإمامَ أبا حَنِيفَةَ يَكْرَهُ الغِناءَ ويَجْعَلُهُ مِنَ الذُّنُوبِ وكَذَلِكَ مَذْهَبُ أهْلِ الكُوفَةِ سُفْيانَ، وحَمّادٍ، وإبْراهِيمَ، والشَّعْبِيِّ، وغَيْرِهِمْ، لا اخْتِلافَ بَيْنَهم في ذَلِكَ، ولا نَعْلَمُ خِلافًا بَيْنَ أهْلِ البَصْرَةِ في كَراهَةِ ذَلِكَ، والمَنعِ مِنهُ انْتَهى، وكَأنَّ مُرادَهُ بِالكَراهَةِ الحُرْمَةُ، والمُتَقَدِّمُونَ كَثِيرًا ما يُرِيدُونَ بِالمَكْرُوهِ الحَرامَ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿كُلُّ ذَلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا﴾ [الإسْراءُ: 38]، ونَقَلَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ فِيهِ أيْضًا عَنِ الإمامِ مالِكٍ أنَّهُ نَهى عَنِ الغِناءِ، وعَنِ اسْتِماعِهِ، وقالَ: إذا اشْتَرى جارِيَةً فَوَجَدَها مُغَنِّيَةً فَلَهُ أنْ يَرُدَّها بِالعَيْبِ، وإنَّهُ سُئِلَ: ما تَرَخَّصَ فِيهِ أهْلُ المَدِينَةِ مِنَ الغِناءِ؟ فَقالَ: إنَّما يَفْعَلُهُ عِنْدَنا الفُسّاقُ؟ ونُقِلَ التَّحْرِيمُ عَنْ جَمْعٍ مِنَ الحَنابِلَةِ عَلى ما حَكاهُ شارِحُ المُقْنِعِ وغَيْرُهُ، وذَكَرَ شَيْخُ الإسْلامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ في كِتابِ (البُلْغَةِ) أنَّ أكْثَرَ أصْحابِهِمْ عَلى التَّحْرِيمِ، وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ الإمامِ أحْمَدَ أنَّهُ قالَ: سَألْتُ أبِي عَنِ الغِناءِ؟ فَقالَ: يُنْبِتُ النِّفاقَ في القَلْبِ، لا يُعْجِبُنِي، ثُمَّ ذَكَرَ قَوْلَ مالِكٍ: إنَّما يَفْعَلُهُ عِنْدَنا الفُسّاقُ، وقالَ المُحاسِبِيُّ في رِسالَةِ الإنْشاءِ: الغِناءُ حَرامٌ كالمَيْتَةِ، ونَقَلَ الطَّرَسُوسِيُّ أيْضًا عَنْ كِتابِ أدَبِ القَضاءِ أنَّ الإمامَ الشّافِعِيَّ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ قالَ: إنَّ الغِناءَ لَهْوٌ مَكْرُوهٌ يُشْبِهُ الباطِلَ، والمُحالُ مَنِ اسْتَكْثَرَ مِنهُ، فَهو سَفِيهٌ تُرَدُّ شَهادَتُهُ، وفِيهِ: أنَّهُ صَرَّحَ أصْحابُهُ العارِفُونَ بِمَذْهَبِهِ بِتَحْرِيمِهِ، وأنْكَرُوا عَلى مَن نَسَبَ إلَيْهِ حِلَّهُ، كالقاضِي أبِي الطَّيِّبِ، والطَّبَرِيِّ، والشَّيْخِ أبِي إسْحاقَ في التَّنْبِيهِ، وذَكَرَ بَعْضُ تَلامِذَةِ البَغَوِيِّ في كِتابِهِ الَّذِي سَمّاهُ التَّقْرِيبَ: أنَّ الغِناءَ حَرامٌ فِعْلُهُ وسَماعُهُ، وقالَ ابْنُ الصَّلاحِ في فَتاواهُ بَعْدَ كَلامٍ طَوِيلٍ: فَإذَنْ هَذا السَّماعُ حَرامٌ بِإجْماعِ أهْلِ الحِلِّ والعَقْدِ مِنَ المُسْلِمِينَ انْتَهى. والَّذِي رَأيْتُهُ في الشَّرْحِ الكَبِيرِ لِلْجامِعِ الصَّغِيرِ لِلْفاضِلِ المُناوِيِّ: أنَّ مَذْهَبَ الشّافِعِيِّ أنَّهُ مَكْرُوهٌ تَنْزِيهًا عِنْدَ أمْنِ الفِتْنَةِ، وفي المِنهاجِ يُكْرَهُ الغِناءُ بِلا آلَةٍ، قالَ العَلّامَةُ ابْنُ حَجَرٍ: لِما صَحَّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ، وذَكَرَ الحَدِيثَ السّابِقَ المَوْقُوفَ عَلَيْهِ، وإنَّهُ جاءَ مَرْفُوعًا مِن طُرُقٍ كَثِيرَةٍ بَيَّنَها في كِتابِهِ (كَفُّ الرِّعاعِ عَنْ مُحَرَّماتِ اللَّهْوِ والسَّماعِ)، ثُمَّ قالَ: وزَعَمَ أنَّهُ لا دِلالَةَ فِيهِ عَلى كَراهَتِهِ، لِأنَّ بَعْضَ المُباحَ كَلُبْسِ الثِّيابِ الجَمِيلَةِ يُنْبِتُ النِّفاقَ في القَلْبِ، ولَيْسَ بِمَكْرُوهٍ، يُرَدُّ بِأنّا لا نُسَلِّمُ أنَّ هَذا يُنْبِتُ نِفاقًا أصْلًا، ولَئِنْ سَلَّمْناهُ فالنِّفاقُ مُخْتَلِفٌ، فالنِّفاقُ الَّذِي يُنْبِتُهُ الغِناءُ مِنَ التَّخَنُّثِ، وما يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أقْبَحُ وأشْنَعُ، كَما لا يَخْفى، ثُمَّ قالَ: وقَدْ جَزَمَ الشَّيْخانِ يَعْنِي النَّوَوِيَّ والرّافِعِيَّ في مَوْضِعٍ بِأنَّهُ مَعْصِيَةٌ، ويَنْبَغِي حَمْلُهُ عَلى ما فِيهِ وصْفٌ نَحْوُ خَمْرٍ، أوْ تَشَبُّبٍ بِأمْرَدَ، أوْ أجْنَبِيَّةٍ، ونَحْوُ ذَلِكَ مِمّا يَحْمِلُ غالِبًا عَلى مَعْصِيَةٍ، قالَ الأذْرُعِيُّ: أمّا ما اعْتِيدَ عِنْدَ مُحاوَلَةِ عَمَلٍ، وحَمْلِ ثَقِيلٍ، كَحُداءِ الأعْرابِ لِإبِلِهِمْ، والنِّساءِ لِتَسْكِينِ صِغارِهِنَّ، فَلا شَكَّ في جَوازِهِ، بَلْ رُبَّما يُنْدَبُ إذا نَشَّطَ عَلى سَيْرٍ، أوْ رَغَّبَ في خَيْرٍ، كَ الحُداءِ في الحَجِّ والغَزْوِ، وعَلى هَذا يُحْمَلُ ما جاءَ عَنْ بَعْضِ الصَّحابَةِ انْتَهى، وقَضِيَّةُ قَوْلِهِمْ: بِلا آلَةٍ، حُرْمَتُهُ مَعَ الآلَةِ، قالَ الزَّرْكَشِيُّ: لَكِنَّ القِياسَ تَحْرِيمُ الآلَةِ فَقَطْ، وبَقاءُ الغِناءِ عَلى الكَراهَةِ انْتَهى.
(p-70)ومِثْلُ الِاخْتِلافِ في الغِناءِ الِاخْتِلافُ في السَّماعِ، فَأباحَهُ قَوْمٌ كَما أباحُوا الغِناءَ واسْتَدَلُّوا عَلى ذَلِكَ بِما رَواهُ البُخارِيُّ عَنْ عائِشَةَ قالَتْ: ««دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ وعِنْدِي جارِيَتانِ تُغَنِّيانِ بِغِناءِ بُعاثَ، فاضْطَجَعَ عَلى الفِراشِ، وحَوَّلَ وجْهَهُ» - وفي رِوايَةٍ لِمُسْلِمٍ - «تَسَجّى بِثَوْبِهِ، ودَخَلَ أبُو بَكْرٍ فانْتَهَرَنِي وقالَ: مِزْمارَةُ الشَّيْطانِ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ؟ فَأقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ فَقالَ: دَعْهُما، فَلَمّا غَفَلَ، غَمَزْتُهُما، فَخَرَجَتا، وكانَ يَوْمَ عِيدٍ»» الحَدِيثَ.
ووَجْهُ الِاسْتِدْلالِ أنَّ هُناكَ غِناءً، أوْ سَماعًا، وقَدْ أنْكَرَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إنْكارَ أبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ، بَلْ فِيهِ دَلِيلٌ أيْضًا عَلى جَوازِ سَماعِ الرَّجُلِ صَوْتَ الجارِيَةِ، ولَوْ لَمْ تَكُنْ مَمْلُوكَةً، لِأنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ سَمِعَ ولَمْ يُنْكِرْ عَلى أبِي بَكْرٍ سَماعَهُ، بَلْ أنْكَرَ إنْكارَهُ، وقَدِ اسْتَمَرَّتا تُغَنِّيانِ إلى أنْ أشارَتْ إلَيْهِما عائِشَةُ بِالخُرُوجِ. وإنْكارُ أبِي بَكْرٍ عَلى ابْنَتِهِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما مَعَ عِلْمِهِ بِوُجُودِ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ كانَ لِظَنِّ أنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ بِعِلْمِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لِكَوْنِهِ دَخَلَ فَوَجَدَهُ مُغَطًّى بِثَوْبِهِ، فَظَنَّهُ نائِمًا. وفي فَتْحِ البارِي اسْتَدَلَّ جَماعَةٌ مِنَ الصُّوفِيَّةِ بِهَذا الحَدِيثِ عَلى إباحَةِ الغِناءِ وسَماعِهِ بِآلَةٍ وبِغَيْرِ آلَةٍ. ويَكْفِي في رَدِّ ذَلِكَ ما رَواهُ البُخارِيُّ أيْضًا بُعَيْدَهُ عَنْ عائِشَةَ أيْضًا قالَتْ: ««دَخْلَ عَلَيَّ أبُو بَكْرٍ وعِنْدِي جارِيَتانِ مِن جَوارِي الأنْصارِ تُغَنِّيانِ بِما تَقاوَلَتِ الأنْصارُ يَوْمَ بُعاثَ، قالَتْ: ولَيْسَتا بِمُغَنِّيَتَيْنِ، فَقالَ أبُو بَكْرٍ: أبِمَزامِيرِ الشَّيْطانِ في بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ؟ وذَلِكَ في يَوْمِ عِيدٍ، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: يا أبا بَكْرٍ، إنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا، وهَذا عِيدُنا»»
فَنَفَتْ فِيهِ عَنْهُما مِن طَرِيقِ المَعْنى ما أثْبَتَتْهُ لَهُما بِاللَّفْظِ، لِأنَّ الغِناءَ يُطْلَقُ عَلى رَفْعِ الصَّوْتِ، وعَلى التَّرَنُّمِ الَّذِي تُسَمِّيهِ العَرَبُ النَّصْبَ بِفَتْحِ النُّونِ وسُكُونِ المُهْمَلَةِ، وعَلى الحُداءِ، ولا يُسَمّى فاعِلُهُ مُغَنِّيًا، وإنَّما يُسَمّى بِذَلِكَ مَن يُنْشِدُ بِتَمْطِيطٍ، وتَكْسِيرٍ، وتَهْيِيجٍ، وتَشْوِيقٍ بِما فِيهِ تَعْرِيضٌ بِالفَواحِشِ أوْ تَصْرِيحٌ.
قالَ القُرْطُبِيُّ: قَوْلُها «لَيْسَتا بِمُغَنِّيَتَيْنِ» أيْ لَيْسَتا مِمَّنْ يَعْرِفُ الغِناءَ كَما تَعْرِفُهُ المُغَنِّياتُ المَعْرُوفاتُ بِذَلِكَ، وهَذا مِنهُما تَجَوُّزٌ عَنِ الغِناءِ المُعْتادِ عِنْدَ المُشْتَهِرِينَ بِهِ، وهو الَّذِي يُحَرِّكُ السّاكِنَ، ويَبْعَثُ الكامِنَ، وهَذا النَّوْعُ إذا كانَ في شِعْرٍ فِيهِ وصْفُ مَحاسِنِ النِّساءِ والخَمْرِ وغَيْرِهِما مِنَ الأُمُورِ المُحَرَّمَةِ، لا يُخْتَلَفُ في تَحْرِيمِهِ، وأمّا ما ابْتَدَعَهُ الصُّوفِيَّةُ في ذَلِكَ فَمِن قَبِيلِ ما لا يُخْتَلَفُ في تَحْرِيمِهِ، لَكِنَّ النُّفُوسَ الشَّهْوانِيَّةَ غَلَبَتْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ يُنْسَبُ إلى الخَيْرِ، حَتّى لَقَدْ ظَهَرَتْ في كَثِيرٍ مِنهم فِعْلاتُ المَجانِينِ والصِّبْيانِ حَتّى رَقَصُوا بِحَرَكاتٍ مُتَطابِقَةٍ، وتَقْطِيعاتٍ مُتَلاحِقَةٍ وانْتَهى التَّواقُحُ بِقَوْمٍ مِنهم إلى أنْ جَعَلُوها مِن بابِ القُرْبِ وصالِحِ الأعْمالِ، وأنَّ ذَلِكَ يُثْمِرُ سِنِي الأحْوالِ، وهَذا عَلى التَّحْقِيقِ مِن آثارِ الزَّنْدَقَةِ، وقَوْلِ أهْلِ المَخْرَقَةِ، واللَّهُ تَعالى المُسْتَعانُ انْتَهى كَلامُ القُرْطُبِيِّ، وكَذا الغَرَضُ مِن كَلامِ فَتْحِ البارِي، وهو كَلامٌ حَسَنٌ بَيْدَ أنَّ قَوْلَهُ: وإنَّما يُسَمّى بِذَلِكَ مَن يُنْشِدُ إلَخْ، لا يَخْلُو عَنْ شَيْءٍ، بِناءً عَلى أنَّ المُتَبادِرَ عُمُومُ ذَلِكَ، لِما يَكُونُ في المُنْشِدِ مِنهُ تَعْرِيضٌ أوْ تَصْرِيحٌ بِالفَواحِشِ، ولِما لا يَكُونُ فِيهِ ذَلِكَ، وقالَ بَعْضُ الأجِلَّةِ: لَيْسَ في الخَبَرِ الإباحَةُ مُطْلَقًا، بَلْ قُصارى ما فِيهِ إباحَتُهُ في سُرُورٍ شَرْعِيٍّ، كَما في الأعْيادِ، والأعْراسِ، فَهو دَلِيلٌ لِمَن أجازَهُ في العُرْسِ، كَما أجازَ ضَرْبَ الدُّفِّ فِيهِ، وأيْضًا إنْكارُ أبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ ظاهِرٌ في أنَّهُ كانَ سَمِعَ مِن رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ ذَمَّ الغِناءِ، والنَّهْيَ عَنْهُ، فَظَنَّ عُمُومَ الحُكْمِ فَأنْكَرَ، وبِإنْكارِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ عَلَيْهِ إنْكارَهُ تَبَيَّنَ لَهُ عَدَمُ العُمُومِ. وفي الخَبَرِ الآخَرِ ما يَدُلُّ عَلى أنَّهُ أوْضَحَ لَهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ الحالَ مَقْرُونًا بِبَيانِ الحِكْمَةِ، وهو أنَّهُ يَوْمُ عِيدٍ، فَلا يُنْكَرُ فِيهِ مِثْلُ هَذا، كَما لا يُنْكَرُ في الأعْراسِ، ومَعَ هَذا أشارَ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ بِالتِفافِهِ بِثَوْبِهِ، وتَحْوِيلِ وجْهِهِ الشَّرِيفِ إلى أنَّ الإعْراضَ عَنْ ذَلِكَ أوْلى، وسَماعَ (p-71)صَوْتِ الجارِيَةِ الغَيْرِ المَمْلُوكَةِ بِمِثْلِ هَذا الغِناءِ إذا أُمِنَتِ الفِتْنَةُ مِمّا لا بَأْسَ بِهِ، فَلْيَكُنِ الخَبَرُ دَلِيلًا عَلى جَوازِهِ.
واسْتَدَلَّ بَعْضُهم عَلى ذَلِكَ بِما جاءَ عَنْ أنَسِ بْنِ مالِكٍ أنَّهُ دَخَلَ عَلى أخِيهِ البَراءِ بْنِ مالِكٍ، وكانَ مِن دُهاةِ الصَّحابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُمْ، وكانَ يَتَغَنّى، ولا يَخْفى ما فِيهِ، فَإنَّ هَذا التَّغَنِّيَ لَيْسَ بِالمَعْنى المَشْهُورِ، ونَحْوُهُ التَّغَنِّي في قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ««لَيْسَ مِنّا مَن لَمْ يَتَغَنَّ بِالقُرْآنِ»»
وسُفْيانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، وأبُو عُبَيْدَةَ فَسَّرا التَّغَنِّيَ في هَذا الحَدِيثِ بِالِاسْتِغْناءِ، فَكَأنَّهُ قِيلَ: لَيْسَ مِنّا مَن لَمْ يَسْتَغْنِ بِالقُرْآنِ عَنْ غَيْرِهِ، وهو مَعَ هَذا تَغَنٍّ لِإزالَةِ الوَحْشَةِ عَنْ نَفْسِهِ في عُقْرِ دارِهِ، ومِثْلُهُ ما رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْفٍ قالَ: أتَيْتُ بابَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ، فَسَمِعْتُهُ يُغَنِّي:
؎فَكَيْفَ ثَوائِي بِالمَدِينَةِ بَعْدَ ما قَضى وطَرًا مِنها جَمِيلُ بْنُ مَعْمَرِ
أرادَ بِهِ جَمِيلًا الجُمَحِيَّ، وكانَ خاصًّا بِهِ، فَلَمّا اسْتَأْذَنْتُ عَلَيْهِ، قالَ لِي: أسَمِعْتَ ما قُلْتُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قالَ: إنّا إذا خَلَوْنا قُلْنا ما يَقُولُ النّاسُ في بُيُوتِهِمْ. وحَرَّمَ جَماعَةٌ السَّماعَ مُطْلَقًا، وقالَ الغَزالِيُّ: السَّماعُ إمّا مَحْبُوبٌ بِأنْ غَلَبَ عَلى السّامِعِ حُبُّ اللَّهِ تَعالى، ولِقائِهِ، لِيَسْتَخْرِجَ بِهِ أحْوالًا مِنَ المُكاشَفاتِ والمُلاطَفاتِ، وإمّا مُباحٌ بِأنْ كانَ عِنْدَهُ عِشْقٌ مُباحٌ لِحَلِيلَتِهِ، أوْ لَمْ يَغْلِبْ عَلَيْهِ حُبُّ اللَّهِ تَعالى ولا الهَوى، وإمّا مُحَرَّمٌ بِأنْ غَلَبَ عَلَيْهِ هَوًى مُحَرَّمٌ.
وسُئِلَ العِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلامِ عَنِ اسْتِماعِ الإنْشادِ في المَحَبَّةِ والرَّقْصِ، فَقالَ: الرَّقْصُ بِدْعَةٌ لا يَتَعاطاهُ إلّا ناقِصُ العَقْلِ، فَلا يَصْلُحُ إلّا لِلنِّساءِ، وأمّا اسْتِماعُ الإنْشادِ المُحَرِّكِ لِلْأحْوالِ السُّنِّيَّةِ وذِكْرِ أُمُورِ الآخِرَةِ، فَلا بَأْسَ بِهِ، بَلْ يُنْدَبُ عِنْدَ الفُتُورِ، وسَآمَةِ القَلْبِ، ولا يَحْضُرُ السَّماعَ مَن في قَلْبِهِ هَوًى خَبِيثٌ، فَإنَّهُ يُحَرِّكُ ما في القَلْبِ، وقالَ أيْضًا: السَّماعُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلافِ السّامِعِينَ والمَسْمُوعِ مِنهُمْ، وهم إمّا عارِفُونَ بِاللَّهِ تَعالى، ويَخْتَلِفُ سَماعُهم بِاخْتِلافِ أحْوالِهِمْ، فَمَن غَلَبَ عَلَيْهِ الخَوْفُ أثَّرَ فِيهِ السَّماعُ عِنْدَ ذِكْرِ المُخَوِّفاتِ نَحْوِ حُزْنٍ وبُكاءٍ، وتَغَيُّرِ لَوْنٍ، وهو إمّا خَوْفُ عِقابٍ، أوْ فَواتِ ثَوابٍ، أوْ أُنْسٍ، وقُرْبٍ، وهو أفْضَلُ الخائِفِينَ والسّامِعِينَ، وتَأْثِيرُ القُرْآنِ فِيهِ أشَدُّ، ومَن غَلَبَ عَلَيْهِ الرَّجاءُ أثَّرَ فِيهِ السَّماعُ عِنْدَ ذِكْرِ المُطَمِّعاتِ والمُرَجِّياتِ، فَإنْ كانَ رَجاؤُهُ لِلْأُنْسِ والقُرْبِ كانَ سَماعُهُ أفْضَلَ سَماعِ الرّاجِينَ، وإنْ كانَ رَجاؤُهُ لِلثَّوابِ، فَهَذا في المَرْتَبَةِ الثّانِيَةِ، وتَأْثِيرُ السَّماعِ في الأوَّلِ أشَدُّ مِن تَأْثِيرِهِ في الثّانِي، ومَن غَلَبَ عَلَيْهِ حُبُّ اللَّهِ تَعالى لِإنْعامِهِ فَيُؤَثِّرُ فِيهِ سَماعُ الإنْعامِ والإكْرامِ، أوْ لِجَمالِهِ سُبْحانَهُ المُطْلَقِ فَيُؤَثِّرُ فِيهِ ذِكْرُ شَرَفِ الذّاتِ وكَمالِ الصِّفاتِ، وهو أفْضَلُ مِمّا قَبْلَهُ، لِأنَّ سَبَبَ حُبِّهِ أفْضَلُ الأسْبابِ، ويَشْتَدُّ التَّأْثِيرُ فِيهِ عِنْدَ ذِكْرِ الإقْصاءِ والإبْعادِ، ومَن غَلَبَ عَلَيْهِ التَّعْظِيمُ والإجْلالُ وهو أفْضَلُ مِن جَمِيعِ ما قَبْلَهُ، وتَخْتَلِفُ أحْوالُ هَؤُلاءِ في المَسْمُوعِ مِنهُ، فالسَّماعُ مِنَ الوَلِيِّ أشَدُّ تَأْثِيرًا مِنَ السَّماعِ مِن عامِّيٍّ، ومِن نَبِيٍّ أشَدُّ تَأْثِيرًا مِنهُ ومِن ولِيٍّ، ومِنَ الرَّبِّ عَزَّ وجَلَّ أشَدُّ تَأْثِيرًا مِنَ السَّماعِ مِن نَبِيٍّ، لِأنَّ كَلامَ المَهِيبِ أشَدُّ تَأْثِيرًا في الهائِبِ مِن كَلامِ غَيْرِهِ كَما أنَّ كَلامَ الحَبِيبِ أشَدُّ تَأْثِيرًا في المُحِبِّ مِن كَلامِ غَيْرِهِ، ولِهَذا لَمْ يَشْتَغِلِ النَّبِيُّونَ والصِّدِّيقُونَ وأصْحابُهم بِسَماعِ المَلاهِي والغِناءِ، واقْتَصَرُوا عَلى كَلامِ رَبِّهِمْ جَلَّ شَأْنُهُ، ومَن يَغْلِبُ عَلَيْهِ هَوًى مُحَرَّمٌ يَعْشَقُ حَلِيلَتَهُ فَهو يُؤَثِّرُ فِيهِ آثارُ الشَّوْقِ وخَوْفُ الفِراقِ ورَجاءُ التَّلاقِ، فَسَماعُهُ لا بَأْسَ بِهِ، ومَن يَغْلِبُ عَلَيْهِ هَوًى مُحَرَّمٌ كَعِشْقِ أمْرَدَ، أوْ أجْنَبِيَّةٍ، فَهو يُؤَثِّرُ فِيهِ السَّعْيُ إلى الحَرامِ، وما أدّى إلى الحَرامِ فَهو حَرامٌ، وأمّا مَن لَمْ يَجِدْ في نَفْسِهِ شَيْئًا مِن هَذِهِ الأقْسامِ السِّتَّةِ، فَيُكْرَهُ سَماعُهُ مِن جِهَةِ أنَّ الغالِبَ عَلى العامَّةِ إنَّما هي الأهْواءُ الفاسِدَةُ، فَرُبَّما هَيَّجَهُ السَّماعُ إلى صُورَةٍ مُحَرَّمَةٍ فَيَتَعَلَّقُ بِها، ويَمِيلُ إلَيْها، ولا يَحْرُمُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، لِأنّا لا نَتَحَقَّقُ السَّبَبَ المُحَرَّمَ، وقَدْ يَحْضُرُ السَّماعَ قَوْمٌ مِنَ الفَجَرَةِ (p-72)فَيَبْكُونَ، ويَنْزَعِجُونَ لِأغْراضٍ خَبِيثَةٍ انْطَوَوْا عَلَيْها، ويُراؤُونَ الحاضِرِينَ بِأنَّ سَماعَهم لِشَيْءٍ مَحْبُوبٍ، وهَؤُلاءِ قَدْ جَمَعُوا بَيْنَ المَعْصِيَةِ، وبَيْنَ إيهامِ كَوْنِهِمْ مِنَ الصّالِحِينَ، وقَدْ يَحْضُرُ السَّماعَ قَوْمٌ قَدْ فَقَدُوا أهالِيَهُمْ، ومَن يَعِزُّ عَلَيْهِمْ ويُذَكِّرُهُمُ المُنْشِدُ فِراقَ الأحِبَّةِ وعَدَمَ الأُنْسِ، فَيَبْكِي أحَدُهم ويُوهِمُ الحاضِرِينَ أنَّ بُكاءَهُ لِأجْلِ رَبِّ العالَمِينَ جَلَّ وعَلا، وهَذا مُراءٍ بِأمْرٍ غَيْرِ مُحَرَّمٍ، ثُمَّ قالَ: اعْلَمْ أنَّهُ لا يَحْصُلُ السَّماعُ المَحْمُودُ إلّا عِنْدَ ذِكْرِ الصِّفاتِ المُوجِبَةِ لِلْأحْوالِ السُّنِّيَّةِ والأفْعالِ الرَّضِيَّةِ، ولِكُلِّ صِفَةٍ مِنَ الصِّفاتِ حالٌ مُخْتَصٌّ بِها، فَمَن ذَكَرَ صِفَةَ الرَّحْمَةِ أوْ ذُكِّرَ بِها كانَتْ حالُهُ حالَ الرّاجِينَ وسَمْعُهُ سَماعَهُمْ، ومَن ذَكَرَ شِدَّةَ النِّقْمَةِ أوْ ذُكِّرَ بِها كانَتْ حالُهُ حالَ الخائِفِينَ وسَماعُهُ سَماعَهُمْ، وعَلى هَذا القِياسُ، وقَدْ تَغْلِبُ الأحْوالُ عَلى بَعْضِهِمْ بِحَيْثُ لا يُصْغِي إلى ما يَقُولُهُ المُنْشِدُ، ولا يَلْتَفِتُ إلَيْهِ لِغَلَبَةِ حالِهِ الأُولى عَلَيْهِ انْتَهى، وقَدْ نَقَلَهُ بَعْضُ الأجِلَّةِ، وأقَرَّهُ، وفِيهِ ما يُخالِفُ ما نُقِلَ عَنِ الغَزالِيِّ.
ونَقَلَ القاضِي حُسَيْنٌ عَنِ الجُنَيْدِ قُدِّسَ سِرُّهُ أنَّهُ قالَ: النّاسُ في السَّماعِ إمّا عَوامُّ وهو حَرامٌ عَلَيْهِمْ لِبَقاءِ نُفُوسِهِمْ، وإمّا زُهّادٌ وهو مُباحٌ لَهم لِحُصُولِ مُجاهَدَتِهِمْ، وإمّا عارِفُونَ وهو مُسْتَحَبٌّ لَهم لِحَياةِ قُلُوبِهِمْ، وذَكَرَ نَحْوَهُ أبُو طالِبٍ المَكِّيُّ، وصَحَّحَهُ السَّهْرَوَرْدِيُّ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ في عَوارِفِهِ، والظّاهِرُ أنَّ الجُنَيْدَ أرادَ بِالحَرامِ مَعْناهُ الِاصْطِلاحِيَّ.
واسْتَظْهَرَ بَعْضُهم أنَّهُ لَمْ يَرِدْ ذَلِكَ، وإنَّما أرادَ أنَّهُ لا يَنْبَغِي، ونَقَلَ بَعْضُهم عَنِ الجُنَيْدِ قُدِّسَ سِرُّهُ أنَّهُ سُئِلَ عَنِ السَّماعِ فَقالَ: هو ضَلالٌ لِلْمُبْتَدِي والمُنْتَهِي، لا يُحْتاجُ إلَيْهِ، وفِيهِ مُخالَفَةٌ لِما سَمِعْتَ.
وقالَ القُشَيْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى: إنَّ لِلسَّماعِ شَرائِطَ مِنها: مَعْرِفَةُ الأسْماءِ والصِّفاتِ لِيَعْلَمَ صِفاتِ الذّاتِ مِن صِفاتِ الأفْعالِ، وما يَمْتَنِعُ في نَعْتِ الحَقِّ سُبْحانَهُ، وما يَجُوزُ وصْفُهُ تَعالى بِهِ، وما يَجِبُ، وما يَصِحُّ إطْلاقُهُ عَلَيْهِ عَزَّ شَأْنُهُ مِنَ الأسْماءِ، وما يَمْتَنِعُ، ثُمَّ قالَ: فَهَذِهِ شَرائِطُ صِحَّةِ السَّماعِ عَلى لِسانِ أهْلِ التَّحْصِيلِ مِن ذَوِي العُقُولِ، وأمّا عِنْدَ أهْلِ الحَقائِقِ فالشَّرْطُ فَناءُ النَّفْسِ بِصِدْقِ المُجاهَدَةِ، ثُمَّ حَياةُ القَلْبِ بِرُوحِ المُشاهَدَةِ، فَمَن لَمْ تَتَقَدَّمْ بِالصِّحَّةِ مُعامَلَتُهُ ولَمْ تَحْصُلْ بِالصِّدْقِ مُنازَلَتُهُ فَسَماعُهُ ضَياعٌ وتَواجُدُهُ طِباعٌ، والسَّماعُ فِتْنَةٌ يَدْعُو إلَيْها اسْتِيلاءُ العِشْقِ إلّا عِنْدَ سُقُوطِ الشَّهْوَةِ وحُصُولِ الصَّفْوَةِ، وأطالَ بِما يَطُولُ ذِكْرُهُ، قِيلَ: وبِهِ يَتَبَيَّنُ تَحْرِيمُ السَّماعِ عَلى أكْثَرِ مُتَصَوِّفَةِ الزَّمانِ لِعَقْدِ شُرُوطِ القِيامِ بِأدائِهِ. ومِنَ العَجَبِ أنَّهم يَنْسُبُونَ السَّماعَ والتَّواجُدَ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.
ويَرْوُونَ عَنْ عَطِيَّةَ «أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ دَخَلَ عَلى أصْحابِ الصُّفَّةِ يَوْمًا فَجَلَسَ بَيْنَهُمْ، وقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والتَّحِيَّةُ: هَلْ فِيكم مَن يُنْشِدُنا أبْياتًا. فَقالَ واحِدٌ:
؎لَسَعَتْ حَيَّةُ الهَوى كَبِدِي ∗∗∗ ولا طَبِيبَ لَها ولا راقِي
؎إلّا الحَبِيبُ الَّذِي شُغِفَتْ بِهِ ∗∗∗ فَعِنْدَهُ رُقْيَتِي وتِرْياقِي
فَقامَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وتَمايَلَ حَتّى سَقَطَ الرِّداءُ الشَّرِيفُ عَنْ مَنكِبَيْهِ، فَأخَذَهُ أصْحابُ الصُّفَّةِ فَقَسَّمُوهُ فِيما بَيْنَهم بِأرْبَعِمِائَةِ قِطْعَةٍ».
وهُوَ لَعَمْرِي كَذِبٌ صَرِيحٌ، وإفْكٌ قَبِيحٌ، لا أصْلَ لَهُ بِإجْماعِ مُحَدِّثِي أهْلِ السُّنَّةِ، وما أُراهُ إلّا مِن وضْعِ الزَّنادِقَةِ. فَهَذا القُرْآنُ العَظِيمُ يَتْلُوهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ عَلَيْهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، ويَتْلُوهُ هو أيْضًا ويَسْمَعُهُ مِن غَيْرِ واحِدٍ، ولا يَعْتَرِيهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ شَيْءٌ مِمّا ذَكَرُوهُ في سَماعِ بَيْتَيْنِ هُما كَما سَمِعْتَ، سُبْحانَكَ هَذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ، وأنا أقُولُ: قَدْ عَمَّتِ البَلْوى بِالغِناءِ والسَّماعِ في سائِرِ البِلادِ والبِقاعِ، ولا يُتَحاشى مِن ذَلِكَ في المَساجِدِ وغَيْرِها، بَلْ قَدْ عُيِّنَ مُغَنُّونَ يُغَنُّونَ عَلى المَنائِرِ في أوْقاتٍ مَخْصُوصَةٍ شَرِيفَةٍ بِأشْعارٍ مُشْتَمِلَةٍ عَلى وصْفِ الخَمْرِ والخاناتِ، وسائِرِ ما يُعَدُّ مِنَ المَحْظُوراتِ، ومَعَ ذَلِكَ قَدْ وُظِّفَ لَهم مِن غَلَّةِ الوَقْفِ ما وُظِّفَ، ويُسَمُّونَهُمُ المُمَجِّدِينَ، (p-73)ويَعُدُّونَ خُلُوَّ الجَوامِعِ مِن ذَلِكَ مِن قِلَّةِ الِاكْتِراثِ بِالدِّينِ، وأشْنَعُ مِن ذَلِكَ ما يَفْعَلُهُ أبالِسَةُ المُتَصَوِّفَةِ ومَرَدَتُهُمْ، ثُمَّ إنَّهم قَبَّحَهُمُ اللَّهُ تَعالى إذا اعْتُرِضَ عَلَيْهِمْ بِما اشْتَمَلَ عَلَيْهِ نَشِيدُهم مِنَ الباطِلِ يَقُولُونَ: نَعْنِي بِالخَمْرِ المَحَبَّةَ الإلَهِيَّةَ وبِالسُّكْرِ غَلَبَتَها، وبِمَيَّةَ، ولَيْلى، وسُعْدى مَثَلًا المَحْبُوبَ الأعْظَمَ، وهو اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ، وفي ذَلِكَ مِن سُوءِ الأدَبِ ما فِيهِ، ﴿ولِلَّهِ الأسْماءُ الحُسْنى فادْعُوهُ بِها وذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ في أسْمائِهِ﴾ [الأعْرافُ: 180]، وفي القَواعِدِ الكُبْرى لِلْعِزِّ بْنِ عَبْدِ السَّلامِ: لَيْسَ مِن أدَبِ السَّماعِ أنْ يُشَبَّهَ غَلَبَةُ المَحَبَّةِ بِالسُّكْرِ مِنَ الخَمْرِ، فَإنَّهُ سُوءُ الأدَبِ، وكَذا تَشْبِيهُ المَحَبَّةِ بِالخَمْرِ أُمِّ الخَبائِثِ، فَلا يُشَبَّهُ ما أحَبَّهُ اللَّهُ تَعالى بِما أبْغَضَهُ، وقَضى بِخُبْثِهِ، ونَجاسَتِهِ، فَإنَّ تَشْبِيهَ النَّفِيسِ بِالخَسِيسِ سُوءُ الأدَبِ بِلا شَكٍّ فِيهِ، وكَذا التَّشْبِيهُ بِالخَصْرِ والرِّدْفِ ونَحْوِ ذَلِكَ مِنَ التَّشْبِيهاتِ المُسْتَقْبَحاتِ، ولَقَدْ كَرِهَ لِبَعْضِهِمْ قَوْلَهُ: أنْتُمْ رُوحِي ومَعْلَمُ راحَتِي، ولِبَعْضِهِمْ قَوْلَهُ: فَأنْتَ السَّمْعُ والبَصَرُ، لِأنَّهُ لا شَبِيهَ لَهُ بِرُوحِهِ الخَسِيسَةِ، وسَمْعِهِ وبَصَرِهِ اللَّذَيْنِ لا قَدْرَ لَهُما، ثُمَّ إنَّهُ وإنْ أباحَ بَعْضَ أقْسامِ السَّماعِ حَطَّ عَلى مَن يَرْقُصُ ويُصَفِّقُ عِنْدَهُ، فَقالَ: أمّا الرَّقْصُ والتَّصْفِيقُ فَخِفَّةٌ ورُعُونَةٌ مُشَبَّهَةٌ بِرُعُونَةِ الإناثِ، لا يَفْعَلُها إلّا أرْعَنُ، أوْ مُتَصَنِّعٌ كَذّابٌ، وكَيْفَ يَتَأتّى الرَّقْصُ المُتَّزِنُ بِأوْزانِ الغِناءِ مِمَّنْ طاشَ لُبُّهُ وذَهَبَ قَلْبُهُ.
وقَدْ قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ««خَيْرُ القُرُونِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ»»
ولَمْ يَكُنْ أحَدٌ مِن هَؤُلاءِ الَّذِينَ يُقْتَدى بِهِمْ يَفْعَلُ شَيْئًا مِن ذَلِكَ، وإنَّما اسْتَحْوَذَ الشَّيْطانُ عَلى قَوْمٍ يَظُنُّونَ أنَّ طَرَبَهم عِنْدَ السَّماعِ إنَّما هو مُتَعَلِّقٌ بِاللَّهِ تَعالى شَأْنُهُ، ولَقَدْ مانُوا فِيما قالُوا، وكَذَبُوا فِيما ادَّعَوْا مِن جِهَةِ أنَّهم عِنْدَ سَماعِ المُطْرِباتِ وجَدُوا لَذَّتَيْنِ. إحْداهُما لَذَّةُ قَلِيلٍ مِنَ الأحْوالِ المُتَعَلِّقَةِ بِذِي الجَلالِ. والثّانِيَةُ لَذَّةُ الأصْواتِ، والنَّغَماتِ، والكَلِماتِ المَوْزُوناتِ المُوجِباتِ لِلَّذّاتِ، لَيْسَتْ مِن آثارِ الدِّينِ، ولا مُتَعَلِّقَةً بِأُمُورِهِ، فَلَمّا عَظُمَتْ عِنْدَهُمُ اللَّذّاتُ غَلِطُوا فَظَنُّوا أنَّ مَجْمُوعَ ما حَصَلَ لَهم إنَّما حَصَلَ بِسَبَبِ حُصُولِ ذَلِكَ القَلِيلِ مِنَ الأحْوالِ، ولَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ الأغْلَبُ عَلَيْهِمْ حُصُولُ لَذّاتِ النُّفُوسِ الَّتِي لَيْسَتْ مِنَ الدِّينِ في شَيْءٍ. وقَدْ حَرَّمَ بَعْضُ العُلَماءِ التَّصْفِيقَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ««إنَّما التَّصْفِيقُ لِلنِّساءِ»»
«ولَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ المُتَشَبِّهاتِ مِنَ النِّساءِ بِالرِّجالِ والمُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجالِ بِالنِّساءِ،» ومَن هابَ الإلَهَ أدْرَكَ شَيْئًا مِن تَعْظِيمِهِ، لَمْ يُتَصَوَّرْ مِنهُ رَقْصٌ ولا تَصْفِيقٌ ولا يَصْدُرانِ إلّا مِن جاهِلٍ، ويَدُلُّ عَلى جَهالَةِ فاعِلِهِما أنَّ الشَّرِيعَةَ لَمْ تَرِدْ بِهِما في كِتابٍ ولا سُنَّةٍ، ولَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ أحَدٌ مِنَ الأنْبِياءِ، ولا مُعْتَبِرٌ مِن أتْباعِهِمْ، وإنَّما يَفْعَلُ ذَلِكَ الجَهَلَةُ السُّفَهاءُ الَّذِينَ التَبَسَتْ عَلَيْهِمُ الحَقائِقُ بِالأهْواءِ، وقَدْ قالَ تَعالى: ﴿ونَزَّلْنا عَلَيْكَ الكِتابَ تِبْيانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ [النَّحْلُ: 89]، ولَقَدْ مَضى السَّلَفُ وأفاضِلُ الخَلَفِ، ولَمْ يُلابِسُوا شَيْئًا مِن ذَلِكَ، فَما ذاكَ إلّا غَرَضٌ مِن أغْراضِ النَّفْسِ، ولَيْسَ بِقُرْبَةٍ إلى الرَّبِّ جَلَّ وعَلا، وفاعِلُهُ إنْ كانَ مِمَّنْ يُقْتَدى بِهِ، ويُعْتَقَدُ أنَّهُ ما فَعَلَهُ إلّا لِكَوْنِهِ قُرْبَةً فَبِئْسَ ما صَنَعَ لِإيهامِهِ أنَّ هَذا مِنَ الطّاعاتِ، وإنَّما هو مِن أقْبَحِ الرُّعُوناتِ. وأمّا الصِّياحُ والتَّغاشِي ونَحْوُهُما فَتَصَنُّعٌ ورِياءٌ، فَإنْ كانَ ذَلِكَ عَنْ حالٍ لا يَقْتَضِيهِما فَإثْمُ الفاعِلِ مِن جِهَتَيْنِ. إحْداهُما إيهامُهُ الحالَ الثّابِتَةَ المُوجِبَةَ لَهُما. والثّانِيَةُ تَصَنُّعُهُ ورِياؤُهُ، وإنْ كانَ عَنْ مُقْتَضٍ أثِمَ إثْمَ رِياءٍ لا غَيْرَ. وكَذَلِكَ نَتْفُ الشُّعُورِ وضَرْبُ الصُّدُورِ، وتَمْزِيقُ الثِّيابِ مُحَرَّمٌ لِما فِيهِ مِن إضاعَةِ المالِ، وأيُّ ثَمَرَةٍ لِضَرْبِ الصُّدُورِ ونَتْفِ الشُّعُورِ وشَقِّ الجُيُوبِ إلّا رُعُوناتٌ صادِرَةٌ عَنِ النُّفُوسِ اهـ كَلامُهُ، ومِنهُ يُعْلَمُ ما في نَقْلِ الأسْنَوِيِّ عَنْهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى أنَّهُ كانَ يَرْقُصُ في السَّماعِ، والعَلّامَةُ ابْنُ حَجَرٍ قالَ: يُحْمَلُ ذَلِكَ عَلى مُجَرَّدِ القِيامِ والتَّحَرُّكِ لِغَلَبَةِ وجْدٍ وشُهُودٍ وتَجَلٍّ لا يَعْرِفُهُ إلّا أهْلُهُ، ومِن ثَمَّ قالَ الإمامُ إسْماعِيلُ الحَضْرَمِيُّ: مَوْقِفُ الشَّمْسِ عَنْ قَوْمٍ يَتَحَرَّكُونَ في السَّماعِ هَؤُلاءِ (p-74)قَوْمٌ يُرَوِّحُونَ قُلُوبَهم بِالأصْواتِ الحَسَنَةِ حَتّى يَصِيرُوا رُوحانِيِّينَ، فَهم بِالقُلُوبِ مَعَ الحَقِّ، وبِالأجْسادِ مَعَ الخَلْقِ، ومَعَ هَذا فَلا يُؤْمَنُ عَلَيْهِمُ العَدُوُّ، ولا يُعَوَّلُ عَلَيْهِمْ فِيما فَعَلُوا، ولا يُقْتَدى بِهِمْ فِيما قالُوا اهـ، وما ذَكَرَهُ فِيمَن يَصْدُرُ عَنْهُ نَحْوُ الصِّياحِ والتَّغاشِي عَنْ حالٍ يَقْتَضِيهِ لا يَخْلُو عَنْ شَيْءٍ، فَقَدْ قالَ البُلْقِينِيُّ فِيما يَصْدُرُ عَنْهم مِنَ الرَّقْصِ الَّذِي هو عِنْدَ جَمْعٍ لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ، ولا مَكْرُوهٍ لِأنَّهُ مُجَرَّدُ حَرَكاتٍ عَلى اسْتِقامَةٍ، أوِ اعْوِجاجٍ، ولِأنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أقَرَّ الحَبَشَةَ عَلَيْهِ في مَسْجِدِهِ يَوْمَ عِيدٍ، وعِنْدَ آخَرِينَ مَكْرُوهٌ، وعِنْدَ هَذا القائِلِ حَرامٌ إذا كَثُرَ بِحَيْثُ أسْقَطَ المُرُوءَةَ إنْ كانَ بِاخْتِيارِهِمْ، فَهم كَغَيْرِهِمْ، وإلّا فَلَيْسُوا بِمُكَلَّفِينَ، واسْتَوْضَحَهُ بَعْضُ الأجِلَّةِ، وقالَ: يَجِبُ اطِّرادُهُ في سائِرِ ما يُحْكى عَنِ الصُّوفِيَّةِ، مِمّا يُخالِفُ ظَواهِرَ الشَّرْعِ، فَلا يُحْتَجُّ بِهِ، لِأنَّهُ إنْ صَدَرَ عَنْهم في حالِ تَكْلِيفِهِمْ فَهم كَغَيْرِهِمْ، أوْ مَعَ غَيْبَتِهِمْ لَمْ يَكُونُوا مُكَلَّفِينَ بِهِ، والَّذِي يَظْهَرُ لِي أنَّ غِناءَ الرَّجُلِ بِمِثْلِ هَذِهِ الألْحانِ إنْ كانَ لِدَفْعِ الوَحْشَةِ عَنْ نَفْسِهِ فَمُباحٌ غَيْرُ مَكْرُوهٍ، كَما ذَهَبَ إلَيْهِ شَمْسُ الأئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ لَكِنْ بِشَرْطِ أنْ لا يَسْمَعَهُ مَن يُخْشى عَلَيْهِ الفِتْنَةُ مِنِ امْرَأةٍ أوْ غَيْرِها، ولا مَن يَسْتَخِفُّ بِهِ ويَسْتَرْذِلُهُ، وبِشَرْطِ أنْ لا يُغَيِّرَ اسْمَ مُعْظَّمٍ بِنَحْوِ زِيادَةٍ لَيْسَتْ فِيهِ في أصْلِ وضْعِهِ لِأجْلِ أنْ لا يَخْرُجَ عَنْ مُقْتَضى الصَّنْعَةِ مِثْلَ أنْ يَقُولَ في اللَّهِ: إيلّاهُ، وفي مُحَمَّدٍ: مُوحامَّدٌ، هَذا مَعَ كَوْنِ ما يُتَغَنّى بِهِ مِمّا لا بَأْسَ بِإنْشادِهِ، وإنْ كانَ لِلنّاسِ لِلَّهْوِ في غَيْرِ حادِثِ سُرُورٍ كَعُرْسٍ بِأُجْرَةٍ، أوْ بِدُونِها ازْدَرى بِهِ لِذَلِكَ أوْ لَمْ يَزْدَرِ كانَ ما يُتَغَنّى بِهِ مُباحُ الإنْشادِ، أوْ لَمْ يَكُنْ فَحَرامٌ، وإنْ أُمِنَتِ الفِتْنَةُ، وأُراهُ مِنَ الصَّغائِرِ كَما يَقْتَضِيهِ كَلامُ الماوَرْدِيُّ حَيْثُ قالَ: وإذا قُلْنا بِتَحْرِيمِ الأغانِي والمَلاهِي فَهي مِنَ الصَّغائِرِ دُونَ الكَبائِرِ، وإنْ كانَ في حادِثِ سُرُورٍ فَهو مُباحٌ، إنْ أُمِنَتِ الفِتْنَةُ، وكانَ ما يُتَغَنّى بِهِ جائِزُ الإنْشادِ، ولَمْ يُغَيَّرْ فِيهِ اسْمُ مُعْظَّمٍ، ولَمْ يَكُنْ سَبَبًا لِلِازْدِراءِ بِهِ، وهَتْكِ مُرُوءَتِهِ، ولا لِاجْتِماعِ الرِّجالِ والنِّساءِ عَلى وجْهٍ مَحْظُورٍ، وإنْ كانَ سَبَبًا لِمُحَرَّمٍ فَهو حَرامٌ، وتَتَفاوَتُ مَراتِبُ حُرْمَتِهِ حَسَبَ تَفاوُتِ حُرْمَةِ ما كانَ هو سَبَبًا لَهُ، وإنْ كانَ لِلنّاسِ لا لِلَّهْوِ بَلْ لِتَنْشِيطِهِمْ عَلى ذِكْرِ اللَّهِ تَعالى كَما يُفْعَلُ في بَعْضِ حِلَقِ التَّهْلِيلِ في بِلادِنا فَمُحْتَمَلُ الإباحَةِ، إنْ لَمْ يَتَضَمَّنْ مَفْسَدَةً ولَعَلَّهُ إلى الكَراهَةِ أقْرَبُ. ورُبَّما يُقالُ: إنَّهُ حِينَئِذٍ قُرْبَةٌ كالحُداءِ، وهو ما يُقالُ خَلْفَ الإبِلِ مِن زَجْرٍ وغَيْرِهِ، إذا كانَ مُنَشِّطًا لِسَيْرٍ هو قُرْبَةٌ، لِأنَّ وسِيلَةَ القُرْبَةِ بِهِ اتِّفاقًا، فَيُقالُ: لَمْ نَقِفْ عَلى خَبَرٍ في اشْتِمالِ حِلَقِ الذِّكْرِ عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وكَذا عَلى عَهْدِ خُلَفائِهِ وأصْحابِهِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُمْ، وهم أحْرَصُ النّاسِ عَلى القُرْبِ عَلى هَذا الغِناءِ، ولا عَلى سائِرِ أنْواعِهِ، وصَحَّتْ أحادِيثُ في الحُداءِ، ولِذا أطْلَقَ جَمْعٌ القَوْلَ بِنَدْبِهِ، وكَوْنُهم نَشِطِينَ بِدُونِ ذَلِكَ لا يَمْنَعُ أنْ يَكُونَ فِيهِمْ مَن يَزِيدُهُ ذَلِكَ نَشاطًا، فَلَوْ كانَ لِذَلِكَ قُرْبَةً لَفَعَلُوهُ، ولَوْ مَرَّةً، ولَمْ يُنْقَلْ أنَّهم فَعَلُوهُ أصْلًا، عَلى أنَّهُ لا يَبْعُدُ أنْ يُقالَ: إنَّهُ يُشَوِّشُ عَلى الذّاكِرِينَ، ولا يَتِمُّ لَهم مَعَهُ مَعْنى الذِّكْرِ وتَصَوُّرُهُ، وهو بِدُونِ ذَلِكَ لا ثَوابَ فِيهِ بِالإجْماعِ، ولَعَلَّ ما يُفْعَلُ عَلى المَنائِرِ مِمّا يُسَمُّونَهُ تَمْجِيدًا مُنْتَظِمٌ عِنْدَ الجَهَلَةِ في سِلْكِ وسائِلِ القُرْبِ بَلْ يَعُدُّهُ أكْثَرُهم قُرْبَةً مِن حَيْثُ ذاتُهُ، وهو لَعَمْرِي عِنْدَ العالِمِ بِمَعْزِلٍ عَنْ ذَلِكَ، وإنْ كانَ لِحاجَةِ مَرَضٍ تَعَيَّنَ شِفاؤُهُ بِهِ فَلا شَكَّ في جَوازِهِ، والإكْبابُ عَلى المُباحِ مِنهُ يَخْرِمُ المُرُوءَةَ كاتِّخاذِهِ حِرْفَةً، وقَوْلُ الرّافِعِيِّ: لا يَخْرِمُها إذا لاقَ بِهِ رَدَّهُ الزَّرْكَشِيُّ بِأنَّ الشّافِعِيَّ نَصَّ عَلى رَدِّ شَهادَتِهِ، وجَرى عَلَيْهِ أصْحابُهُ، لِأنَّها حِرْفَةٌ دَنِيَّةٌ، ويُعَدُّ فاعِلُها في العُرْفِ مِمَّنْ لا حَياءَ لَهُ، وعَنِ الحَسَنِ أنَّ رَجُلًا قالَ لَهُ: ما تَقُولُ في الغِناءِ؟ قالَ: نِعْمَ الشَّيْءُ الغِناءُ يُوصَلُ بِهِ الرَّحِمُ ويُنَفَّسُ بِهِ عَنِ المَكْرُوبِ، ويُفْعَلُ فِيهِ المَعْرُوفُ، قالَ: إنَّما أعْنِي الشَّدَّ؟ قالَ: وما الشَّدُّ، أتَعْرِفُ مِنهُ شَيْئًا؟ قالَ: (p-75)نَعَمْ، قالَ: فَما هُوَ؟ فانْدَفَعَ الرَّجُلُ يُغَنِّي ويَلْوِي شِدْقَيْهِ، ومُنْخَرَيْهِ، ويَكْسِرُ عَيْنَيْهِ، فَقالَ الحَسَنُ: ما كُنْتُ أرى أنَّ عاقِلًا يَبْلُغُ مِن نَفْسِهِ ما أرى، واخْتَلَفُوا في تَعاطِي خارِمِ المُرُوءَةِ عَلى أوْجُهٍ. ثالِثُها إنْ تَعَلَّقَتْ بِهِ شَهادَةٌ حَرُمَ وإلّا فَلا.
قالَ بَعْضُ الأجِلَّةِ: وهو الأوْجَهُ، لِأنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ التَّسَبُّبُ في إسْقاطِ ما تَحَمَّلَهُ وصارَ أمانَةً عِنْدَهُ لِغَيْرِهِ، ويَظْهَرُ لِي أنَّهُ إنْ كانَ ذَلِكَ مِن عالِمٍ يُقْتَدى بِهِ، أوْ كانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِلِازْدِراءِ حَرُمَ أيْضًا، وإنَّ سَماعَهُ أيِ اسْتِماعَهُ لا مُجَرَّدَ سَماعِهِ بِلا قَصْدٍ عِنْدَ أمْنِ الفِتْنَةِ، وكَوْنُ ما يُتَغَنّى بِهِ جائِزَ الإنْشادِ، وعَدَمُ تَسَبُّبِهِ لِمَعْصِيَةٍ كاسْتِدامَةِ مُغَنٍّ لِغَناءٍ آثِمٌ بِهِ مُباحٌ والإكْبابُ عَلَيْهِ كَما قالَ النَّوَوِيُّ: يُسْقِطُ المُرُوءَةَ كالإكْبابِ عَلى الغِناءِ المُباحِ، والِاخْتِلافُ في تَعاطِي مُسْقِطِها قَدْ ذَكَرْناهُ آنِفًا، وأمّا سَماعُهُ عِنْدَ عَدَمِ أمْنِ الفِتْنَةِ، وكَوْنُ ما يُتَغَنّى بِهِ غَيْرَ جائِزِ الإنْشادِ، وكَوْنُهُ مُتَسَبِّبًا لِمَعْصِيَةٍ فَحَرامٌ، وتَتَفاوَتُ مَراتِبُ حُرْمَتِهِ، ولَعَلَّها تَصِلُ إلى حُرْمَةٍ كَبِيرَةٍ، ومِنَ السَّماعِ المُحَرَّمِ سَماعُ مُتَصَوِّفَةِ زَمانِنا، وإنْ خَلا عَنْ رَقْصٍ، فَإنَّ مَفاسِدَهُ أكْثَرُ مِن أنْ تُحْصى، وكَثِيرٌ مِمّا يَسْمَعُونَهُ مِنَ الأشْعارِ مِن أشْنَعِ ما يُتْلى، ومَعَ هَذا يَعْتَقِدُونَهُ قُرْبَةً، ويَزْعُمُونَ أنَّ أكْثَرَهم رَغْبَةً فِيهِ أشَدُّهم رَغْبَةً أوْ رَهْبَةً، قاتَلَهُمُ اللَّهُ تَعالى أنّى يُؤْفَكُونَ.
ولا يَخْفى عَلى مَن أحاطَ خُبْرًا بِما تَقَدَّمَ عَنِ القُشَيْرِيِّ وغَيْرِهِ أنَّ سَماعَهم مَذْمُومٌ عِنْدَ مَن يَعْتَقِدُونَ انْتِصارَهُ لَهُمْ، ويَحْسَبُونَ أنَّهم وإيّاهُ مِن حِزْبٍ واحِدٍ، فَوَيْلٌ لِمَن شُفَعاؤُهُ خُصَماؤُهُ، وأحِبّاؤُهُ أعْداؤُهُ، وأمّا رَقْصُهم عَلَيْهِ فَقَدْ زادُوا بِهِ في الطُّنْبُورِ رَنَّةً، وضَمُّوا كَسَرَ اللَّهُ تَعالى شَوْكَتَهم بِذَلِكَ إلى السَّفَهِ جِنَّةً. وقَدْ أفادَ بَعْضُ الأجِلَّةِ: أنَّهُ لا تُقْبَلُ شَهادَةُ الصُّوفِيَّةِ الَّذِينَ يَرْقُصُونَ عَلى الدُّفِّ الَّذِي قِيلَ يُباحُ، أوْ يُسَنُّ ضَرْبُهُ لِعُرْسٍ وخِتانٍ وغَيْرِهِما مِن كُلِّ سُرُورٍ، ومِنهُ قُدُومُ عالِمٍ يَنْفَعُ المُسْلِمِينَ رادًّا عَلى مَن زَعَمَ القَبُولَ، فَقالَ: وعَنْ بَعْضِهِمْ تُقْبَلُ شَهادَةُ الصُّوفِيَّةِ الَّذِينَ يَرْقُصُونَ عَلى الدُّفِّ لِاعْتِقادِهِمْ أنَّ ذَلِكَ قُرْبَةٌ كَما تُقْبَلُ شَهادَةُ حَنَفِيٍّ شَرِبَ النَّبِيذَ لِاعْتِقادِهِ إباحَتَهُ، وكَذا كُلُّ مَن فَعَلَ ما اعْتَقَدَ إباحَتَهُ اهـ، ورُدَّ بِأنَّهُ خَطَأٌ قَبِيحٌ لِأنَّ اعْتِقادَ الحَنَفِيِّ نَشَأ عَنْ تَقْلِيدٍ صَحِيحٍ، ولا كَذَلِكَ غَيْرُهُ، وإنَّما مَنشَؤُهُ الجَهْلُ والتَّقْصِيرُ فَكانَ خَيالًا باطِلًا، لا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ اهـ.
ثُمَّ إنِّي أقُولُ: لا يَبْعُدُ أنْ يَكُونَ صاحِبُ حالٍ يُحَرِّكُهُ السَّماعُ ويُثِيرُ مِنهُ ما يُلْجِئُهُ إلى الرَّقْصِ، أوِ التَّصْفِيقِ، أوِ الصَّعْقِ والصِّياحِ، وتَمْزِيقِ الثِّيابِ، أوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِمّا هو مَكْرُوهٌ، أوْ حَرامٌ، فالَّذِي يَظْهَرُ لِي في ذَلِكَ أنَّهُ إنْ عَلِمَ مِن نَفْسِهِ صُدُورَ ما ذُكِرَ كانَ حُكْمُ الِاسْتِماعِ في حَقِّهِ حُكْمَ ما يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ، وإنْ تَرَدَّدَ فِيهِ، فالأحْوَطُ في حَقِّهِ إنْ لَمْ نَقُلْ بِالكَراهَةِ عَدَمُ الِاسْتِماعِ.
فَفِي الخَبَرِ: ««دَعْ ما يُرِيبُكَ إلى ما لا يُرِيبُكَ»»
ثُمَّ إنَّ ما حَصَلَ لَهُ شَيْءٌ مِن ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ السَّماعِ مِن غَيْرِ قَصْدٍ، ولَمْ يَقْدِرْ عَلى دَفْعِهِ أصْلًا، فَلا لَوْمَ، ولا عِتابَ فِيهِ عَلَيْهِ، وحُكْمُهُ في ذَلِكَ حُكْمُ مَنِ اعْتَراهُ نَحْوُ عُطاسٍ وسُعالٍ قَهْرِيَّيْنِ، ولا يُشْتَرَطُ في دَفْعِ اللَّوْمِ والعِتابِ عَنْهُ كَوْنُ ذَلِكَ مَعَ غَيْبَتِهِ، فَلا يَجِبُ عَلى مَن صَدَرَ مِنهُ ذَلِكَ إنْ لَمْ يَغِبْ إعادَةُ الوُضُوءِ لِلصَّلاةِ مَثَلًا، ولْيُنْظَرْ فِيما لَوِ اعْتَراهُ وهو في الصَّلاةِ بِدُونِ غَيْبَةٍ، هَلْ حُكْمُهُ حُكْمُ نَحْوِ العُطاسِ، والسُّعالِ إذا اعْتَراهُ فِيها أمْ لا؟ والَّذِي سَمِعْتُهُ عَنْ بَعْضِ الكِبارِ الثّانِي، فَتَدَبَّرْ. ومِنَ النّاسِ مَن يَعْتَرِيهِ شَيْءٌ مِمّا ذُكِرَ عِنْدَ سَماعِ القُرْآنِ، إمّا مُطْلَقًا، أوْ إذا كانَ بِصَوْتٍ حَسَنٍ، وقَلَّما يَقَعُ ذَلِكَ مِن سَماعِ القُرْآنِ، أوْ غَيْرِهِ لِكامِلٍ.
وعَنْ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْها أنَّهُ قِيلَ لَها: إنَّ قَوْمًا إذا سَمِعُوا القُرْآنَ صُعِقُوا، فَقالَتِ: القُرْآنُ أكْرَمُ مِن أنْ يُسْرَقَ مِنهُ عُقُولُ الرِّجالِ، ولَكِنَّهُ كَما قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿تَقْشَعِرُّ مِنهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهم ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهم وقُلُوبُهم إلى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الزُّمَرُ: 23]، وكَثِيرًا ما يَكُونُ لِضَعْفِ تَحَمُّلِ الوارِدِ، وبَعْضُ المُتَصَنِّعِينَ يَفْعَلُهُ رِياءً، وعَنِ ابْنِ سِيرِينَ أنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ يَسْمَعُ القُرْآنَ فَيُصْعَقُ فَقالَ: مِيعادُ ما بَيْنَنا وبَيْنَهم أنْ يَجْلِسُوا عَلى حائِطٍ فَيُقْرَأُ عَلَيْهِمُ القُرْآنُ مِن أوَّلِهِ إلى آخِرِهِ (p-76)فَإنْ صُعِقُوا، فَهو كَما قالُوا، ولا يَرُدُّ عَلى إباحَةِ الغِناءِ وسَماعِهِ في بَعْضِ الصُّوَرِ خَبَرُ ابْنِ مَسْعُودٍ: ««الغِناءُ يُنْبِتُ النِّفاقَ في القَلْبِ كَما يُنْبِتُ الماءُ البَقْلَ»»
لا، لِأنَّ الغِناءَ فِيهِ مَقْصُورٌ، وأنَّ المُرادَ بِهِ غِنى المالِ الَّذِي هو ضِدُّ الفَقْرِ، إذْ يَرُدُّ ذَلِكَ أنَّ الخَبَرَ رُوِيَ مِن وجْهٍ آخَرَ بِزِيادَةٍ: «(والذِّكْرُ يُنْبِتُ الإيمانَ في القَلْبِ كَما يُنْبِتُ الماءُ الزَّرْعَ)،» ومُقابَلَةُ الغِناءِ بِالذِّكْرِ ظاهِرٌ في المُرادِ بِهِ التَّغَنِّي، عَلى أنَّ الرِّوايَةَ كَما قالَ بَعْضُ الحُفّاظِ بِالمَدِّ بَلْ لِأنَّ المُرادَ أنَّ الغِناءَ مِن شَأْنِهِ أنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ النِّفاقُ أيِ العَمَلِيُّ بِأنْ يُحَرِّكَ إلى غَدْرٍ وخُلْفِ وعْدٍ وكَذِبٍ ونَحْوِها، ولا يَلْزَمُ مِن ذَلِكَ اطِّرادُ التَّرَتُّبِ.
ورُبَّما يُشِيرُ إلى ذَلِكَ التَّشْبِيهُ في قَوْلِهِ: (كَما يُنْبِتُ الماءُ البَقْلَ) فَإنَّ إنْباتَ الماءِ البَقْلَ غَيْرُ مُطَّرِدٍ، ونَظِيرُ ذَلِكَ في الكَلامِ كَثِيرٌ، والقائِلُ بِإباحَتِهِ في بَعْضِ الصُّوَرِ إنَّما يُبِيحُهُ حَيْثُ لا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ. نَعَمْ لا شَكَّ أنَّ ما هَذا شَأْنُهُ الأحْوَطُ بَعْدَ كُلِّ قِيلٍ وقالَ عَدَمُ الرَّغْبَةِ فِيهِ، كَذا قِيلَ.
وقِيلَ: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ أُرِيدَ بِالنِّفاقِ الإيمانِيَّ، ويُؤَيِّدُهُ مُقابَلَتُهُ في بَعْضِ الرِّواياتِ بِالإيمانِ، ويَكُونُ مَساقُ الخَبَرِ لِلتَّنْفِيرِ عَنِ الغِناءِ، إذْ كانَ النّاسُ حَدِيثِي عَهْدٍ بِجاهِلِيَّةٍ كانَ يُسْتَعْمَلُ فِيها الغِناءُ لِلَّهْوِ، ويُجْتَمَعُ عَلَيْهِ في مَجالِسِ الشُّرْبِ، ووَجْهُ إنْباتِهِ لِلنِّفاقِ إذْ ذاكَ أنَّ كَثِيرًا مِنهم لِقُرْبِ عَهْدِهِ بِلَذَّةِ الغِناءِ وما يَكُونُ عِنْدَهُ مِنَ اللَّهْوِ والشُّرْبِ وغَيْرِهِ مِن أنْواعِ الفِسْقِ يَتَحَرَّكُ قَلْبُهُ لِما كانَ عَلَيْهِ، ويَحِنُّ حَنِينَ العِشارِ إلَيْهِ، ويَكْرَهُ لِذَلِكَ الإيمانَ الَّذِي صَدَّهُ عَمّا هُنالِكَ، ولا يَسْتَطِيعُ لِقُوَّةِ شَوْكَةِ الإسْلامِ أنْ يُظْهِرَ ما أضْمَرَ، ويَنْبِذَ الإيمانَ وراءَ ظَهْرِهِ، ويَتَقَدَّمَ إلى ما عَنْهُ تَأخَّرَ، فَلَمْ يَسَعْهُ إلّا النِّفاقُ لِما اجْتَمَعَ عَلَيْهِ مَخافَةَ الرِّدَّةِ، والِاشْتِياقِ، فَتَأمَّلْ ذاكَ واللَّهُ تَعالى يَتَوَلّى هُداكَ، وأمّا الآيَةُ فَإنْ كانَ وجْهُ الِاسْتِدْلالِ بِها تَسْمِيَةُ الغِناءِ لَهْوًا، فَكَمْ لَهْوٍ هو حَلالٌ، وإنْ كانَ الوَعِيدُ عَلى اشْتِرائِهِ واخْتِيارِهِ فَلا نُسَلِّمُ أنَّ ذَلِكَ عَلى مُجَرَّدِ الِاشْتِراءِ لِجَوازِ أنْ يَكُونَ عَلى الِاشْتِراءِ لِيَضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ تَعالى، ولا شَكَّ أنَّ ذَلِكَ مِنَ الكَبائِرِ، ولا نِزاعَ لَنا فِيهِ، وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الَّذِي يَتَرَجَّحُ أنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ في لَهْوِ الحَدِيثِ مُضافًا إلى الكُفْرِ، فَلِذَلِكَ اشْتَدَّتْ ألْفاظُ الآيَةِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ( لِيُضِلَّ ) إلَخْ اهـ.
ومِمّا ذَكَّرْنا يُعْلَمُ ما في الِاسْتِدْلالِ بِها عَلى حُرْمَةِ المَلاهِي كالرَّبابِ، والجَنْكِ، والسِّنْطِيرِ، والكَمَنجَةِ، والمِزْمارِ وغَيْرِها مِنَ الآلاتِ المُطْرِبَةِ بِناءً عَلى ما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ والحَسَنِ أنَّهُما فَسَّرا( لَهْوَ الحَدِيثِ ) بِها، نَعَمْ، إنَّهُ يَحْرُمُ اسْتِعْمالُها واسْتِماعُها لِغَيْرِ ما ذُكِرَ، فَقَدْ صَحَّ مِن طُرُقٍ خِلافًا لِما وهِمَ فِيهِ ابْنُ حَزْمٍ الضّالُّ المُضِلُّ فَقَدْ عَلَّقَهُ البُخارِيُّ، ووَصَلَهُ الإسْماعِيلِيُّ، وأحْمَدُ، وابْنُ ماجَهْ، وأبُو نُعَيْمٍ، وأبُو داوُدَ بِأسانِيدَ صَحِيحَةٍ، لا مَطْعَنَ فِيها، وصَحَّحَهُ جَماعَةٌ آخَرُونَ مِنَ الأئِمَّةِ كَما قالَهُ بَعْضُ الحُفّاظِ أنَّهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ قالَ: ««لَيَكُونَنَّ في أُمَّتِي قَوْمٌ يَسْتَحِلُّونَ الخَزَّ والخَمْرَ والمَعازِفَ»»
وهُوَ صَرِيحٌ في تَحْرِيمِ جَمِيعِ آلاتِ اللَّهْوِ المُطْرِبَةِ، ومِمّا يُشْبِهُ الصَّرِيحَ في ذَلِكَ ما رَواهُ ابْنُ أبِي الدُّنْيا في كِتابِ (ذَمِّ المَلاهِي) عَنْ أنَسٍ، وأحْمَدَ، والطَّبَرانِيِّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وأبِي أُمامَةَ مَرْفُوعًا: ««لَيَكُونَنَّ في هَذِهِ الأُمَّةِ خَسْفٌ وقَذْفٌ ومَسْخٌ، وذَلِكَ إذا شَرِبُوا الخُمُورَ، واتَّخَذُوا القَيْناتِ وضَرَبُوا بِالمَعازِفِ»»
وهِيَ المَلاهِي الَّتِي سَمِعْتَها، ومِنها الصَّنْجُ العَجَمِيُّ وهو صُفْرٌ يُجْعَلُ عَلَيْهِ أوْتارٌ يُضْرَبُ بِها عَلى ما ذَهَبَ إلَيْهِ غَيْرُ واحِدٍ خِلافًا لِلْماوَرْدِيِّ حَيْثُ قالَ: إنَّ الصَّنْجَ يُكْرَهُ مَعَ الغِناءِ، ولا يُكْرَهُ مُنْفَرِدًا لِأنَّهُ بِانْفِرادِهِ غَيْرُ مُطْرِبٍ، ولَعَلَّهُ أرادَ بِهِ العَرَبِيَّ، وهو قِطْعَتانِ مِن صُفْرٍ تُضْرَبُ إحْداهُما بِالأُخْرى، فَإنَّهُ بِحَسَبِ الظّاهِرِ هو الَّذِي لا يُطْرِبُ مُنْفَرِدًا، لَكِنْ يَزِيدُ الغِناءَ طَرَبًا، وذُكِرَ أنَّهُ يَسْتَعْمِلُهُ المُخَنَّثُونَ في بَعْضِ البِلادِ، ولا يَبْعُدُ عَلَيْهِ القَوْلُ بِالحُرْمَةِ، ومِنها اليَراعُ، وهو الشَّبّابَةُ، فَإنَّهُ مُطْرِبٌ بِانْفِرادِهِ، بَلْ قالَ بَعْضُ أهْلِ المُوسِيقى: إنَّهُ آلَةٌ كامِلَةٌ جامِعَةٌ لِجَمِيعِ النَّغَماتِ إلّا يَسِيرًا، وقَدْ أطْنَبَ الإمامُ الدَّوْلَقِيُّ، وهو مِن أجِلَّةِ (p-77)العُلَماءِ في دَلائِلِ تَحْرِيمِهِ، ومِنها القِياسُ، وهو إمّا أوْلى أوْ مُساوٍ، وقالَ: العَجَبُ كُلُّ العَجَبِ مِمَّنْ هو مِن أهْلِ العِلْمِ يَزْعُمُ أنَّ الشَّبّابَةَ حَلالٌ اهـ، ومِنهُ يُعْلَمُ ما في قَوْلِ التّاجِ السُّبْكِيِّ في تَوْشِيحِهِ: لَمْ يُقَرَّ عِنْدِي دَلِيلٌ عَلى تَحْرِيمِ اليَراعِ مَعَ كَثْرَةِ التَّتَبُّعِ، والَّذِي أُراهُ الحِلَّ، فَإنِ انْضَمَّ إلَيْهِ مُحَرَّمٌ فَلِكُلٍّ مِنهُما حِكْمَةٌ، ثُمَّ الأوْلى عِنْدِي لِمَن لَيْسَ مِن أهْلِ الذَّوْقِ الإعْراضُ عَنْهُ مُطْلَقًا، لِأنَّ غايَةَ ما فِيهِ حُصُولُ لَذَّةٍ نَفْسانِيَّةٍ، وهي لَيْسَتْ مِنَ المَطالِبِ الشَّرْعِيَّةِ، وأمّا أهْلُ الذَّوْقِ فَحالُهم مُسَلَّمٌ إلَيْهِمْ، وهم عَلى حَسَبِ ما يَجِدُونَهُ مِن أنْفُسِهِمْ اهـ.
وحُكِيَ عَنِ العِزِّ بْنِ عَبْدِ السَّلامِ، وابْنِ دَقِيقِ العِيدِ أنَّهُما كانا يَسْمَعانِ ذَلِكَ، والظّاهِرُ أنَّهُ كَذِبٌ لا أصْلَ لَهُ، وبِذَلِكَ جَزَمَ بَعْضُ الأجِلَّةِ، ولا يَبْعُدُ حِلُّها إذا صَفَّرَ فِيها كالأطْفالِ والرِّعاءِ عَلى غَيْرِ القانُونِ المَعْرُوفِ مِنَ الإطْرابِ.
ومِنها العُودُ، وهو آلَةٌ لِلَّهْوِ غَيْرُ الطُّنْبُورِ، وأطْلَقَهُ بَعْضُهم عَلَيْهِ، وحِكايَةُ النَّجِسِ ابْنِ طاهِرٍ عَنِ الشَّيْخِ أبِي إسْحاقَ الشِّيرازِيِّ أنَّهُ كانَ يَسْمَعُ العُودَ مِن جُمْلَةِ كَذِبِهِ وتَهَوُّرِهِ، كَدَعْواهُ إجْماعَ الصَّحابَةِ والتّابِعِينَ عَلى إباحَةِ الغِناءِ واللَّهْوِ، ومِثْلُهُ في المُجازَفَةِ وارْتِكابِ الأباطِيلِ عَلى الجَزْمِ ابْنُ حَزْمٍ، لا الدُّفَّ، فَيَجُوزُ ضَرْبُهُ مِن رَجُلٍ وامْرَأةٍ، لا مِنِ امْرَأةٍ فَقَطْ خِلافًا لِلْحَلِيمِيِّ، واسْتِماعُهُ لِعُرْسٍ ونِكاحٍ وكَذا غَيْرِهِما مِن كُلِّ سُرُورٍ في الأصَحِّ، وبِحِلِّ ذِي الجَلاجِلِ مِنهُ، وهي إمّا نَحْوُ حِلَقٍ يُجْعَلُ داخِلَهُ كَدُفِّ العَرَبِ، أوْ صُنُوجٍ عِراضٍ مِن صُفْرٍ تُجْعَلُ في حُرُوفِ دائِرَتِهِ كَدُفِّ العَجَمِ، جَزَمَ جَماعَةٌ وجَزَمَ آخَرُونَ بِحُرْمَتِهِ، وبِها أقُولُ، لِأنَّهُ كَما قالَ الأذْرُعِيُّ أشَدُّ إطْرابًا مِنَ أكْثَرِ المَلاهِي المُتَّفَقِ عَلى تَحْرِيمِها، وبَعْضُ المُتَصَوِّفَةِ ألَّفُوا رَسائِلَ في حِلِّ الأوْتارِ والمَزامِيرِ وغَيْرِها مِن آلاتِ اللَّهْوِ وأتَوْا فِيها بِكَذِبٍ عَجِيبٍ عَلى اللَّهِ تَعالى، وعَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وعَلى أصْحابِهِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُمْ، والتّابِعِينَ والعُلَماءِ العامِلِينَ، وقَلَّدَهم في ذَلِكَ مَن لَعِبَ بِهِ الشَّيْطانُ وهَوى بِهِ الهَوى إلى هُوَّةِ الحِرْمانِ، فَهو عَنِ الحَقِّ بِمَعْزِلٍ، وبَيْنَهُ وبَيْنَ حَقِيقَةِ التَّصَوُّفِ ألْفُ ألْفُ مَنزِلٍ، وإذا تَحَقَّقَ لَدَيْكَ قَوْلُ بَعْضِ الكِبارِ بِحِلِّ شَيْءٍ مِن ذَلِكَ، فَلا تَغْتَرَّ بِهِ، لِأنَّهُ مُخالِفٌ لِما عَلَيْهِ أئِمَّةُ المَذاهِبِ الأرْبَعَةِ وغَيْرُهم مِنَ الأكابِرِ المُؤَيَّدِ بِالأدِلَّةِ القَوِيَّةِ الَّتِي لا يَأْتِيها الباطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْها، ولا مِن خَلْفِها، وكُلُّ أحَدٍ يُؤْخَذُ مِن قَوْلِهِ ويُتْرَكُ ما عَدا رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، ومَن رُزِقَ عَقْلًا مُسْتَقِيمًا وقَلْبًا مِنَ الأهْواءِ الفاسِدَةِ سَلِيمًا لا يَشُكُّ في أنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنَ الدِّينِ، وأنَّهُ بَعِيدٌ بِمَراحِلَ عَنْ مَقاصِدِ شَرِيعَةِ سَيِّدِ المُرْسَلِينَ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وعَلى آلِهِ وصَحْبِهِ أجْمَعِينَ، واسْتَدَلَّ بَعْضُ أهْلِ الإباحَةِ عَلى حِلِّ الشَّبّابَةِ بِما أخْرَجَهُ ابْنُ حِبّانَ في صَحِيحِهِ، عَنْ نافِعٍ، «عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما: (أنَّهُ سَمِعَ صَوْتَ زُمّارَةِ راعٍ، فَجَعَلَ إصْبَعَيْهِ في أُذُنَيْهِ، وعَدَلَ عَنِ الطَّرِيقِ وجَعَلَ يَقُولُ: يا نافِعُ أتَسْمَعُ، فَأقُولُ: نَعَمْ، فَلَمّا قُلْتُ: لا، رَجَعَ إلى الطَّرِيقِ، ثُمَّ قالَ: هَكَذا رَأيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ يَفْعَلُهُ)،» وأخْرَجَهُ ابْنُ أبِي الدُّنْيا، والبَيْهَقِيُّ عَنْ نافِعٍ أيْضًا، وسَألَ عَنْهُ الحافِظَ مُحَمَّدَ بْنَ نَصْرٍ السَّلامِيَّ فَقالَ: إنَّهُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، ووَجْهُ الِاسْتِدْلالِ بِهِ أنَّهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ لَمْ يَأْمُرِ ابْنَ عُمَرَ وكانَ عُمْرُهُ إذْ ذاكَ كَما قالَ الحافِظُ المَذْكُورُ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً بِسَدِّ أُذُنَيْهِ، ولا نَهى الفاعِلَ فَلَوْ كانَ ذَلِكَ حَرامًا لَأمَرَ ونَهى عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وسَدَّ أُذُنَيْهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ لِكَوْنِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إذْ ذاكَ في حالِ ذِكْرٍ، أوْ فِكْرٍ، وكانَ السَّماعُ يَشْغَلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ والتَّحِيَّةُ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ إنَّما فَعَلَهُ ﷺ تَنْزِيهًا، وقالَ الأذْرُعِيُّ: بِهَذا الحَدِيثِ اسْتَدَلَّ أصْحابُنا عَلى تَحْرِيمِ المَزامِيرِ، وعَلَيْهِ بَنَوُا التَّحْرِيمَ في الشَّبّابَةِ اهـ.
والحَقُّ عِنْدِي أنَّهُ لَيْسَ نَصًّا في حُرْمَتِها لِأنَّ سَدَّ الأُذُنَيْنِ عِنْدَ السَّماعِ مِن بابِ فِعْلِهِ ﷺ، ولَيْسَ مِمّا وضُحَ فِيهِ أمْرُ الجِبِلَّةِ ولا ثَبَتَ تَخْصِيصُهُ بِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، ولا مِمّا وضَحَ أنَّهُ بَيانٌ لِنَصِّ عِلْمِ جِهَتِهِ مِنَ الوُجُوبِ (p-78)والنَّدْبِ والإباحَةِ، فَإنْ كانَ مِمّا عُلِمَتْ صِفَتُهُ، فَلا يَخْلُو مِن أنْ تَكُونَ الوُجُوبَ أوِ النَّدْبَ، أوِ الإباحَةَ، لا جائِزَ أنْ تَكُونَ الوُجُوبَ المُسْتَلْزِمَ لِحُرْمَةِ سَماعِ اليَراعِ إذْ لا قائِلَ بِأنَّهُ يَجِبُ عَلى أحَدٍ سَدُّ الأُذُنَيْنِ عِنْدَ سَماعٍ مُحَرَّمٍ، إذْ يَأْمَنُ الإثْمَ بِعَدَمِ القَصْدِ، فَقَدْ قالُوا:
إنَّ الحَرامَ الِاسْتِماعُ لا مُجَرَّدُ السَّماعِ بِلا قَصْدٍ، وفي الزَّواجِرِ: المَمْنُوعُ هو الِاسْتِماعُ لا السَّماعُ لا عَنْ قَصْدٍ اتِّفاقًا، ومِن ثَمَّ صَرَّحَ أصْحابُنا - يَعْنِي الشّافِعِيَّةَ - أنَّ مَن بِجِوارِهِ آلاتٌ مُحَرَّمَةٌ ولا يُمْكِنُهُ إزالَتُها لا يَلْزَمُهُ النُّقْلَةُ، ولا يَأْثَمُ بِسَماعِها لا عَنْ قَصْدٍ وإصْغاءٍ اهـ، والظّاهِرُ أنَّ الأمْرَ كَذَلِكَ عِنْدَ سائِرِ الأئِمَّةِ، نَعَمْ لَهم تَفْصِيلٌ في القُعُودِ في مَكانٍ فِيهِ نَحْوُ ذَلِكَ، قالَ في تَنْوِيرِ الأبْصارِ وشَرْحِهِ الدُّرِّ المُخْتارِ: دُعِيَ إلى ولِيمَةٍ وثَمَّةَ لَعِبٍ وغِناءٍ قَعَدَ، وأكَلَ، ولَوْ عَلى المائِدَةِ، لا يَنْبَغِي أنْ يَقْعُدَ بَلْ يَخْرُجَ مُعْرِضًا لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ القَوْمِ الظّالِمِينَ﴾ [الأنْعامِ: 68]، فَإنْ قَدَرَ عَلى المَنعِ فَعَلَ وإلّا يَقْدِرُ صَبَرَ إنْ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يُقْتَدى بِهِ، فَإنْ كانَ مُقْتَدًى بِهِ، ولَمْ يَقْدِرْ عَلى المَنعِ خَرَجَ، ولا يَقْعُدُ، لِأنَّ فِيهِ شَيْنُ الدِّينِ، والمَحْكِيُّ عَنِ الإمامِ أبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ كانَ قَبْلَ أنْ يَصِيرَ مُقْتَدًى بِهِ، وإنْ عَلِمَ أوَّلًا لا يَحْضُرُ أصْلًا، سَواءٌ كانَ مِمَّنْ يُقْتَدى بِهِ أوْ لا اهـ، فَتَعَيَّنَ كَوْنُها النَّدْبَ أوِ الإباحَةَ وكِلا الأمْرَيْنِ لا يَسْتَلْزِمانِ الحُرْمَةَ فَيُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ حَرامًا أوْ مَكْرُوهًا يُنْدَبُ سَدُّ الأُذُنَيْنِ عِنْدَ سَماعِهِ احْتِياطًا مِن أنْ يَدْعُوَ إلى الِاسْتِماعِ المُحَرَّمِ أوِ المَكْرُوهِ، وإنْ كانَ مِمّا لَمْ تُعْلَمْ صِفَتُهُ فَقَدْ قالُوا فِيما كانَ كَذَلِكَ المَذاهِبُ فِيهِ بِالنِّسْبَةِ إلى الأُمَّةِ خَمْسَةٌ، الوُجُوبُ والنَّدْبُ والإباحَةُ والوَقْفُ والتَّفْصِيلُ، وهو أنَّهُ إنْ ظَهَرَ قَصْدُ القُرْبَةِ فالنَّدْبُ، وإلّا فالإباحَةُ، ويُعْلَمُ مِمّا ذَكَرْنا الحالُ عَلى كُلِّ مَذْهَبٍ، والَّذِي يَغْلِبُ عَلى الظَّنِّ أنَّ ما أشارَ إلَيْهِ الخَبَرُ إنْ كانَ الزَّمْرُ بِزُمّارَةِ الرّاعِي عَلى وجْهِ التَّأنُّقِ وإجْراءِ النَّغَماتِ الَّتِي تُحَرِّكُ الشَّهَواتِ كَما يَفْعَلُهُ مَن جَعَلَ ذَلِكَ صَنْعَتَهُ اليَوْمَ، فاسْتِماعُهُ حَرامٌ، وسَدُّ الأُذُنَيْنِ المُشارُ إلَيْهِ فِيهِ لَعَلَّهُ كانَ مِنهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ تَعْلِيمًا لِلْأُمَّةِ أحَدَ طُرُقِ الِاحْتِياطِ المَعْلُومِ حالُهُ لِئَلّا يَجُرَّهم ذَلِكَ إلى الِاسْتِماعِ، وإلّا فالِاسْتِماعُ لِمَكانِ العِصْمَةِ مِمّا لا يُتَصَوَّرُ في حَقِّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، ومَن عَرَفَ قَدْرَ الصَّحابَةِ، واطَّلَعَ عَلى سَبِيلِهِمْ وحِرْصِهِمْ عَلى التَّأسِّي بِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لَمْ يَشُكَّ في أنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ سَدَّ أُذُنَيْهِ أيْضًا تَأسِّيًا، ويَكُونُ حِينَئِذٍ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ الَّذِي يُشِيرُ إلَيْهِ الخَبَرُ لَهُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ: أتَسْمَعُ؟ عَلى مَعْنى تَسَمَّعْ، أتَسْمَعُ، وإنَّما أسْقَطَ تَسَمَّعْ، لِدِلالَةِ الحالِ عَلَيْهِ، إذْ مَن سَدَّ أُذُنَيْهِ لا يَسْمَعُ، وإنَّما أذِنَ لَهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ بِذَلِكَ لِمَوْضِعِ الحاجَةِ، وهَذا أقْرَبُ مِنَ احْتِمالِ كَوْنِ سَدِّ الأُذُنَيْنِ مِنهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ لِأنَّهُ كانَ في حالِ ذِكْرٍ، أوْ فِكْرٍ، وكانَ يَشْغَلُهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ عِنْدَ السَّماعِ.
وأمّا عَدَمُ نَهْيِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مَن كانَ يُزَمِّرُ عَنِ الزَّمْرِ، والإنْكارِ عَلَيْهِ، فَلا يُسَلَّمُ دِلالَتُهُ عَلى الجَوازِ، فَإنَّهُ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ الصَّوْتُ جاءَ مِن بَعِيدٍ، وبَيْنَ الزّامِرِ وبَيْنَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ما يَمْنَعُ مِنَ الوُصُولِ إلَيْهِ، أوْ لَمْ يَعْرِفْ عَيْنَهُ ﷺ لِأنَّ الصَّوْتَ قَدْ جاءَ مِن وراءِ حِجابٍ، ولا تَتَحَقَّقُ القُدْرَةُ مَعَهُ عَلى الإنْكارِ، ويَجُوزُ أيْضًا أنْ يَكُونَ التَّحْرِيمُ مَعْلُومًا مِن قَبْلُ، وعُلِمَ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ الإصْرارُ عَلَيْهِ، وأنْ يَكُونَ قَدْ عُلِمَ إصْرارُ ذَلِكَ الفاعِلِ عَلى فِعْلِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ كاخْتِلافِ أهْلِ الذِّمَّةِ إلى كَنائِسِهِمْ، وفي مِثْلِ ذَلِكَ لا يَدُلُّ السُّكُوتُ وعَدَمُ الإنْكارِ عَلى الجَوازِ إجْماعًا، ومَن قالَ بِأنَّ الكافِرَ غَيْرُ مُكَلَّفٍ بِالفُرُوعِ قالَ: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ الزّامِرُ كافِرًا، وأنَّ السُّكُوتَ في حَقِّهِ لَيْسَ دَلِيلَ الجَوازِ، وإنْ كانَ الزَّمْرُ بِها لا عَلى وجْهِ التَّأنُّقِ وإجْراءِ النَّغَماتِ الَّتِي تُحَرِّكُ الشَّهَواتِ فَلا بُعْدَ في (p-79)أنْ يُقالَ بِالجَوازِ والإباحَةِ فِعْلًا واسْتِماعًا، وسَدُّ الأُذُنَيْنِ عَلَيْهِ لِغايَةِ التَّنَزُّهِ اللّائِقِ بِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وقَوْلُ الأذْرُعِيِّ في الجَوابِ: إنَّ قَوْلَهُ في الخَبَرِ: زَمّارَةُ راعٍ لا يُعَيِّنُ أنَّها الشَّبّابَةُ، فَإنَّ الرُّعاةَ يَضْرِبُونَ بِالشُّعَيْبِيَّةِ وغَيْرِها يُوهِمُ أنَّ ما يُسَمّى شُعَيْبِيَّةً مُباحٌ مَفْرُوغٌ مِنهُ، وفِيهِ نَظَرٌ، فَإنَّها عِبارَةٌ عَنْ عِدَّةِ قَصَباتٍ صِغارٍ، ولَها إطْرابٌ بِحَسَبِ حِذْقِ مُتَعاطِيها، فَهي شَبّابَةٌ، أوْ مِزْمارٌ لا مَحالَةَ، وفي إباحَةِ ذَلِكَ كَلامٌ، وبَعْدَ هَذا كُلِّهِ نَقُولُ:
إنَّ الخَبَرَ المَذْكُورَ رَواهُ أبُو داوُدَ، وقالَ: إنَّهُ مُنْكَرٌ، وعَلَيْهِ لا حُجَّةَ فِيهِ لِلطَّرَفَيْنِ، وكَفى اللَّهُ تَعالى المُؤْمِنِينَ القِتالَ، ثُمَّ إنَّكَ إذا ابْتُلِيتَ بِشَيْءٍ مِن ذَلِكَ، فَإيّاكَ ثُمَّ إيّاكَ أنْ تَعْتَقِدَ أنَّ فِعْلَهُ أوِ اسْتِماعَهُ قُرْبَةٌ كَما يَعْتَقِدُ ذَلِكَ مَن لا خَلاقَ لَهُ مِنَ المُتَصَوِّفَةِ، فَلَوْ كانَ الأمْرُ كَما زَعَمُوا لَما أهْمَلَ الأنْبِياءُ أنْ يَفْعَلُوهُ، ويَأْمُرُوا أتْباعَهم بِهِ، ولَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ عَنْ أحَدٍ مِنَ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ، ولا أشارَ إلَيْهِ كِتابٌ مِنَ الكُتُبِ المُنَزَّلَةِ مِنَ السَّماءِ، وقَدْ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكم دِينَكُمْ﴾ ولَوْ كانَ اسْتِعْمالُ المَلاهِي المُطْرِباتِ أوِ اسْتِماعُها مِنَ الدِّينِ، ومِمّا يُقَرِّبُ إلى حَضْرَةِ رَبِّ العالَمِينَ لَبَيَّنَهُ ﷺ وأوْضَحَهُ كَمالَ الإيضاحِ لِأُمَّتِهِ، وقَدْ قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ««والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، ما تَرَكْتُ شَيْئًا يُقَرِّبُكم مِنَ الجَنَّةِ ويُباعِدُكم عَنِ النّارِ إلّا أمَرْتُكم بِهِ، وما تَرَكْتُ شَيْئًا يُقَرِّبُكم مِنَ النّارِ ويُباعِدُكم عَنِ الجَنَّةِ إلّا نَهَيْتُكم عَنْهُ»»
وما ذُكِرَ داخِلٌ في الشِّقِّ الثّانِي كَما لا يَخْفى عَلى مَن لَهُ قَلْبٌ سَلِيمٌ، وعَقْلٌ مُسْتَقِيمٌ، فَتَأمَّلْ، وأنْصِفْ، وإيّاكَ مِنَ الِاعْتِراضِ قَبْلَ أنْ تُراجِعَ تَعَرَّفْ، ولَنا عَوْدَةٌ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى لِلْكَلامِ في هَذا المَطْلَبِ، يَسَّرَ اللَّهُ تَعالى ذَلِكَ لَنا بِحُرْمَةِ حَبِيبِهِ الأعْظَمِ ﷺ.
واسْتَدَلَّ بَعْضُهم بِالآيَةِ عَلى القَوْلِ بِأنَّ لَهْوَ الحَدِيثِ الكُتُبُ الَّتِي اشْتَراها النَّضْرُ بْنُ الحارِثِ عَلى حُرْمَةِ مُطالَعَةِ كُتُبِ تَوارِيخِ الفُرْسِ القَدِيمَةِ، وسَماعِ ما فِيها وقِراءَتِهِ، وفِيهِ بَحْثٌ، ولا يَخْفى أنَّ فِيها مِنَ الكَذِبِ ما فِيها، فالِاشْتِغالُ بِها لِغَيْرِ غَرَضٍ دِينِيٍّ خَوْضٌ في الباطِلِ، وعَدَّهُ ابْنُ نُجَيْمٍ في رِسالَتِهِ في بَيانِ المَعاصِي مِنَ الصَّغائِرِ، ومَثَّلَ لَهُ بِذِكْرِ تَنَعُّمِ المُلُوكِ والأغْنِياءِ فافْهَمْ هَذا، ومِنَ الغَرِيبِ البَعِيدِ وفِيهِ جَعْلُ الِاشْتِراءِ بِمَعْنى البَيْعِ ما ذَهَبَ إلَيْهِ صاحِبُ التَّحْرِيرِ قالَ:
يَظْهَرُ لِي أنَّهُ أرادَ سُبْحانَهُ بِلَهْوِ الحَدِيثِ ما كانُوا يُظْهِرُونَهُ مِنَ الأحادِيثِ في تَقْوِيَةِ دِينِهِمْ، والأمْرِ بِالدَّوامِ عَلَيْهِ، وتَغْيِيرِ صِفَةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وأنَّ التَّوْراةَ تَدُلُّ عَلى أنَّهُ مِن ولَدِ إسْحاقَ عَلَيْهِ السَّلامُ يَقْصِدُونَ صَدَّ أتْباعِهِمْ عَنِ الإيمانِ، وأُطْلِقَ اسْمُ الِاشْتِراءِ لِكَوْنِهِمْ يَأْخُذُونَ عَلى ذَلِكَ الرِّشا والجَعائِلَ مِن مُلُوكِهِمْ، وقالَ: يُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ وهو كَما تَرى، والمُرادُ بِسَبِيلِهِ تَعالى دِينُهُ عَزَّ وجَلَّ، أوْ قِراءَةُ كِتابِهِ سُبْحانَهُ، أوْ ما يَعُمُّهُما، واللّامُ في ( لِيُضِلَّ ) لِلتَّعْلِيلِ. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو عَمْرٍو «لِيَضِلَّ» بِفَتْحِ الياءِ، والمُرادُ لِيَثْبُتَ عَلى ضَلالِهِ ويَزِيدَ فِيهِ، فَإنَّ المُخْبَرَ عَنْهُ ضالٌّ قَبْلُ، واللّامُ لِلْعاقِبَةِ، وكَوْنُها عَلى أصْلِها كَما قِيلَ بَعِيدٌ، وجَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ أنْ يَكُونَ قَدْ وضَعَ «لِيَضِلَّ» عَلى هَذِهِ القِراءَةِ مَوْضِعَ (لِيُضِلَّ) مِن قِبَلِ أنَّ مَن أضَلَّ كانَ ضالًّا لا مَحالَةَ، فَدَلَّ بِالرَّدِيفِ، وهو الضَّلالُ عَلى المَرْدُوفِ وهو الإضْلالُ، ووَجْهُ الدِّلالَةِ أنَّهُ أُرِيدَ بِالضَّلالِ الضَّلالُ المُضاعَفُ في شَأْنِ مَن جانَبَ سَبِيلَ اللَّهِ تَعالى، وتَرَكَهُ رَأْسًا، وهَذا الضَّلالُ لا يَنْفَكُّ عَنِ الإضْلالِ، وبِالعَكْسِ، وبِهِ يَنْدَفِعُ نَظَرُ صاحِبِ الفَرائِدِ بِأنَّ الضَّلالَ لا يَلْزَمُهُ إلّا ضَلالٌ، وفِيهِ تَوافُقُ القِراءَتَيْنِ، وبَقاءُ اللّامِ عَلى حَقِيقَتِها، وهي عَلى الوَجْهَيْنِ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿يَشْتَرِي )،﴾ وقَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِهِ أيْضًا أيْ يَشْتَرِي ذَلِكَ بِغَيْرِ عِلْمٍ بِحالِ ما يَشْتَرِيهِ، أوْ بِالتِّجارَةِ حَيْثُ اسْتَبْدَلَ الضَّلالَ بِالهُدى والباطِلَ بِالحَقِّ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا (بِيُضِلَّ) أيْ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ تَعالى جاهِلًا أنَّها سَبِيلُهُ عَزَّ وجَلَّ، أوْ جاهِلًا أنَّهُ يُضِلُّ، أوْ جاهِلًا الحَقَّ، ﴿ويَتَّخِذَها﴾ (p-80)بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلى «يُضِلَّ» والضَّمِيرُ لِلسَّبِيلِ، فَإنَّهُ مِمّا يُذَكَّرُ ويُؤَنَّثُ، وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ لِلْآياتِ، وقِيلَ: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ لِلْأحادِيثِ، لِأنَّ الحَدِيثَ اسْمُ جِنْسٍ بِمَعْنى الأحادِيثِ، وهو كَما تَرى، ﴿هُزُوًا﴾ أيْ مَهْزُوءًا بِهِ. وقَرَأ جَمْعٌ مِنَ السَّبْعَةِ ( يَتَّخِذُها ) بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلى ( يَشْتَرِي )، وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ عَلى إضْمارِ هُوَ، ﴿أُولَئِكَ لَهم عَذابٌ مُهِينٌ﴾ لِما اتَّصَفُوا بِهِ مِن إهانَتِهِمُ الحَقَّ بِإيثارِ الباطِلِ عَلَيْهِ، وتَرْغِيبِ النّاسِ فِيهِ، والجَزاءُ مِن جِنْسِ العَمَلِ، ( وأُولَئِكَ ) إشارَةٌ إلى ( مَن )، وما فِيهِ مِن مَعْنى البُعْدِ لِلْإشارَةِ إلى بُعْدِ المَنزِلَةِ في الشَّرارَةِ، والجَمْعُ في اسْمِ الإشارَةِ والضَّمِيرِ بِاعْتِبارِ مَعْناها، كَما أنَّ الإفْرادَ في الفِعْلَيْنِ بِاعْتِبارِ لَفْظِها، وكَذا في قَوْلِهِ تَعالى:
{"ayah":"وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن یَشۡتَرِی لَهۡوَ ٱلۡحَدِیثِ لِیُضِلَّ عَن سَبِیلِ ٱللَّهِ بِغَیۡرِ عِلۡمࣲ وَیَتَّخِذَهَا هُزُوًاۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ لَهُمۡ عَذَابࣱ مُّهِینࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق