الباحث القرآني

﴿ذَلِكَ﴾ إشارَةٌ إلى ما تَضَمَّنَتْهُ الآياتُ وأشارَتْ إلَيْهِ مِن سَعَةِ العِلْمِ، وكَمالِ القُدْرَةِ واخْتِصاصِ البارِي تَعالى شَأْنُهُ بِها ﴿بِأنَّ اللَّهَ هو الحَقُّ﴾ أيْ بِسَبَبِ أنَّهُ سُبْحانَهُ وحْدَهُ الثّابِتُ المُتَحَقِّقُ في ذاتِهِ أيِ الواجِبُ الوُجُودِ. ﴿وأنَّ ما يَدْعُونَ مِن دُونِهِ﴾ إلَهًا ﴿الباطِلُ﴾ المَعْدُومُ في حَدِّ ذاتِهِ، وهو المُمْكِنُ الَّذِي لا يُوجَدُ إلّا بِغَيْرِهِ، وهو الواجِبُ تَعالى شَأْنُهُ ﴿وأنَّ اللَّهَ هو العَلِيُّ﴾ عَلى الأشْياءِ ﴿الكَبِيرُ﴾ عَنْ أنْ يَكُونَ لَهُ سُبْحانَهُ شَرِيكٌ أوْ يَتَّصِفَ جَلَّ وعَلا بِنَقْصٍ لا بِشَيْءٍ أعْلى مِنهُ تَعالى شَأْنُهُ شَأْنًا وأكْبَرَ سُلْطانًا، ووَجْهُ سَبَبِيَّةِ الأوَّلِ لِما ذُكِرَ أنَّ كَوْنَهُ تَعالى وحْدَهُ واجِبُ الوُجُودِ في ذاتِهِ يَسْتَلْزِمُ أنْ يَكُونَ هو سُبْحانَهُ وحْدَهُ المُوجِدَ لِسائِرِ المَصْنُوعاتِ البَدِيعَةِ الشَّأْنِ، فَيَدُلُّ عَلى كَمالِ قُدْرَتِهِ عَزَّ وجَلَّ وحْدَهُ، والإيجابُ قَدْ أُبْطِلَ في الأُصُولِ، ومَن صَدَرَتْ عَنْهُ جَمِيعُ هاتِيكَ المَصْنُوعاتِ لا بُدَّ مِن أنْ يَكُونَ كامِلَ العِلْمِ عَلى ما بُيِّنَ في الكَلامِ، ووَجْهُ سَبَبِيَّةِ الثّالِثِ لِذَلِكَ أنَّ كَوْنَهُ تَعالى وحْدَهُ عَلِيًّا عَلى جَمِيعِ الأشْياءِ مُتَسَلِّطًا عَلَيْها مُتَنَزِّهًا عَنْ أنْ يَكُونَ لَهُ سُبْحانَهُ شَرِيكٌ أوْ يَتَّصِفَ بِنَقْصٍ عَزَّ وجَلَّ يَسْتَلْزِمُ (p-104)كَوْنَهُ تَعالى وحْدَهُ واجِبَ الوُجُودِ في ذاتِهِ، وقَدْ سَمِعْتَ الكَلامَ فِيهِ، وأمّا وجْهُ سَبَبِيَّةِ كَوْنِ ما يَدْعُونَهُ مِن دُونِهِ إلَهًا باطِلًا مُمْكِنًا في ذاتِهِ لِذَلِكَ، فَهو أنَّ إمْكانَهُ عَلى عُلُوِّ شَأْنِهِ عِنْدَهم عَلى ما عَداهُ مِمّا لَمْ يَعْتَقِدُوا إلَهِيَّتَهُ يَسْتَلْزِمُ إمْكانَ غَيْرِهِ مِمّا سِوى اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ، لِأنَّ ما فِيهِ مِمّا يَدُلُّ عَلى إمْكانِهِ مَوْجُودٌ في ذَلِكَ حَذْوَ القُذَّةِ بِالقُذَّةِ، ومَتى كانَ ما يَدْعُونَهُ إلَهًا مِن دُونِهِ تَعالى وغَيْرِهِ مِمّا سِوى اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى مُمْكِنًا انْحَصَرَ وُجُوبُ الوُجُودِ في اللَّهِ تَعالى فَيَكُونُ جَلَّ وعَلا وحْدَهُ واجِبَ الوُجُودِ في ذاتِهِ، وقَدْ عَلِمْتَ إفادَتَهُ لِلْمَطْلُوبِ، وكَأنَّهُ إنَّما قِيلَ: إنَّ ما يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الباطِلُ دُونَ أنَّ ما سِواهُ الباطِلُ مَثَلًا نَظِيرَ قَوْلِ لَبِيدٍ: ؎ألا كُلُّ شَيْءٍ ما خَلا اللَّهَ باطِلُ تَنْصِيصًا عَلى فَظاعَةِ ما هم عَلَيْهِ، واسْتِلْزَمُ ذَلِكَ إمْكانَ ما سِوى اللَّهِ تَعالى مِنَ المَوْجُوداتِ مِن بابِ أوْلى بِناءً عَلى ما يَزْعُمُ المُشْرِكُونَ في آلِهَتِهِمْ مِن عُلُوِّ الشَّأْنِ، ولَمْ يَكْتَفِ في بَيانِ السَّبَبِ بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ( بِأنَّ اللَّهَ هو الحَقُّ ) بَلْ عَطَفَ عَلَيْهِ ما عَطَفَ مَعَ أنَّهُ مِمّا يَعُودُ إلَيْهِ، وتُشْعِرُ تِلْكَ الجُمْلَةُ بِهِ إظْهارًا لِكَمالِ العِنايَةِ بِالمَطْلُوبِ، وبِما يُفِيدُهُ مَنطُوقُ المَعْطُوفِ مِن بُطْلانِ الشَّرِيكِ، وكَوْنِهِ تَعالى هو العَلِيُّ الكَبِيرُ. وقِيلَ: أيُّ ذَلِكَ الِاتِّصافِ بِما تَضَمَّنَتْهُ الآياتُ مِن عَجائِبِ القُدْرَةِ، والحِكْمَةِ بِسَبَبِ أنَّ اللَّهَ تَعالى هو الإلَهُ الثّابِتُ إلَهِيَّتُهُ، وأنَّ مَن دُونَهُ سُبْحانَهُ باطِلُ الإلَهِيَّةِ، وإنَّ اللَّهَ تَعالى هو العَلِيُّ الشَّأْنِ الكَبِيرُ السُّلْطانِ، ومَدارُ أمْرِ السَّبَبِيَّةِ عَلى كَوْنِهِ سُبْحانَهُ هو الثّابِتُ الإلَهِيَّةِ، وبَيَّنَ ذَلِكَ الطِّيبِيُّ بِأنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ أنَّ مَن كانَ إلَهًا كانَ قادِرًا خالِقًا عالِمًا إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِن صِفاتِ الكَمالِ، ثُمَّ قالَ: إنَّ قَوْلَهُ تَعالى بِأنَّ اللَّهَ هو الحَقُّ كالفَذْلَكَةِ لِما تَقَدَّمَ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ألَمْ تَرَوْا أنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ﴾ إلى هَذا المَقامِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأنَّ اللَّهَ هو العَلِيُّ الكَبِيرُ﴾ كالفَذْلَكَةِ لِتِلْكَ الفَواصِلِ المَذْكُورَةِ هُنالِكَ كُلِّها. ولَعَلَّ ما قَدَّمْنا أوْلى بِالِاعْتِبارِ، وقالَ العَلّامَةُ أبُو السُّعُودِ في الِاعْتِراضِ عَلى ذَلِكَ: أنْتَ خَبِيرٌ بِأنَّ حَقِّيَّتَهُ تَعالى وعُلُوَّهُ وكِبْرِياءَهُ وإنْ كانَتْ صالِحَةً لِمَناطِيَّةِ ما ذُكِرَ مِنَ الصِّفاتِ، لَكِنَّ بُطْلانَ إلَهِيَّةِ الأصْنامِ لا دَخْلَ لَهُ في المَناطِيَّةِ قَطْعًا فَلا مَساغَ لِنَظْمِهِ في سِلْكِ الأسْبابِ بَلْ هو تَعْكِيسٌ لِلْأمْرِ ضَرُورَةَ أنَّ الصِّفاتِ المَذْكُورَةَ هي المُقْتَضِيَةُ لِبُطْلانِها، لا أنَّ بُطْلانَها يَقْتَضِيها انْتَهى، وفِيهِ تَأمُّلٌ، والعَجَبُ مِنهُ أنَّهُ ذَكَرَ مِثْلَ ما اعْتَرَضَ عَلَيْهِ في نَظِيرِ هَذِهِ الآيَةِ في سُورَةِ الحَجِّ، ولَمْ يَتَعَقَّبْهُ بِشَيْءٍ. وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ المَعْنى ذَلِكَ، أيْ ما تُلِيَ مِنَ الآياتِ الكَرِيمَةِ بِسَبَبِ بَيانِ أنَّ اللَّهَ هو الحَقُّ إلَهِيَّتُهُ فَقَطْ، ولِأجْلِهِ لِكَوْنِها ناطِقَةً بِحَقِّيَّةِ التَّوْحِيدِ، ولِأجْلِ بَيانِ بُطْلانِ إلَهِيَّةِ ما يَدَّعُونَ مِن دُونِهِ لِكَوْنِها شاهِدَةً شَهادَةً بَيِّنَةً لا رَيْبَ فِيها، ولِأجْلِ بَيانِ أنَّهُ تَعالى هو المُرْتَفِعُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ المُتَسَلِّطُ عَلَيْهِ فَإنَّ ما في تَضاعِيفِ تِلْكَ الآياتِ الكَرِيمَةِ مُبَيِّنٌ لِاخْتِصاصِ العُلُوِّ والكِبْرِياءِ بِهِ أيَّ بَيانٍ، وهو وجْهٌ لا تَكَلُّفَ فِيهِ سِوى اعْتِبارِ حَذْفِ مُضافٍ، كَما لا يَخْفى، وكَأنَّهُ إنَّما قِيلَ هُنا: وأنَّ ما يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الباطِلُ بِدُونِ ضَمِيرِ الفَصْلِ، وفي سُورَةِ الحَجِّ: ﴿وأنَّ ما يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هو الباطِلُ،﴾ بِتَوْسِيطِ ضَمِيرِ الفَصْلِ لِما أنَّ الحَطَّ عَلى المُشْرِكِينَ وآلِهَتِهِمْ في هَذِهِ السُّورَةِ دُونَ الحَطِّ عَلَيْهِمْ في تِلْكَ السُّورَةِ. وقالَ النَّيْسابُورِيُّ في ذَلِكَ: إنَّ آيَةَ الحَجِّ وقَعَتْ بَيْنَ عَشْرِ آياتٍ كُلُّ آيَةٍ مُؤَكَّدَةٌ مَرَّةً أوْ مَرَّتَيْنِ، فَناسَبَ ذَلِكَ تَوْسِيطُ الضَّمِيرِ بِخِلافِ ما هُنا، ويُمْكِنُ أنْ يُقالَ: تَقَدَّمَ في تِلْكَ السُّورَةِ ذِكْرُ الشَّيْطانِ مَرّاتٍ، فَلِهَذا ذُكِرَتْ تِلْكَ المُؤَكِّداتُ بِخِلافِ هَذِهِ السُّورَةِ فَإنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُ الشَّيْطانِ فِيها نَحْوَ ذِكْرِهِ هُناكَ، وقَرَأ نافِعٌ، وابْنُ كَثِيرٍ، (p-105)وابْنُ عامِرٍ، وأبُو بَكْرٍ «تَدْعُونَ» بِتاءِ الخِطابِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب