الباحث القرآني
سُورَةُ لُقْمانَ
أخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ، وابْنُ مَرْدُوَيْهِ، والبَيْهَقِيُّ في الدَّلائِلِ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما أنَّهُ قالَ: أُنْزِلَتْ سُورَةُ لُقْمانَ بِمَكَّةَ، ولا اسْتِثْناءَ في هَذِهِ الرِّوايَةِ. وفي رِوايَةِ النَّحّاسِ في تارِيخِهِ عَنْهُ اسْتِثْناءُ ثَلاثِ آياتٍ مِنها، وهِيَ: ﴿ولَوْ أنَّما في الأرْضِ مِن شَجَرَةٍ أقْلامٌ﴾ [لُقْمانُ: 27]، إلى تَمامِ الثَّلاثِ، فَإنَّها نَزَلْنَ بِالمَدِينَةِ، وذَلِكَ «أنَّهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ لَمّا هاجَرَ قالَ لَهُ أحْبارُ اليَهُودِ: بَلَغَنا أنَّكَ تَقُولُ: ﴿وما أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إلا قَلِيلا﴾ [الإسْراءُ: 85]، أعَنَيْتَنا أمْ قَوْمَكَ؟ قالَ: كَلّا عَنَيْتُ، فَقالُوا: إنَّكَ تَعْلَمُ أنَّنا أُوتِينا التَّوْراةَ وفِيها بَيانُ كُلِّ شَيْءٍ، فَقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ذَلِكَ في عِلْمِ اللَّهِ تَعالى قَلِيلٌ، فَأنْزَلَ الآياتِ».
ونَقَلَ الدّانِيُّ عَنْ عَطاءٍ، وأبُو حَيّانَ عَنْ قَتادَةَ أنَّهُما قالا: هي مَكِّيَّةٌ إلّا آيَتَيْنِ هُما ﴿ولَوْ أنَّما في الأرْضِ﴾ إلى آخِرِ الآيَتَيْنِ، وقِيلَ: هي مَكِّيَّةٌ، إلّا آيَةً وهي قَوْلُهُ تَعالى: ﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ويُؤْتُونَ الزَّكاةَ﴾ [لُقْمانُ: 4]، فَإنَّ إيجابَهُما بِالمَدِينَةِ، وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّ الصَّلاةَ فُرِضَتْ بِمَكَّةَ لَيْلَةَ الإسْراءِ كَما في صَحِيحِ البُخارِيِّ وغَيْرِهِ، فَما ذُكِرَ مِن أنَّ إيجابَها بِالمَدِينَةِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، ولَوْ سُلِّمَ فَيَكْفِي كَوْنُهم مَأْمُورِينَ بِها بِمَكَّةَ، ولَوْ نَدْبًا فَلا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ فِيها، نَعَمِ المَشْهُورُ أنَّ الزَّكاةَ إيجابُها بِالمَدِينَةِ، فَلَعَلَّ ذَلِكَ القائِلَ أرادَ أنَّ إيجابَهُما مَعًا تَحَقَّقَ بِالمَدِينَةِ لا أنَّ إيجابَ كُلٍّ مِنهُما تَحَقَّقَ فِيها، ولا يَضُرُّ في ذَلِكَ أنَّ إيجابَ الصَّلاةِ كانَ بِمَكَّةَ، وقِيلَ: إنَّ الزَّكاةَ إيجابُها كانَ بِمَكَّةَ كالصَّلاةِ، وتَقْدِيرُ الأنْصِباءِ هو الَّذِي كانَ بِالمَدِينَةِ، وعَلَيْهِ لا تَقْرِيبَ فِيهِما، وآيُها ثَلاثٌ وثَلاثُونَ في المَكِّيِّ والمَدَنِيِّ، وأرْبَعٌ وثَلاثُونَ في عَدَدِ الباقِينَ.
(p-65)وسَبَبُ نُزُولِها عَلى ما في البَحْرِ: أنَّ قُرَيْشًا سَألَتْ عَنْ قِصَّةِ لُقْمانَ مَعَ ابْنِهِ وعَنْ بِرِّ والِدَيْهِ، فَنَزَلَتْ. ووَجْهُ مُناسَبَتِها لِما قَبْلَها عَلى ما فِيهِ أيْضًا أنَّهُ قالَ تَعالى فِيما قَبْلُ: ﴿ولَقَدْ ضَرَبْنا لِلنّاسِ في هَذا القُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ﴾ [الرُّومُ: 58]، وأشارَ إلى ذَلِكَ في مُفْتَتَحِ هَذِهِ السُّورَةِ، وأنَّهُ كانَ في آخِرِ ما قَبْلَها ﴿ولَئِنْ جِئْتَهم بِآيَةٍ )،﴾ [الرُّومُ: 58]، وفِيها: ﴿وإذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا ولّى مُسْتَكْبِرًا﴾ [لُقْمانُ: 7]، وقالَ الجَلالُ السُّيُوطِيُّ: ظَهَرَ لِي في اتِّصالِها بِما قَبْلَها مَعَ المُؤاخاةِ في الِافْتِتاحِ – بِـ (الم ) إنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿هُدًى ورَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ﴾ ﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ويُؤْتُونَ الزَّكاةَ وهم بِالآخِرَةِ هم يُوقِنُونَ﴾ [لُقْمانُ: 3-4] مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ تَعالى فِيما قَبْلُ: ﴿وقالَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ والإيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ في كِتابِ اللَّهِ إلى يَوْمِ البَعْثِ﴾ [الرُّومُ: 56]، الآيَةَ، فَهَذا عَيْنُ إيقانِهِمْ بِالآخِرَةِ، وهُمُ المُحْسِنُونَ المَوْصُوفُونَ بِما ذُكِرَ، وأيْضًا فَفي كِلْتا السُّورَتَيْنِ جُمْلَةٌ مِنَ الآياتِ وابْتِداءِ الخَلْقِ.
وذَكَرَ في السّابِقَةِ: ﴿فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ﴾ [الرُّومُ: 15]، وقَدْ فُسِّرَ بِالسَّماعِ، وذَكَرَ هُنا: ﴿ومِنَ النّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ﴾ [لُقْمانُ: 6]، وقَدْ فُسِّرَ بِالغِناءِ وآلاتِ المَلاهِي اهـ. وسَيَأْتِي إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى الكَلامُ في ذَلِكَ، وأقُولُ في الِاتِّصالِ أيْضًا: إنَّهُ قَدْ ذُكِرَ فِيما تَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وهو أهْوَنُ عَلَيْهِ﴾ [الرُّومُ: 27]، وهُنا قَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿ما خَلْقُكم ولا بَعْثُكم إلا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ﴾ [لُقْمانُ: 28]، وكِلاهُما يُفِيدُ سُهُولَةَ البَعْثِ، وقَرَّرَ ذَلِكَ هُنا بِقَوْلِهِ عَزَّ وجَلَّ قائِلًا: ﴿إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ وذَكَرَ سُبْحانَهُ هُناكَ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿وإذا مَسَّ النّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهم مُنِيبِينَ إلَيْهِ ثُمَّ إذا أذاقَهم مِنهُ رَحْمَةً إذا فَرِيقٌ مِنهم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ﴾ [الرُّومُ: 33]، وقالَ عَزَّ وجَلَّ هُنا: ﴿وإذا غَشِيَهم مَوْجٌ كالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمّا نَجّاهم إلى البَرِّ فَمِنهم مُقْتَصِدٌ﴾ [لُقْمانُ: 32]، فَذَكَرَ سُبْحانَهُ في كُلٍّ مِنَ الآيَتَيْنِ قِسْمًا لَمْ يَذْكُرْهُ في الأُخْرى إلى غَيْرِ ذَلِكَ.
وما ألْطَفَ هَذا الِاتِّصالَ مِن حَيْثُ إنَّ السُّورَةَ الأُولى ذَكَرَ فِيها مَغْلُوبِيَّةَ الرُّومِ وغَلَبَتَهُمُ المَبْنِيَّتَيْنِ عَلى المُحارَبَةِ بَيْنَ مَلِكَيْنِ عَظِيمَيْنِ مِن مُلُوكِ الدُّنْيا تَحارَبا عَلَيْها، وخَرَجَ بِذَلِكَ عَنْ مُقْتَضى الحِكْمَةِ فَإنَّ الحَكِيمَ لا يُحارِبُ عَلى دُنْيا دَنِيَّةٍ لا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى جَناحَ بَعُوضَةٍ، وهَذِهِ ذُكِرَ فِيها قِصَّةُ عَبْدٍ مَمْلُوكٍ عَلى كَثِيرٍ مِنَ الأقْوالِ حَكِيمٍ زاهِدٍ في الدُّنْيا غَيْرِ مُكْتَرِثٍ بِها، ولا مُلْتَفِتٍ إلَيْها، أوْصى ابْنَهُ بِما يَأْبى المُحارَبَةَ، ويَقْتَضِي الصَّبْرَ والمُسالَمَةَ، وبَيْنَ الأمْرَيْنِ مِنَ التَّقابُلِ ما لا يَخْفى.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ )، ﴿الم﴾ ﴿تِلْكَ آياتُ الكِتابِ الحَكِيمِ﴾ أيْ ذِي الحِكْمَةِ، ووَصْفُ الكِتابِ بِذَلِكَ عِنْدَ بَعْضِ المَغارِبَةِ مَجازٌ، لِأنَّ الوَصْفَ بِذَلِكَ لِلتَّمَلُّكِ، وهو لا يَمْلِكُ الحِكْمَةَ بَلْ يَشْتَمِلُ عَلَيْها، ويَتَضَمَّنُها، فَلِأجْلِ ذَلِكَ وُصِفَ بِالحَكِيمِ بِمَعْنى ذِي الحِكْمَةِ، واسْتَظْهَرَ الطِّيبِيُّ أنَّهُ عَلى ذَلِكَ مِنَ الِاسْتِعارَةِ المَكْنِيَّةِ. والحَقُّ أنَّهُ مِن بابِ ﴿عِيشَةٍ راضِيَةٍ﴾ [الحاقَّةُ: 21]، عَلى حَدِّ لابِنٍ وتامِرٍ.
نَعَمْ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ هُناكَ اسْتِعارَةٌ بِالكِنايَةِ أيِ النّاطِقُ بِالحِكْمَةِ كالحَيِّ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ الحَكِيمُ مِن صِفاتِهِ عَزَّ وجَلَّ ووَصْفُ الكِتابِ بِهِ مِن بابِ الإسْنادِ المَجازِيِّ، فَإنَّهُ مِنهُ سُبْحانَهُ بَدا، وقَدْ يُوصَفُ الشَّيْءُ بِصِفَةِ مَبْدَئِهِ كَما في قَوْلِ الأعْشى:
؎وغَرِيبَةٍ تَأْتِي المُلُوكَ حَكِيمَةٍ قَدْ قُلْتُها لِيُقالَ مَن ذا قالَها
وأنْ يَكُونَ الأصْلُ الحَكِيمُ مُنَزِّلَهُ أوْ قائِلَهُ فَحُذِفَ المُضافُ إلى الضَّمِيرِ المَجْرُورِ وأُقِيمَ المُضافُ إلَيْهِ مَقامَهُ (p-66)فانْقَلَبَ مَرْفُوعًا، ثُمَّ اسْتَسْكَنَ في الصِّفَةِ المُشَبَّهَةِ، وأنْ يَكُونَ ( الحَكِيمُ ) فَعِيلًا بِمَعْنى مُفْعَلٍ كَما قالُوا: عَقَدْتُ العَسَلَ فَهو عَقِيدٌ أيْ مُعْقَدٍ، وهَذا قَلِيلٌ، وقِيلَ: هو بِمَعْنى حاكِمٍ، وتَمامُ الكَلامِ في هَذِهِ الآيَةِ قَدْ تَقَدَّمَ في الكَلامِ عَلى نَظِيرِها.
{"ayahs_start":1,"ayahs":["الۤمۤ","تِلۡكَ ءَایَـٰتُ ٱلۡكِتَـٰبِ ٱلۡحَكِیمِ"],"ayah":"تِلۡكَ ءَایَـٰتُ ٱلۡكِتَـٰبِ ٱلۡحَكِیمِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق