الباحث القرآني
﴿ظَهَرَ الفَسادُ في البَرِّ والبَحْرِ﴾ كالجَدْبِ، والمُوْتانِ، وكَثْرَةِ الحَرْقِ والغَرَقِ، وإخْفاقِ الصَّيّادِينَ والغاصَّةِ ومَحْقِّ البَرَكاتِ مِن كُلِّ شَيْءٍ وقِلَّةِ المَنافِعِ في الجُمْلَةِ، وكَثْرَةِ المَضارِّ، وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: أجْدَبَتِ الأرْضُ، وانْقَطَعَتْ مادَّةُ البَحْرِ، وقالُوا: إذا انْقَطَعَ القَطْرُ عَمِيَتْ دَوابُّ البَحْرِ، وقالَ مُجاهِدٌ: ظَهَرَ الفَسادُ في البَرِّ بِقَتْلِ ابْنِ آدَمَ أخاهُ، وفي البَحْرِ بِأخْذِ السُّفُنِ غَصْبًا، وفي رِوايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: بِأخْذِ جُلَنْدى كُلِّ سَفِينَةٍ غَصْبًا، ولَعَلَّ المُرادَ التَّمْثِيلُ، وكَذا يُقالُ في قَتْلِ ابْنِ آدَمَ أخاهُ، وكانَ أوَّلَ مَعْصِيَةٍ ظَهَرَتْ في البَرِّ، قالَ الضَّحّاكُ: كانَتِ الأرْضُ خَضِرَةً مُونِقَةً لا يَأْتِي ابْنُ آدَمَ شَجَرَةً إلّا وجَدَ عَلَيْها ثَمَرَةً، وكانَ ماءُ البَحْرِ عَذْبًا، وكانَ لا يَفْتَرِسُ الأسَدُ البَقَرَ ولا الذِّئْبُ (p-48)الغَنَمَ، فَلَمّا قَتَلَ قابِيلُ هابِيلَ اقْشَعَرَّ ما في الأرْضِ، وشاكَتِ الأشْجارُ وصارَ ماءُ البَحْرِ مِلْحًا زُعافًا، وقَصَدَ الحَيَوانُ بَعْضُهُ بَعْضًا.
وذُكِرَ أنَّ أوَّلَ مَعْصِيَةٍ في البَحْرِ غَصْبُ جُلَنْدى كُلِّ سَفِينَةٍ تَمُرُّ عَلَيْهِ، فَكَأنَّ تَخْصِيصَ الأمْرَيْنِ بِالذِّكْرِ لِذَلِكَ، وأيًّا ما كانَ فالبَرُّ والبَحْرُ عَلى ظاهِرِهِما، وعَنْ مُجاهِدٍ: البَرُّ البِلادُ البَعِيدَةُ مِنَ البَحْرِ، والبَحْرُ السَّواحِلُ والمُدُنُ الَّتِي عِنْدَ البَحْرِ والأنْهارِ، وقالَ قَتادَةُ: البَرُّ الفَيافِي ومَواضِعُ القَبائِلِ، وأهْلُ الصَّحارى والعَمُودِ، والبَحْرُ المُدُنُ، والعَرَبُ تُسَمِّي الأمْصارَ بِحارًا لِسَعَتِها، ومِنهُ قَوْلُ سَعْدِ بْنِ عُبادَةَ في عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ: ولَقَدْ أجْمَعَ أهْلُ هَذِهِ البُحَيْرَةِ، يَعْنِي المَدِينَةَ، لِيُتَوِّجُوهُ.
قالَ أبُو حَيّانَ: ويُؤَيِّدُ هَذا قِراءَةُ عِكْرِمَةَ «والبُحُورِ» بِالجَمْعِ، ورُوِيَتْ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما، وجَوَّزَ النَّحّاسُ أنْ يَكُونَ البَحْرُ عَلى ظاهِرِهِ، إلّا أنَّ الكَلامَ عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أيْ مُدُنِ البَحْرِ، فَهو مِثْلُ: ﴿واسْألِ القَرْيَةَ﴾ [يُوسُفُ: 82]، وجُوِّزَ أيْضًا أنْ يُرادَ بِالفَسادِ المَعاصِي مِن قَطْعِ الطَّرِيقِ والظُّلْمِ وغَيْرِهِما، و(ألْ) في ( البَرِّ والبَحْرِ ) لِلْجِنْسِ، وكَذا في ( الفَسادُ )، أيْ ظَهَرَ جِنْسُ الفَسادِ مِنَ الجَدْبِ، والمُوْتانِ، ونَحْوِهِما في جِنْسِ البَرِّ وجِنْسِ البَحْرِ، ﴿بِما كَسَبَتْ أيْدِي النّاسِ﴾ أيْ بِسَبَبِ ما فَعَلَهُ النّاسُ مِنَ المَعاصِي والذُّنُوبِ، وشُؤْمِهِ، وهَذا كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما أصابَكم مِن مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أيْدِيكُمْ﴾ [الشُّورى: 30]، وهو عَلى التَّفْسِيرِ الأوَّلِ لِلْفَسادِ ظاهِرٌ، وأمّا عَلى تَفْسِيرِهِ بِالمَعاصِي فالمَعْنى: ظَهَرَتِ المَعاصِي في البَرِّ والبَحْرِ بِكَسْبِ النّاسِ إيّاها وفِعْلِهِمْ لَها، ومَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لِيُذِيقَهم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهم يَرْجِعُونَ﴾ عَلى الأوَّلِ ظاهِرٌ، وهو أنَّ اللَّهَ تَعالى قَدْ أفْسَدَ أسْبابَ دُنْياهم ومَحَقَها وبالُ بَعْضِ أعْمالِهِمْ في الدُّنْيا قَبْلَ أنْ يُعاقِبَهم بِجَمِيعِها في الآخِرَةِ لَعَلَّهم يَرْجِعُونَ عَمّا هم عَلَيْهِ، وأمّا عَلى الثّانِي فاللّامُ مَجازٌ عَلى مَعْنى أنَّ ظُهُورَ المَعاصِي بِسَبَبِهِمْ مِمّا اسْتَوْجَبُوا بِهِ أنْ يُذِيقَهُمُ اللَّهُ تَعالى وبالَ أعْمالِهِمْ إرادَةَ الرُّجُوعِ، فَكَأنَّهم إنَّما فَسَدُوا وتَسَبَّبُوا لِفُشُوِّ المَعاصِي في الأرْضِ لِأجْلِ ذَلِكَ. وقَرَأ السُّلَمِيُّ، والأعْرَجُ، وأبُو حَيْوَةَ، وسَلّامٌ، وسَهْلٌ، ورَوْحٌ، وابْنُ حَسّانَ، وقُنْبُلٌ مِن طَرِيقِ ابْنِ مُجاهِدٍ، وابْنِ الصَّبّاحِ، وأبِي الفَضْلِ الواسِطِيِّ عَنْهُ، ومَحْبُوبٌ عَنْ أبِي عَمْرٍو «لِنُذِيقَهُمْ» بِالنُّونِ، وظُهُورُ الفَسادِ المَذْكُورِ عَلى ما أخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ قَتادَةَ كانَ قَبْلَ أنْ يُبْعَثَ النَّبِيُّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، فَلَمّا بُعِثَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ رَجَعَ مَن رَجَعَ مِنَ النّاسِ عَنِ الضَّلالِ والظُّلْمِ، وقِيلَ: كانَ أوائِلَ البَعْثَةِ، وذَلِكَ أنَّ كُفّارَ قُرَيْشٍ فَعَلُوا ما فَعَلُوا مِنَ المَعاصِي والإصْرارِ عَلى الشِّرْكِ وإيذاءِ الرَّسُولِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، فَدَعا صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، فَأقْحَطُوا، وحَلَّ بِهِمْ مِنَ البَلاءِ ما حَلَّ، فَأخْبَرَ اللَّهُ سُبْحانَهُ أنَّ ذَلِكَ بِسَبَبِ مَعاصِيهِمْ، لِيُذِيقَهم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهم يَرْجِعُونَ.
وفَسَّرَ هَذا القائِلُ: ( النّاسِ ) بِكُفّارِ قُرَيْشٍ، وقِيلَ: كانَ في زَمانٍ سابِقٍ عَلى زَمانِ النُّزُولِ أعَمَّ مِن أنْ يَكُونَ الزَّمانُ الَّذِي قُبَيْلَ البَعْثَةِ أوْ بُعَيْدِها، أوْ غَيْرَ ذَلِكَ، وحُكْمُ الآيَةِ عامٌّ في كُلِّ فَسادٍ يَظْهَرُ إلى يَوْمِ القِيامَةِ، ومِن هُنا قِيلَ: مَن أذْنَبَ ذَنْبًا يَكُونُ جَمِيعُ الخَلائِقِ مِنَ الإنْسِ والدَّوابِّ والوُحُوشِ والطُّيُورِ والذَّرِّ خُصَماءَهُ يَوْمَ القِيامَةِ، لِأنَّهُ تَعالى يَمْنَعُ المَطَرَ بِشُؤْمِ المَعْصِيَةِ، فَيَتَضَرَّرُ بِذَلِكَ أهْلُ البَرِّ والبَحْرِ جَمِيعًا، ورُوِيَ عَنْ شَقِيقٍ الزّاهِدِ أنَّهُ قالَ: مَن أكَلَ الحَرامَ فَقَدْ خانَ جَمِيعَ النّاسِ، ووَجْهُ تَعَلُّقِ الآيَةِ بِما قَبْلَها أنَّ فِيها نَعْيَ ما يَعُمُّ الشِّرْكَ وغَيْرَهُ مِنَ المَعاصِي (p-49)وفِيما قَبْلُ نَعْيَ الشِّرْكَ، وفِيها مِن تَخْوِيفِ المُشْرِكِينَ ما فِيها.
وقالَ الإمامُ في وجْهِ التَّعَلُّقِ: هو أنَّ الشِّرْكَ سَبَبُ الفَسادِ كَما قالَ تَعالى: ﴿لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إلا اللَّهُ لَفَسَدَتا﴾ [الأنْبِياءُ: 22]، وإذا كانَ الشِّرْكُ سَبَبَهُ، جَعَلَ اللَّهُ تَعالى إظْهارَهُمُ الشِّرْكَ مُوَرِّثًا لِظُهُورِ الفَسادِ، ولَوْ فَعَلَ بِهِمْ ما يَقْتَضِيهِ قَوْلُهم لَفَسَدَتِ السَّماواتُ والأرْضُ كَما قالَ سُبْحانَهُ: ﴿تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنهُ وتَنْشَقُّ الأرْضُ وتَخِرُّ الجِبالُ هَدًّا﴾ [مَرْيَمُ: 90]، وإلى هَذا أشارَ عَزَّ وجَلَّ بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿لِيُذِيقَهم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا﴾ انْتَهى، فَتَأمَّلْ وأنْصِفْ.
{"ayah":"ظَهَرَ ٱلۡفَسَادُ فِی ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ بِمَا كَسَبَتۡ أَیۡدِی ٱلنَّاسِ لِیُذِیقَهُم بَعۡضَ ٱلَّذِی عَمِلُوا۟ لَعَلَّهُمۡ یَرۡجِعُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق