الباحث القرآني

﴿وما آتَيْتُمْ مِن رِبًا﴾ الظّاهِرُ أنَّهُ أُرِيدَ بِهِ الزِّيادَةُ المَعْرُوفَةُ في المُعامَلَةِ الَّتِي حَرَّمَها الشّارِعُ، وإلَيْهِ ذَهَبَ الجُبّائِيُّ، ورُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الحَسَنِ، ويَشْهَدُ لَهُ ما رُوِيَ عَنُ السُّدِّيِّ مِن أنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ في رِبا ثَقِيفٍ، كانُوا يُرْبُونَ، وكَذا كانَتْ قُرَيْشٌ، وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ومُجاهِدٍ، وسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، والضَّحّاكِ، ومُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ القُرَظِيِّ، وطاوُسٍ، وغَيْرِهِمْ أنَّهُ أُرِيدَ بِهِ العَطِيَّةُ الَّتِي يُتَوَقَّعُ بِها مَزِيدُ مُكافَأةٍ، وعَلَيْهِ فَتَسْمِيَتُها رِبًا مَجازٌ، لِأنَّها سَبَبٌ لِلزِّيادَةِ، وقِيلَ: لِأنَّها فَضْلٌ لا يَجِبُ عَلى المُعْطِي. وعَنِ النَّخَعِيِّ أنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ في قَوْمٍ يُعْطُونَ قَراباتِهِمْ وإخْوانَهم عَلى مَعْنى نَفْعِهِمْ وتَمْوِيلِهِمْ، والتَّفْضِيلِ عَلَيْهِمْ، ولِيَزِيدُوا في أمْوالِهِمْ عَلى جِهَةِ النَّفْعِ لَهُمْ، وهي رِوايَةٌ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، فالمُرادُ بِالرِّبا العَطِيَّةُ الَّتِي تُعْطى لِلْأقارِبِ لِلزِّيادَةِ في أمْوالِهِمْ، ووَجْهُ تَسْمِيَتِها بِما ذُكِرَ مَعْلُومٌ مِمّا ذَكَرْنا، وأيًّا ما كانَ (فَمِن) بَيانٌ لِما، لا لِلتَّعْلِيلِ. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ «أتَيْتُمْ» بِالقَصْرِ، ومَعْناهُ عَلى قِراءَةِ الجُمْهُورِ أعْطَيْتُمْ، وعَلى هَذِهِ القِراءَةِ جِئْتُمْ، أيْ ما جِئْتُمْ بِهِ مِن عَطاءٍ رَبًا، ﴿لِيَرْبُوَ في أمْوالِ النّاسِ﴾ أيْ لِيَزِيدَ ذَلِكَ الرِّبا ويَزْكُوَ في أمْوالِ النّاسِ الَّذِينَ آتَيْتُمُوهم إيّاهُ، وقالَ ابْنُ الشَّيْخِ: المَعْنى عَلى تَفْسِيرِ الرِّبا بِالعَطِيَّةِ لِيَزِيدَ ذَلِكَ الرِّبا في جَذْبِ أمْوالِ النّاسِ وجَلْبِها، وفي مَعْناهُ ما قِيلَ: لِيَزِيدَ ذَلِكَ بِسَبَبِ أمْوالِ النّاسِ، وحُصُولِ شَيْءٍ مِنها لَكم بِواسِطَةِ العَطِيَّةِ، وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، والحَسَنِ، وقَتادَةَ، وأبِي رَجاءٍ، والشَّعْبِيِّ، ونافِعٍ، ويَعْقُوبَ، وأبِي حَيْوَةَ «لِتَرْبُوا» بِالتّاءِ الفَوْقِيَّةِ مَضْمُومَةً وإسْنادِ الفِعْلِ إلَيْهِمْ، وهو بابُ الأفْعالِ المُتَعَدِّيَةِ لِواحِدٍ بِهَمْزَةِ التَّعْدِيَةِ، والمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، أيْ لِتُرْبُوهُ وتَزِيدُوهُ في أمْوالِ النّاسِ، أوْ هو مِن (p-46)قَبِيلِ: يَجْرَحُ في عَراقِيبِها نَصْلِي، أيْ لِتُرْبُوا وتَزِيدُوا أمْوالَ النّاسِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِلصَّيْرُورَةِ، أيْ لِتَصِيرُوا ذَوِي رِبًا في أمْوالِ النّاسِ. وقَرَأ أبُو مالِكٍ «لِتُرْبُوها» بِضَمِيرِ المُؤَنَّثِ، وكانَ الضَّمِيرُ لِلرِّبا عَلى تَأْوِيلِهِ بِالعَطِيَّةِ، أوْ نَحْوِها، ﴿فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ﴾ أيْ فَلا يُبارِكُ فِيهِ في تَقْدِيرِهِ تَعالى وحُكْمِهِ عَزَّ وجَلَّ، ﴿وما آتَيْتُمْ مِن زَكاةٍ﴾ أيْ مِن صَدَقَةٍ، ﴿تُرِيدُونَ وجْهَ اللَّهِ﴾ تَبْتَغُونَ بِهِ وجْهَهُ تَعالى خالِصًا، ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ المُضْعِفُونَ﴾ أيْ ذَوُو الأضْعافِ عَلى أنَّ مُضْعِفًا اسْمُ فاعِلٍ مِن أضْعَفَ، أيْ صارَ ذا ضِعْفٍ بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ، بِأنْ يُضاعَفَ لَهُ ثَوابُ ما أعْطاهُ، كَأقْوى وأيْسَرَ إذا صارَ ذا قُوَّةٍ ويَسارٍ، فَهو لِصَيْرُورَةِ الفاعِلِ، ذا أصْلُهُ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مِن أضْعَفَ والهَمْزَةُ لِلتَّعْدِيَةِ والمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، أيِ الَّذِينَ ضَعَّفُوا ثَوابَهم وأمْوالَهم بِبَرَكَةِ الزَّكاةِ. ويُؤَيِّدُ هَذا الوَجْهَ قِراءَةُ أُبَيٍّ «المُضْعَفُونَ» اسْمُ مَفْعُولٍ، وكانَ الظّاهِرُ أنْ يُقالَ: فَهو يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ، لِأنَّهُ الَّذِي تَقْتَضِيهِ المُقابَلَةُ، إلّا أنَّهُ غُيِّرَ في العِبارَةِ إذْ أثْبَتَ غَيْرَ ما قَبْلَهُ، وفي النَّظْمِ، إذا أتى فِيما قَبْلُ بِجُمْلَةٍ فِعْلِيَّةٍ وهُنا بِجُمْلَةٍ اسْمِيَّةٍ مُصَدَّرَةٍ بِاسْمِ الإشارَةِ مَعَ ضَمِيرِ الفَصْلِ لِقَصْدِ المُبالَغَةِ، فَأثْبَتَ لَهُمُ المُضاعَفَةَ الَّتِي هي أبْلَغُ مِن مُطْلَقِ الزِّيادَةِ عَلى طَرِيقِ التَّأْكِيدِ بِالِاسْمِيَّةِ والضَّمِيرِ، وحَصَرَ ذَلِكَ فِيهِمْ بِالِاسْتِحْقاقِ مَعَ ما في الإشارَةِ مِنَ التَّعْظِيمِ لِدِلالَتِهِ عَلى عُلُوِّ المَرْتَبَةِ، وتَرَكَ ما أتَوْا، وذَكَرَ المُؤْتى إلى غَيْرِ ذَلِكَ، والِالتِفاتُ عَنِ الخِطابِ حَيْثُ قِيلَ: فَأُولَئِكَ دُونَ فَأنْتُمْ لِلتَّعْظِيمِ، كَأنَّهُ سُبْحانَهُ خاطَبَ بِذَلِكَ المَلائِكَةَ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، وخَواصَّ الخَلْقِ تَعْرِيفًا لِحالِهِمْ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ التَّعْبِيرُ بِما ذُكِرَ لِلتَّعْمِيمِ بِأنْ يَقْصِدَ بِأُولَئِكَ هَؤُلاءِ وغَيْرَهُمْ، والرّاجِعُ في الكَلامِ إلى (ما) مَحْذُوفٌ، إنْ جُعِلَتْ مَوْصُولَةً، وكَذَلِكَ إنْ جُعِلَتْ شَرْطِيَّةً عَلى الأصَحِّ، لِأنَّهُ خَبَرٌ عَلى كُلِّ حالٍ، أيْ فَأُولَئِكَ هُمُ المُضْعِفُونَ بِهِ، أوْ فَمُؤْتُو عَلى صِيغَةِ اسْمِ الفاعِلِ أُولَئِكَ المُضْعِفُونَ، والحَذْفُ لِما في الكَلامِ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ، وعَلى تَقْدِيرِ مُؤْتُوهُ العامِّ لا يَكُونُ هُناكَ التِفاتٌ بِالمَعْنى المُتَعارَفِ، واعْتِبارُ الِالتِفاتِ أوْلى، وفي الكَشّافِ أنَّ الكَلامَ عَلَيْهِ أمْلَأُ بِالفائِدَةِ، وبَيَّنَ ذَلِكَ بِأنَّ الكَلامَ مَسُوقٌ لِمَدْحِ المُؤْتِينَ حَثًّا في الفِعْلِ، وهو عَلى تَقْدِيرِ الِالتِفاتِ مِن وُجُوهٍ. أحَدُها الإشارَةُ بِأُولَئِكَ تَعْظِيمًا لَهُمْ، والثّانِي تَقْرِيعُ المَلائِكَةِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ بِمَدْحِهِمْ. والثّالِثُ ما في نَفْسِ الِالتِفاتِ مِنَ الحُسْنِ. والرّابِعُ ما في أُولَئِكَ عَلى هَذا مِنَ الفائِدَةِ المُقَرَّرَةِ في نَحْوِ: ؎فَذَلِكَ أنْ يَهْلِكَ فَحَسْبِي ثَناؤُهُ بِخِلافِهِ إذا جُعِلَ وصْفًا لِلْمُؤْتِينَ، وعَلى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ يُفِيدُ تَعْظِيمَ الفِعْلِ لا الفاعِلِ، وإنْ لَزِمَ بِالعَرْضِ فَلا يُعارِضُ ما يُفِيدُهُ بِالأصالَةِ، فَتَأمَّلْ، والآيَةُ عَلى المَعْنى الأوَّلِ لِلرِّبا في مَعْنى قَوْلِهِ عَزَّ وجَلَّ: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا ويُرْبِي الصَّدَقاتِ﴾ [البَقَرَةُ: 276]، سَواءٌ بِسَواءٍ، والَّذِي يَقْتَضِيهِ كَلامُ كَثِيرٍ أنَّها تُشْعِرُ بِالنَّهْيِ عَنِ الرِّبا بِذَلِكَ المَعْنى، لَكِنْ أنْتَ تَعْلَمُ أنَّها لَوْ أشْعَرَتْ بِذَلِكَ لَأشْعَرَتْ بِحُرْمَةِ الرِّبا، بِمَعْنى العَطِيَّةِ الَّتِي يُتَوَقَّعُ بِها مَزِيدُ مُكافَأةٍ عَلى تَقْدِيرِ تَفْسِيرِ الرِّبا بِها، مَعَ أنَّهم صَرَّحُوا بِعَدَمِ حُرْمَةِ ذَلِكَ عَلى غَيْرِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وحُرْمَتِها عَلَيْهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ﴾ [المُدَّثِّرُ: 6]، وكَذا صَرَّحُوا بِأنَّ ما يَأْخُذُهُ المُعْطِي لِتِلْكَ العَطِيَّةِ مِنَ الزِّيادَةِ عَلى ما أعْطاهُ لَيْسَ بِحَرامٍ، ودافِعُهُ لَيْسَ بِآثِمٍ، لَكِنَّهُ لا يُثابُ عَلى دَفْعِ الزِّيادَةِ، لِأنَّها لَيْسَتْ صِلَةً مُبْتَدَأةً، بَلْ بِمُقابَلَةِ ما أُعْطِي أوَّلًا، ولا ثَوابَ فِيما يُدْفَعُ عِوَضًا، وكَذا لا ثَوابَ في إعْطاءِ تِلْكَ العَطِيَّةِ أوَّلًا، لِأنَّها شَبَكَةُ صَيْدٍ، ومَعْنى قَوْلِ بَعْضِ التّابِعِينَ: الجانِبُ المُسْتَغْزِرُ يُثابُ مِن هِبَتِهِ، أنَّ الرَّجُلَ الغَرِيبَ إذا أهْدى إلَيْكَ شَيْئًا لِتُكافِئَهُ وتَزِيدَهُ شَيْئًا فَأثِبْهُ مِن هَدِيَّتِهِ وزِدْهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب