الباحث القرآني

(p-2)بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴿كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلا لِبَنِي إسْرائِيلَ﴾ رَوى الواحِدِيُّ عَنِ الكَلْبِيِّ «أنَّهُ حِينَ قالَ النَّبِيُّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: أنا عَلى مِلَّةِ إبْراهِيمَ قالَتِ اليَهُودُ: كَيْفَ وأنْتَ تَأْكُلُ لُحُومَ الإبِلِ وألْبانَها ؟ فَقالَ النَّبِيُّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: كانَ ذَلِكَ حَلالًا لِإبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ فَنَحْنُ نُحِلُّهُ، فَقالَتِ اليَهُودُ: كُلُّ شَيْءٍ أصْبَحْنا اليَوْمَ نُحَرِّمُهُ فَإنَّهُ كانَ مُحَرَّمًا عَلى نُوحٍ وإبْراهِيمَ حَتّى انْتَهى إلَيْنا، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى هَذِهِ الآيَةَ تَكْذِيبًا لَهم» . والطَّعامُ بِمَعْنى المَطْعُومِ، ويُرادُ بِهِ هُنا المَطْعُوماتُ مُطْلَقًا أوِ المَأْكُولاتِ، وهو لِكَوْنِهِ مَصْدَرًا مَنعُوتًا بِهِ مَعْنًى يَسْتَوِي فِيهِ الواحِدُ المُذَكَّرُ وغَيْرُهُ وهو الأصْلُ المُطَّرِدُ، فَلا يُنافِيهِ قَوْلُ الرَّضِيِّ: إنَّهُ يُقالُ: رَجُلٌ عَدْلٌ ورَجُلانِ عَدْلانِ لِأنَّهُ رِعايَةٌ لِجانِبِ المَعْنى، وذَكَرَ بَعْضُهم أنَّ هَذا التَّأْوِيلَ يَجْعَلُ كُلًّا لِلتَّأْكِيدِ لِأنَّ الِاسْتِغْراقَ شَأْنُ الجَمْعِ المُعَرَّفِ بِاللّامِ، والحِلُّ مَصْدَرٌ أيْضًا أُرِيدَ مِنهُ حَلالًا، والمُرادُ الإخْبارُ عَنْ أكْلِ الطَّعامِ بِكَوْنِهِ حَلالًا لا نَفْسَ الطَّعامِ لِأنَّ الحِلَّ كالحُرْمَةِ مِمّا لا يَتَعَلَّقُ بِالذَّواتِ ولا يُقَدَّرُ نَحْوَ الإنْفاقِ، وإنْ صَحَّ أنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقَ الحِلِّ ورُبَّما تَوَهَّمَ بِقَرِينَةِ ما قَبْلَهُ لِأنَّهُ خِلافُ الغَرَضِ المَسُوقِ لَهُ الكَلامُ. و( إسْرائِيلُ ) هو يَعْقُوبُ بْنُ إسْحاقَ بْنِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، وعَنْ أبِي مِجْلَزٍ أنَّ مَلِكًا سَمّاهُ بِذَلِكَ بَعْدَ أنْ صَرَعَهُ وضَرَبَ عَلى فَخِذِهِ. ﴿إلا ما حَرَّمَ إسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ﴾ قالَ مُجاهِدٌ: حَرَّمَ لُحُومَ الأنْعامِ، ورَوى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ حَرَّمَ زائِدَتَيِ الكَبِدِ والكُلْيَتَيْنِ والشَّحْمِ إلّا ما كانَ عَلى الظَّهْرِ، وعَنْ عَطاءٍ أنَّهُ حَرَّمَ لُحُومَ الإبِلِ وألْبانَها، وسَبَبُ تَحْرِيمِ ذَلِكَ كَما في الحَدِيثِ الَّذِي أخْرَجَهُ الحاكِمُ وغَيْرُهُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ كانَ بِهِ عِرْقُ النَّسا فَنَذَرَ إنْ شُفِيَ لَمْ يَأْكُلْ أحَبَّ الطَّعامِ إلَيْهِ وكانَ ذَلِكَ أحَبَّ إلَيْهِ، وفي رِوايَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْهُ أنَّهُ كانَ بِهِ ذَلِكَ الدّاءُ فَأكَلَ مِن لُحُومِ الإبِلِ فَباتَ بِلَيْلَةٍ يَزْقُو فَحَلَفَ أنْ لا يَأْكُلَهُ أبَدًا، وقِيلَ: حَرَّمَهُ عَلى نَفْسِهِ تَعَبُّدًا وسَألَ اللَّهَ تَعالى أنَّ يُجِيزَ لَهُ فَحَرَّمَ سُبْحانَهُ عَلى ولَدِهِ ذَلِكَ، ونُسِبَ هَذا إلى الحَسَنِ، وقِيلَ: إنَّهُ حَرَّمَهُ وكَفَّ نَفْسَهُ عَنْهُ كَما يُحَرِّمُ المُسْتَظْهِرُ في دِينِهِ مِنَ الزُّهّادِ اللَّذائِذَ عَلى نَفْسِهِ. وذَهَبَ كَثِيرٌ إلى أنَّ التَّحْرِيمَ كانَ بِنَصٍّ ورَدَ عَلَيْهِ، وقالَ بَعْضٌ: كانَ ذَلِكَ عَنِ اجْتِهادٍ ويُؤَيِّدُهُ ظاهِرُ النَّظْمِ، وبِهِ اسْتُدِلَّ عَلى جَوازِهِ لِلْأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ، والِاسْتِغْناءُ مُتَّصِلٌ لِأنَّ المُرادَ عَلى كُلِّ تَقْدِيرٍ أنَّهُ حَرَّمَهُ عَلى نَفْسِهِ وعَلى أوْلادِهِ، وقِيلَ: مُنْقَطِعٌ، والتَّقْدِيرُ ولَكِنْ حَرَّمَ إسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ خاصَّةً ولَمْ يُحَرِّمْهُ عَلَيْهِمْ وصَحَّحَ الأوَّلَ. ﴿مِن قَبْلِ أنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ﴾ الظّاهِرُ أنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿كانَ حِلا﴾ ولا يَضُرُّ الفَصْلُ بِالِاسْتِثْناءِ إذْ هو فَصْلٌ جائِزٌ، وذَلِكَ عَلى مَذْهَبِ الكِسائِيِّ وأبِي الحَسَنِ في جَوازِ أنْ يَعْمَلَ ما قَبْلُ إلّا فِيما بَعْدَها إذا كانَ ظَرْفًا أوْ جارًّا أوْ مَجْرُورًا أوْ حالًا، وقِيلَ: مُتَعَلِّقٌ بِحُرِّمَ، وتَعَقَّبَهُ أبُو حَيّانَ بِأنَّهُ بَعِيدٌ إذْ هو مِنَ الإخْبارِ بِالواضِحِ المَعْلُومِ ضَرُورَةً ولا فائِدَةَ فِيهِ، واعْتَذَرَ عَنْهُ بِأنَّ فائِدَةَ ذَلِكَ بَيانُ أنَّ التَّحْرِيمَ مُقَدَّمٌ عَلَيْها، وأنَّ التَّوْراةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلى مُحَرَّماتٍ أُخَرَ حَدَثَتْ عَلَيْهِمْ حَرَجًا وتَضْيِيقًا، واخْتارَ بَعْضُهم أنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، والتَّقْدِيرُ كانَ حَلًّا (p-3)﴿مِن قَبْلِ أنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ﴾ في جَوابِ سُؤالٍ نَشَأ مِن سابِقِ المُسْتَثْنى كَأنَّهُ قِيلَ: مَتى كانَ حِلًّا ؟ فَأُجِيبَ بِهِ، والَّذِي دَعاهُ إلى ذَلِكَ عَدَمُ ظُهُورِ فائِدَةِ تَقْيِيدِ التَّحْرِيمِ ولُزُومِ قَصْرِ الصِّفَةِ قَبْلَ تَمامِها عَلى تَقْدِيرِ جَعْلِهِ قَيْدًا لِلْحِلِّ. ولا يَخْفى ما فِيهِ، والمَعْنى عَلى الظّاهِرِ أنَّ كُلَّ الطَّعامِ ما عَدا المُسْتَثْنى كانَ حَلالًا لِبَنِي إسْرائِيلَ قَبْلَ نُزُولِ التَّوْراةِ مُشْتَمِلَةً عَلى تَحْرِيمِ ما حُرِّمَ عَلَيْهِمْ لِظُلْمِهِمْ، وفي ذَلِكَ رَدٌّ لِلْيَهُودِ في دَعْواهُمُ البَراءَةَ فِيما نَعى عَلَيْهِمْ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ﴾ وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ( وعَلى الَّذِينَ هادَوْا حَرَمنا 0 الآيَتَيْنِ، وتَبْكِيتٌ لَهم في مَنعِ النَّسَخِ ضَرُورَةَ أنَّ تَحْرِيمَ ما كانَ حَلالًا لا يَكُونُ إلّا بِهِ، ودَفْعَ الطَّعْنِ في دَعْوى الرَّسُولِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ مُوافَقَتَهُ لِأبِيهِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ عَلى ما دَلَّ عَلَيْهِ سَبَبُ النُّزُولِ. وذَهَبَ السُّدِّيُّ إلى أنَّهُ لَمْ يُحَرَّمْ عَلَيْهِمْ عِنْدَ نُزُولِ التَّوْراةِ إلّا ما كانَ يُحَرِّمُونَهُ قَبْلَ نُزُولِها اقْتِداءً بِأبِيهِمْ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وقالَ الكَلْبِيُّ: لَمْ يُحِرِّمْ سُبْحانَهُ عَلَيْهِمْ ما حُرِّمَ في التَّوْراةِ، وأنَّما حَرَّمَهُ بَعْدَها بِظُلْمِهِمْ وكُفْرِهِمْ، فَقَدْ كانَتْ بَنُو إسْرائِيلَ إذا أصابَتْ ذَنْبًا عَظِيمًا حَرَّمَ اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِمْ طَعامًا طَيِّبًا وصَبَّ عَلَيْهِمْ رِجْزًا، وعَنِ الضَّحّاكِ أنَّهُ لَمْ يُحِرِّمِ اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِمْ شَيْئًا مِن ذَلِكَ في التَّوْراةِ ولا بَعْدَها، وإنَّما هو شَيْءٌ حَرَّمُوهُ عَلى أنْفُسِهِمُ اتِّباعًا لِأبِيهِمْ، وإضافَةُ تَحْرِيمِهِ إلى اللَّهِ تَعالى مَجازٌ وهَذا في غايَةِ البُعْدِ ﴿قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فاتْلُوها﴾ أمْرٌ لَهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ بِأنْ يُحاجَّهم بِكِتابِهِمُ النّاطِقِ بِصِحَّةِ ما يَقُولُ في أمْرِ التَّحْلِيلِ والتَّحْرِيمِ، وإظْهارُ اسْمِ التَّوْراةِ لِكَوْنِ الجُمْلَةِ كَلامًا مَعَ اليَهُودِ مُنْقَطِعًا عَمّا قَبْلَهُ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ أيْ في دَعْواكم، شَرْطٌ حُذِفَ جَوابُهُ لِدَلالَةِ ما قَبْلُهُ عَلَيْهِ أيْ إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فاتْلُوها، رُوِيَ أنَّهم لَمْ يَجْسُرُوا عَلى الإتْيانِ بِها فَبُهِتُوا وأُلْقِمُوا حَجَرًا. وفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ ظاهِرٌ عَلى صِحَّةِ نُبُوَّةِ نَبِيِّنا صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ إذْ عَلِمَ بِأنَّ ما في التَّوْراةِ يَدُلُّ عَلى كَذِبِهِمْ وهو لَمْ يَقْرَأْها ولا غَيْرَها مِن زُبُرِ الأوَّلِينَ، ومِثْلُهُ لا يَكُونُ إلّا عَنْ وحْيٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب