الباحث القرآني

﴿قُلْ آمَنّا بِاللَّهِ﴾ أمْرٌ لِلرَّسُولِ ﷺ أنْ يُخْبِرَ عَنْ نَفْسِهِ والمُؤْمِنِينَ بِالإيمانِ بِما ذَكَرَ، فَضَمِيرُ (آمَنّا) لِلنَّبِيِّ ﷺ والأُمَّةِ، وقالَ المَوْلى عَبْدُ الباقِي: لَمّا أخَذَ اللَّهُ تَعالى المِيثاقَ مِنَ النَّبِيِّينَ أنْفُسَهم أنْ يُؤْمِنُوا بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ويَنْصُرُوهُ أمَرَ مُحَمَّدًا أيْضًا ﷺ أنْ يُؤْمِنَ بِالأنْبِياءِ المُؤْمِنِينَ بِهِ وبِكُتُبِهِمْ فَيَكُونُ ﴿آمَنّا﴾ في مَوْضِعِ آمَنتَ لِتَعْظِيمِ نَبِيِّنا عَلَيْهِ أفْضَلُ الصَّلاةِ وأكْمَلُ السَّلامِ، أوْ لَمّا عَهِدَ مَعَ النَّبِيِّينَ وأُمَمِهِمْ أنْ يُؤْمِنُوا أمَرَ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وأُمَّتَهُ أنْ يُؤْمِنُوا بِهِمْ وبِكُتُبِهِمْ. والحاصِلُ أخْذُ المِيثاقِ مِنَ الجانِبَيْنِ عَلى الإيمانِ عَلى طَرِيقَةٍ واحِدَةٍ ولَمْ يَتَعَرَّضْ هُنا لِحِكْمَةِ الأنْبِياءِ السّالِفِينَ إمّا لِأنَّ الإيمانَ بِالكِتابِ المُنَزَّلِ إيمانٌ بِما فِيهِ مِنَ الحِكْمَةِ، أوْ لِلْإشارَةِ إلى أنَّ شَرِيعَتَهم مَنسُوخَةٌ في زَمَنِ هَذا النَّبِيِّ ﷺ وكِلاهُما عَلى تَقْدِيرِ كَوْنِ الحِكْمَةِ بِمَعْنى الشَّرِيعَةِ ولَمْ يَتَعَرَّضْ لِنُصْرَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لَهم إذْ لا مَجالَ بِوَجْهٍ لِنُصْرَةِ السَّلَفِ، ويُؤَيِّدُ دَعْوى أخْذِ المِيثاقِ مِنَ الجانِبَيْنِ ما أخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزّاقِ وغَيْرُهُ عَنْ طاوُسَ أنَّهُ قالَ: أخَذَ اللَّهُ تَعالى مِيثاقَ النَّبِيِّينَ أنْ يُصَدِّقَ بَعْضُهم بَعْضًا. ﴿وما أُنْزِلَ عَلَيْنا﴾ وهو القُرْآنُ المُنَزَّلُ عَلَيْهِ ﷺ أوَّلًا وعَلَيْهِمْ بِواسِطَةِ تَبْلِيغِهِ إلَيْهِمْ، ومِن هُنا أتى بِضَمِيرِ الجَمْعِ، وقَدْ يُعْتَبَرُ الإنْزالُ عَلَيْهِ -عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- وحْدَهُ، ولَكِنْ نُسِبَ إلى الجَمْعِ ما هو مَنسُوبٌ لِواحِدٍ مِنهُ مَجازًا عَلى ما قِيلَ، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ النُّونُ نُونَ العَظَمَةِ لا ضَمِيرَ الجَماعَةِ، (p-215)وعُدِّيَ الإنْزالُ هُنا بِ عَلى وفي البَقَرَةِ بِ إلى لِأنَّهُ لَهُ جِهَةُ عُلُوٍّ بِاعْتِبارِ اِبْتِدائِهِ وانْتِهاءً بِاعْتِبارِ آخِرِهِ، وقَدْ جُعِلَ الخِطابُ هُنا لِلنَّبِيِّ ﷺ فَناسَبَهُ الِاسْتِعْلاءُ وهُناكَ لِلْعُمُومِ فَناسَبَ الِانْتِهاءَ، كَذا قِيلَ، ويَرُدُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلى الَّذِينَ آمِنُوا﴾ والتَّحْقِيقُ أنَّهُ لا فَرْقَ بَيْنَ المُعَدّى بِ إلى والمُعَدّى بِعَلى إلّا بِالِاعْتِبارِ، فَإنِ اِعْتَبَرْتَ مَبْدَأهُ عَدَّيْتَهُ بِ عَلى لِأنَّهُ فَوْقانِيٌّ، وإنِ اِعْتَبَرْتَ اِنْتِهاءَهُ إلى مَن هو لَهُ عَدَّيْتَهُ بِ إلى، ويُلاحَظُ أحَدُ الِاعْتِبارَيْنِ تارَةً والآخَرُ أُخْرى تَفَنُّنًا بِالعِبارَةِ، وفَرَّقَ الرّاغِبُ بِأنَّ ما كانَ واصِلًا مِنَ المَلَأِ الأعْلى بِلا واسِطَةٍ كانَ لَفْظٌ عَلى المُخْتَصِّ بِالعُلُوِّ أوْلى بِهِ، وما لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كانَ لَفْظٌ إلى المُخْتَصِّ بِالإيصالِ أوْلى بِهِ، وقِيلَ: أنْزَلَ عَلَيْهِ يُحْمَلُ عَلى أمْرِ المَنزَلِ عَلَيْهِ أنْ يُبَلِّغَهُ غَيْرَهُ، وأنْزَلَ إلَيْهِ يُحْمَلُ عَلى ما خَصَّ بِهِ نَفْسَهُ لِأنَّ إلَيْهِ اِنْتِهاءَ الإنْزالِ وكِلا القَوْلَيْنِ لا يَخْلُو عَنْ نَظَرٍ. ﴿وما أُنْزِلَ عَلى إبْراهِيمَ وإسْماعِيلَ وإسْحاقَ ويَعْقُوبَ والأسْباطِ﴾ قِيلَ: خَصَّ هَؤُلاءِ الكِرامَ بِالذِّكْرِ لِأنَّ أهْلَ الكِتابِ يَعْتَرِفُونَ بِنُبُوَّتِهِمْ وكُتُبِهِمْ، والمُرادُ بِالمَوْصُولِ الصُّحُفُ كَما هو الظّاهِرُ وقَدَّمَ المَنزَلُ عَلَيْهِ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - عَلى المَنزَلِ عَلَيْهِمْ إمّا لِتَعْظِيمِهِ والِاعْتِناءِ بِهِ، أوْ لِأنَّهُ المُعَرِّفُ لَهُ ومَعْرِفَةُ المُعَرِّفِ تَتَقَدَّمُ عَلى مَعْرِفَةِ المُعَرَّفِ، والأسْباطُ الأحْفادُ لا أوْلادُ البَناتِ، والمُرادُ بِهِمْ عَلى رَأْيِ أبْناءِ يَعْقُوبَ الِاثْنا عَشَرَ وذَرارِيُّهُمْ، ولَيْسَ كُلُّهم أبْناءً خِلافًا لِزاعِمِهِ، ﴿وما أُوتِيَ مُوسى وعِيسى﴾ مِنَ التَّوْراةِ والإنْجِيلِ وسائِرِ المُعْجِزاتِ كَما يُشْعِرُ بِهِ إيثارُ الإيتاءِ عَلى الإنْزالِ الخاصِّ بِالكِتابِ، وقِيلَ: هو خاصٌّ بِالكِتابَيْنِ، وتَغْيِيرُ الأُسْلُوبِ لِلِاعْتِناءِ بِشَأْنِ الكِتابَيْنِ، وتَخْصِيصُ هَذَيْنَ النَّبِيَّيْنِ بِالذِّكْرِ لِما أنَّ الكَلامَ مَعَ اليَهُودِ والنَّصارى ﴿والنَّبِيُّونَ﴾ عَطْفٌ عَلى ﴿مُوسى وعِيسى﴾ أيْ وبِما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ عَلى تَعَدُّدِ أفْرادِهِمْ واخْتِلافِ أسْمائِهِمْ، ﴿مِن رَبِّهِمْ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِ (أُوتِيَ)، وفي التَّعْبِيرِ بِالرَّبِّ مُضافًا إلى ضَمِيرِهِمْ ما لا يَخْفى مِنَ اللُّطْفِ. ﴿لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أحَدٍ مِنهُمْ﴾ أيْ بِالتَّصْدِيقِ والتَّكْذِيبِ كَما فَعَلَ اليَهُودُ والنَّصارى، والتَّفْرِيقُ بِغَيْرِ ذَلِكَ كالتَّفْضِيلِ جائِزٌ، ﴿ونَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [ 84 ] أيْ مُسْتَسْلِمُونَ بِالطّاعَةِ والِانْقِيادِ في جَمِيعِ ما أمَرَ بِهِ ونَهى عَنْهُ، أوْ مُخْلِصُونَ لَهُ في العِبادَةِ، وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ لا تَكُونُ هَذِهِ الجُمْلَةُ مُسْتَدْرَكَةً بَعْدَ جُمْلَةِ الإيمانِ كَما هو ظاهِرٌ، وقِيلَ: إنَّ أهْلَ المِلَلِ المُخالِفَةِ لِلْإسْلامِ كانُوا كُلُّهم يُقِرُّونَ بِالإيمانِ ولَمْ يَكُونُوا يُقِرُّونَ بِلَفْظَةِ الإسْلامِ فَلِهَذا أرْدَفَ تِلْكَ الجُمْلَةَ بِهَذِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب