الباحث القرآني
﴿رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنا﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مِن تَمامِ مَقالَةِ الرّاسِخِينَ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ عَلى مَعْنى التَّعْلِيمِ، أيْ قُولُوا: رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا عَنْ نَهْجِ الحَقِّ إلى اِتِّباعِ المُتَشابِهِ بِتَأْوِيلٍ لا تَرْتَضِيهِ بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنا إلى مَعالِمِ الحَقِّ مِنَ التَّفْوِيضِ في المُتَشابِهِ أوِ الإيمانِ بِالقَسَمَيْنِ أوِ التَّأْوِيلِ الصَّحِيحِ، ويَؤُولُ المَعْنى إلى لا تُضِلَّنا بَعْدَ الهِدايَةِ لِأنَّ زَيْغَ القُلُوبِ في مُقابَلَةِ الهِدايَةِ ومُقابَلَةَ الهِدايَةِ الإضْلالُ، وصِحَّةُ نِسْبَةِ ذَلِكَ إلى اللَّهِ تَعالى عَلى مَذْهَبِ أهْلِ السُّنَّةِ في أفْعالِ العِبادِ ظاهِرَةٌ، والمُعْتَزِلَةِ يُؤَوِّلُونَ ذَلِكَ بِنَحْوِ لا تُبْلِنا بِبَلايا تَزِيغُ بِسَبَبِها قُلُوبُنا ولا تَمْنَعْنا ألِطافَكَ بَعْدَ أنْ لَطَفْتَ بِنا، وإنَّما دَعَوْا بِذَلِكَ أوْ أُمِرُوا بِالدُّعاءِ بِهِ لِأنَّ القُلُوبَ لا تَتَقَلَّبُ، فَفي «اَلصَّحِيحِ» عَنْ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْها قالَتْ: «كانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ كَثِيرًا ما يَدْعُو ”يا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلى دِينِكَ قُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ ما أكْثَرَ ما تَدْعُو بِهَذا الدُّعاءِ؟ فَقالَ: لَيْسَ مِن قَلْبٍ إلّا وهو بَيْنَ إصْبَعَيْنِ مِن أصابِعِ الرَّحْمَنِ إنْ شاءَ أنْ يُقِيمَهُ أقامَهُ وإنْ شاءَ أنْ يُزِيغَهُ أزاغَهُ“». (p-90)
وأخْرَجَ الحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ مِن طَرِيقِ عُتْبَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خالِدِ بْنِ مَعْدانَ عَنْ أبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إنَّما الإيمانُ بِمَنزِلَةِ القَمِيصِ مَرَّةً تَتَقَمَّصُهُ ومَرَّةً تَنْزِعُهُ» والرِّواياتُ بِمَعْنى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ وهي تَدُلُّ عَلى جَوازِ عُرُوضِ الكُفْرِ بَعْدَ الإيمانِ بِطُرُوءِ الشَّكِّ مَثَلًا والعِياذُ بِاَللَّهِ تَعالى، وفي كَلامِ الصَّحابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم أيْضًا ما يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ فَقَدْ أخْرَجَ اِبْنُ سَعْدٍ عَنْ أبِي عَطّافٍ أنَّ أبا هُرَيْرَةَ كانَ يَقُولُ أيْ رَبِّ لا أزْنِيَنَّ أيْ رَبِّ لا أسْرِقَنَّ أيْ رَبِّ لا أكْفُرَنَّ، قِيلَ لَهُ: أوَ تَخافُ؟ قالَ: آمَنتُ بِمُحَرِّفِ القُلُوبِ، ثَلاثًا.
وأخْرَجَ الحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أبِي الدَّرْداءِ قالَ: «كانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَواحَةَ إذا لَقِيَنِي قالَ: اِجْلِسْ يا عُوَيْمِرُ فَلْنُؤْمِن ساعَةً فَنَجْلِسُ فَنَذْكُرُ اللَّهَ تَعالى عَلى ما يَشاءُ، ثُمَّ قالَ: يا عُوَيْمِرُ هَذِهِ مَجالِسُ الإيمانِ إنَّ مَثَلَ الإيمانِ ومَثَلَكَ كَمَثَلِ قَمِيصِكَ بَيْنا أنْتَ قَدْ نَزَعْتَهُ إذْ لَبِسْتَهُ وبَيْنا أنْتَ قَدْ لَبِسْتَهُ إذْ نَزَعْتَهُ، يا عُوَيْمِرُ لَلْقَلْبُ أسْرَعُ تَقَلُّبًا مِنَ القِدْرِ إذا اِسْتَجْمَعَتْ غَلَيانًا».
وعَنْ أبِي أيُّوبَ الأنْصارِيِّ «لَيَأْتِيَنَّ عَلى الرَّجُلِ أحايِينُ وما في جِلْدِهِ مَوْضِعُ إبْرَةٍ مِنَ النِّفاقِ ولَيَأْتِيَنَّ عَلَيْهِ أحايِينُ وما في جِلْدِهِ مَوْضِعُ إبْرَةٍ مِن إيمانٍ».
وادَّعى بَعْضُهم أنَّ هَذا بِالنِّسْبَةِ إلى الإيمانِ الغَيْرِ الكامِلِ وما رَجَعَ مَن رَجَعَ إلّا مِنَ الطَّرِيقِ، وأمّا بَعْدَ حُصُولِ الإيمانِ الكامِلِ والتَّصْدِيقِ الجازِمِ والعِلْمِ الثّابِتِ المُطابِقِ فَلا يُتَصَوَّرُ رَجْعَةٌ وكُفْرٌ أصْلًا لِئَلّا يَلْزَمَ اِنْقِلابُ العِلْمِ جَهْلًا وهو مُحالٌ والتُزِمَ تَأْوِيلُ جَمِيعِ ما يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ، ولا يَخْفى أنَّ هَذا القَوْلَ مِمّا يَكادُ يَجُرُّ إلى الأمْنِ مِن مَكْرِ اللَّهِ تَعالى والتِزامِ تَأْوِيلِ النُّصُوصِ لِشُبْهَةٍ اِخْتَلَجَتْ في الصَّدْرِ هي أوْهَنُ مِن بَيْتِ العَنْكَبُوتِ في التَّحْقِيقِ مِمّا لا يَقْدَمُ عَلَيْهِ مِن لَهُ أدْنى مُسْكَةٍ كَما لا يَخْفى، فَتَدَبَّرْ.
و(بَعْدَ) مَنصُوبٌ عَلى الظَّرْفِيَّةِ والعامِلُ فِيهِ (تُزِغْ)، و(إذْ) مُضافٌ إلَيْهِ وهي مُتَصَرِّفَةٌ كَما ذَكَرَهُ أجِلَّةُ النَّحْوِيِّينَ، وأمّا القَوْلُ بِأنَّها بِمَعْنى أنِ المَصْدَرِيَّةِ المَفْتُوحَةِ الهَمْزَةِ، والمَعْنى بَعْدَ هِدايَتِنا فَمِمّا ذَكَرَهُ الحَوْفِيُّ في «إعْرابِ القُرْآنِ» ولَمْ يُرَ لِغَيْرِهِ، والمَذْكُورُ في النَّحْوِ أنَّها تَكُونُ حَرْفَ تَعْلِيلٍ فَتُؤَوَّلُ مَعَ ما بَعْدَها بِالمَصْدَرِ نَحْوَ ﴿ولَنْ يَنْفَعَكُمُ اليَوْمَ إذْ ظَلَمْتُمْ﴾ أيْ لِظُلْمِكم فَإنْ كانَ أُخِذَ مِن هَذا فَهو كَما تَرى، وقُرِئَ (لا تُزِغْ) بِالياءِ والتّاءِ ورَفْعِ (اَلْقُلُوبِ).
﴿وهَبْ لَنا مِن لَدُنْكَ﴾ كِلا الجارَّيْنِ مُتَعَلِّقٌ بِ (هَبْ) وتَقْدِيمُ الأوَّلِ اِعْتِناءً بِهِ وتَشْوِيقًا إلى الثّانِي، ويَجُوزُ تَعَلُّقُ الثّانِي بِمَحْذُوفٍ هو حالٌ مِنَ المَفْعُولِ أيْ كائِنَةً مِن لَدُنْكَ، و(مِن) لِابْتِداءِ الغايَةِ المَجازِيَّةِ، و(لَدُنْ) ظَرْفٌ، وهي لِأوَّلِ غايَةِ زَمانٍ أوْ مَكانٍ أوْ غَيْرِهِما مِنَ الذَّواتِ نَحْوَ مِن لَدُنْ زَيْدٍ ولَيْسَتْ مُرادِفَةً لِ (عِنْدَ) بَلْ قَدْ تَكُونُ بِمَعْناها، وبَعْضُهم يُقَيِّدُها بِظَرْفِ المَكانِ وهي مُلازِمَةٌ لِلْإضافَةِ فَلا تَنْفَكُّ عَنْها بِحالٍ، فَتارَةً تُضافُ إلى المُفْرَدِ، وتارَةً إلى الجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ أوِ الفِعْلِيَّةِ، وقَلَّما تَخْلُو عَنْ (مِن)، وفِيها لُغَتانِ، الإعْرابُ وهي لُغَةُ قَيْسٍ، والبِناءُ وهي اللُّغَةُ المَشْهُورَةُ وسَبَبُهُ شَبَهُها بِالحَرْفِ في لُزُومِ اِسْتِعْمالِ واحِدٍ وامْتِناعِ الإخْبارِ بِها بِخِلافِ عِنْدَ، ولَدَيَّ فَإنَّهُما لا يَلْزَمانِ اِسْتِعْمالًا واحِدًا إذْ يَكُونانِ فَضْلَةً وعُمْدَةً وغايَةً وغَيْرَ غايَةٍ، قِيلَ: ولِقُوَّةِ هَذا الشَّبَهِ لا تُعْرَبُ إذا أُضِيفَتْ في المَشْهُورِ، واللُّغَتانِ المَذْكُورَتانِ مِنَ الإعْرابِ والبِناءِ مُخْتَصّانِ بِ (لَدُنْ) المَفْتُوحَةِ اللّامِ المَضْمُومَةِ الدّالِ الواقِعِ آخِرَها نُونٌ، وأمّا بَقِيَّةُ لُغاتِها فَإنَّها فِيها مَبْنِيَّةٌ عِنْدَ جَمِيعِ العَرَبِ وفِيها لُغاتٌ المَشْهُورَةُ مِنها ما تَقَدَّمَ و(لَدُنْ) بِفَتْحِ الدّالِ وكَسْرِها و(لَدُنْ) بِفَتْحِ اللّامِ وضَمِّها مَعَ سُكُونِ الدّالِ و(لَدُنْ) بِفَتْحِ اللّامِ وضَمِّ الدّالِ وبِإبْدالِ الدّالِ تاءً ساكِنَةً، ومَتى أُضِيفَتِ المَحْذُوفَةُ النُّونِ إلى ضَمِيرٍ وجَبَ رَدُّ النُّونِ.
﴿رَحْمَةً﴾ مَفْعُولٌ لِ (هَبْ) وتَنْوِينُهُ لِلتَّفْخِيمِ، والمُرادُ بِالرَّحْمَةِ الإحْسانُ والإنْعامُ مُطْلَقًا، وقِيلَ: الإنْعامُ المَخْصُوصُ وهو التَّوْفِيقُ لِلثَّباتِ عَلى الحَقِّ، وفي سُؤالِ ذَلِكَ بِلَفْظِ الهِبَةِ إشارَةٌ إلى أنَّ ذَلِكَ مِنهُ تَعالى تَفَضُّلٌ مَحْضٌ مِن غَيْرِ شائِبَةٍ وُجُوبٌ عَلَيْهِ عِزَّ شَأْنُهُ، وتَأْخِيرُ المَفْعُولِ (p-91)الصَّرِيحِ لِلتَّشْوِيقِ.
﴿إنَّكَ أنْتَ الوَهّابُ﴾ [ 8 ] تَعْلِيلٌ لِلسُّؤالِ أوْ لِإعْطاءِ المَسْؤُولِ، و(أنْتَ) إمّا مُبْتَدَأٌ أوْ فَصْلٌ أوْ تَأْكِيدٌ لِاسْمِ إنَّ وحُذِفَ المَعْمُولُ لِإفادَةِ العُمُومِ كَما في قَوْلِهِمْ: فُلانٌ يُعْطِي، واخْتِيارُ صِيغَةِ المُبالَغَةِ عَلى فَعّالٍ قِيلَ: لِمُناسَبَةِ رُؤُوسِ الآيِ.
{"ayah":"رَبَّنَا لَا تُزِغۡ قُلُوبَنَا بَعۡدَ إِذۡ هَدَیۡتَنَا وَهَبۡ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحۡمَةًۚ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡوَهَّابُ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق