الباحث القرآني

﴿إذْ قالَ اللَّهُ﴾ ظَرْفٌ لِمَكْرٍ أوْ لِمَحْذُوفٍ نَحْوَ وقَعَ ذَلِكَ ولَوْ قُدِّرَ أذْكُرُ كَما في أمْثالِهِ لَمْ يَبْعُدْ، وتَعَلُّقُهُ بِالماكِرِينَ بَعِيدٌ إذْ لا يَظْهَرُ وجْهٌ حَسَنٌ لِتَقْيِيدِ قُوَّةِ مَكْرِهِ تَعالى بِهَذا الوَقْتِ. ﴿يا عِيسى إنِّي مُتَوَفِّيكَ ورافِعُكَ إلَيَّ﴾ أخْرَجَ اِبْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ قَتادَةَ قالَ: هَذا مِنَ المُقَدَّمِ والمُؤَخَّرِ، أيْ: رافِعُكَ إلَيَّ ومُتَوَفِّيكَ، وهَذا أحَدُ تَأْوِيلاتٍ اِقْتَضاها مُخالَفَةُ ظاهِرِ الآيَةِ لِلْمَشْهُورِ المُصَرَّحِ بِهِ في الآيَةِ الأُخْرى، وفي قَوْلِهِ ﷺ: «”إنَّ عِيسى لَمْ يَمُتْ وإنَّهُ راجِعٌ إلَيْكم قَبْلَ يَوْمِ القِيامَةِ“،» وثانِيها: أنَّ المُرادَ إنِّي مُسْتَوْفٍ أجْلَكَ ومُمِيتُكَ حَتْفَ أنْفِكَ لا أُسَلِّطُ عَلَيْكَ مَن يَقْتُلُكَ، فالكَلامُ كِنايَةٌ عَنْ عِصْمَتِهِ مِنَ الأعْداءِ وما هم بِصَدَدِهِ مِنَ الفَتْكِ بِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ لِأنَّهُ يَلْزَمُ مِنَ اِسْتِيفاءِ اللَّهِ تَعالى أجْلَهُ ومَوْتِهِ حَتْفَ أنْفِهِ ذَلِكَ، وثالِثُها: أنَّ المُرادَ قابِضُكَ ومُسْتَوْفٍ شَخْصَكَ مِنَ الأرْضِ مِن تَوَفّى المالَ بِمَعْنى اِسْتَوْفاهُ وقَبَضَهُ، ورابِعُها: أنَّ المُرادَ بِالوَفاةِ هُنا النَّوْمُ لِأنَّهُما أخَوانِ ويُطْلَقُ كُلٌّ مِنهُما عَلى الآخَرِ، وقَدْ رُوِيَ عَنِ الرَّبِيعِ أنَّ اللَّهَ تَعالى رَفَعَ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ إلى السَّماءِ وهو نائِمٌ رِفْقًا بِهِ، وحُكِيَ هَذا القَوْلُ واَلَّذِي قَبْلَهُ أيْضًا عَنِ الحَسَنِ، وخامِسُها: أنَّ المُرادَ أجْعَلُكَ كالمُتَوَفّى لِأنَّهُ بِالرَّفْعِ يُشْبِهُهُ، وسادِسُها: أنَّ المُرادَ آخُذُكَ وافِيًا بِرُوحِكَ وبَدَنِكَ فَيَكُونُ ﴿ورافِعُكَ إلَيَّ﴾ كالمُفَسِّرِ لِما قَبْلَهُ، وسابِعُها: أنَّ المُرادَ بِالوَفاةِ مَوْتُ القُوى الشَّهْوانِيَّةِ العائِقَةِ عَنْ إيصالِهِ بِالمَلَكُوتِ، وثامِنُها: أنَّ المُرادَ مُسْتَقْبِلٌ عَمَلَكَ، ولا يَخْلُو أكْثَرُ هَذِهِ الأوْجُهِ عَنْ بُعْدٍ لا سِيَّما الأخِيرُ. وقِيلَ: الآيَةُ مَحْمُولَةٌ عَلى ظاهِرِها، فَقَدْ أخْرَجَ اِبْنُ جَرِيرٍ عَنْ وهْبٍ، أنَّهُ قالَ: تَوَفّى اللَّهُ تَعالى عِيسى اِبْنَ مَرْيَمَ ثَلاثَ ساعاتٍ مِنَ النَّهارِ حَتّى رَفَعَهُ إلَيْهِ، وأخْرَجَ الحاكِمُ عَنْهُ أنَّ اللَّهَ تَعالى تَوَفّى عِيسى سَبْعَ ساعاتٍ ثُمَّ أحْياهُ، وأنَّ مَرْيَمَ حَمَلَتْ بِهِ ولَها ثَلاثَ عَشْرَةَ سَنَةً وأنَّهُ رُفِعَ وهو اِبْنُ ثَلاثٍ وثَلاثِينَ، وأنَّ أُمَّهُ بَقِيَتْ بَعْدَ رَفْعِهِ سِتَّ سِنِينَ، ووَرَدَ ذَلِكَ في رِوايَةٍ ضَعِيفَةٍ عَنِ اِبْنِ عَبّاسٍ والصَّحِيحُ كَما قالَهُ القُرْطُبِيُّ أنَّ اللَّهَ تَعالى رَفَعَهُ مِن غَيْرِ وفاةٍ ولا، نَوْمٍ وهو اِخْتِيارُ الطَّبَرِيِّ، والرِّوايَةُ الصَّحِيحَةُ عَنِ اِبْنِ عَبّاسٍ، وحِكايَةُ أنَّ اللَّهَ تَعالى تَوَفّاهُ سَبْعَ ساعاتٍ ذَكَرَ اِبْنُ إسْحَقَ أنَّها مِن زَعْمِ النَّصارى، ولَهم في هَذا المَقامِ كَلامٌ تَقْشَعِرُّ مِنهُ الجُلُودُ، ويَزْعُمُونَ أنَّهُ في الإنْجِيلِ وحاشا اللَّهِ ما هو إلّا اِفْتِراءٌ وبُهْتانٌ عَظِيمٌ، ولا بَأْسَ بِنَقْلِهِ ورَدِّهِ فَإنَّ في ذَلِكَ رَدَّ دَعْواهم فِيهِ عَلَيْهِ السَّلامُ الرُّبُوبِيَّةَ عَلى أتَمِّ وجْهٍ، فَنَقُولُ: قالُوا: بَيْنَما المَسِيحُ مَعَ تَلامِيذِهِ جالِسٌ لَيْلَةَ الجُمْعَةِ لِثَلاثَ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِن شَهْرِ نِيسانَ إذْ جاءَ يَهُودا الأسْخَرْيُوطِيُّ أحَدُ الِاثْنَيْ عَشَرَ ومَعَهُ جَماعَةٌ مَعَهُمُ السُّيُوفُ والعِصِيُّ مِن عِنْدِ رُؤَساءِ الكَهَنَةِ ومَشايِخِ الشَّعْبِ، وقَدْ قالَ لَهم يَهُودا: الرَّجُلُ الَّذِي أقْبَلَ هو فَأمْسِكُوهُ، فَلَمّا رَأى يَهُودا المَسِيحَ قالَ: السَّلامُ عَلَيْكَ يا مُعَلِّمُ ثُمَّ أمْسَكُوهُ، فَقالَ يَسُوعُ: مِثْلَ ما يُفْعَلُ بِاللُّصُوصِ خَرَجْتُمْ لِي بِالسُّيُوفِ والعِصِيِّ وأنا عِنْدُكم في الهَيْكَلِ كُلَّ يَوْمٍ أُعَلِّمُ فَلَمْ تَتَعَرَّضُوا لِي لَكِنَّ (p-180)هَذِهِ ساعَةُ سُلْطانِ الظَّلَمَةِ فَذَهَبُوا بِهِ إلى رَئِيسِ الكَهَنَةِ حَيْثُ تَجْتَمِعُ الشُّيُوخُ وتَبِعَهُ بُطْرُسَ مِن بَعِيدٍ ودَخَلَ مَعَهُ الدّارَ لَيْلًا وجَلَسَ ناحِيَةً مِنها مُتَنَكِّرًا لِيَرى ما يَؤُولُ أمْرُهُ إلَيْهِ فالتَمَسَ المَشايِخُ عَلى يَسُوعَ شَهادَةً يَقْتُلُونَهُ بِها فَجاءَ جَماعَةٌ مِن شُهُودِ الزُّورِ فَشَهِدَ مِنهُمُ اِثْنانِ أنَّ يَسُوعَ قالَ: أنا أقْدِرُ أنْ أنْقُضَ هَيْكَلَ اللَّهِ تَعالى وأبْنِيَهُ في ثَلاثَةِ أيّامٍ، فَقالَ لَهُ الرَّئِيسُ: ما تُجِيبُ عَنْ نَفْسِكَ بِشَيْءٍ؟ فَسَكَتَ يَسُوعُ فَأقْسَمَ عَلَيْهِ رَئِيسُ الكَهَنَةِ بِاَللَّهِ الحَيِّ أنْتَ المَسِيحُ؟ فَقالَ أنْتَ قُلْتَ ذاكَ وأنا أقُولُ لَكم مِنَ الآنِ لا تَرَوْنَ اِبْنَ الإنْسانِ حَتّى تَرَوْهُ جالِسًا عَنْ يَمِينِ القُوَّةِ وآتِيًا في سَحابِ السَّماءِ وأنَّ ناسًا مِنَ القِيامِ هَهُنا لا يَذُوقُونَ المَوْتَ حَتّى يَرَوْنَ اِبْنَ الإنْسانِ آتِيًا في مَلَكُوتِهِ، فَلَمّا سَمِعَ رَئِيسُ الكَهَنَةِ ذَلِكَ شَقَّ ثِيابَهُ وقالَ: ما حاجَتُنا إلى شَهادَةِ يَهُودا قَدْ سَمِعْتُمْ ماذا تَرَوْنَ في أمْرِهِ؟ فَقالُوا: هَذا مُسْتَوْجِبٌ المَوْتَ، فَحِينَئِذٍ بَصَقُوا في وجْهِ البَعِيدِ ولَطَمُوهُ وضَرَبُوهُ وهَزَأُوا بِهِ وجَعَلُوا يَلْطِمُونَهُ ويَقُولُونَ: بَيِّنْ لَنا مَن لَطَمَكَ ولَمّا كانَ مِنَ الغَدِ أسْلَمُوهُ لِفِيلاطِسَ القائِدِ، فَتَصايَحَ الشَّعْبُ بِأسْرِهِ -يُصْلَبُ يُصْلَبُ- فَتَحَرَّجَ فِيلاطِسُ مِن قَتْلِهِ، وقالَ: أيُّ شَرٍّ فَعَلَ هَذا فَقالَ الشُّيُوخُ: دَمُهُ عَلَيْهِمْ وعَلى أوْلادِهِمْ فَحِينَئِذٍ ساقَهُ جُنْدُ القائِدِ إلى الأبَرُوطُورِيُّونَ فاجْتَمَعَ عَلَيْهِ الشَّعْبُ ونَزَعُوهُ ثِيابَهُ وألْبَسُوهُ لِباسًا أحْمَرَ وضَفَّرُوا إكْلِيلًا مِنَ الشَّوْكِ وتَرَكُوهُ عَلى رَأْسِهِ وجَعَلُوا في يَدِهِ قَصَبَةً ثُمَّ جَثَوا عَلى رَكُبِهِمْ يَهْزَأُونَ بِهِ ويَقُولُونَ: السَّلامُ عَلَيْكَ يا مَلِكَ اليَهُودِ وشَرَعُوا يَبْصُقُونَ عَلَيْهِ ويَضْرِبُونَهُ في رَأْسِهِ ثُمَّ ذَهَبُوا بِهِ وهو يَحْمِلُ صَلِيبَهُ إلى مَوْضِعٍ يُعْرَفُ بِالجُمْجُمَةِ فَصَلَبُوهُ وسَمَّرُوا يَدَيْهِ عَلى الخَشَبَةِ، فَسَألَهم شَرْبَةَ ماءٍ فَأعْطَوْهُ خَلًّا مُضافًا بِمُرٍّ فَذاقَهُ ولَمْ يَسُغْهُ وجَلَسَ الشَّرْطَ فاقْتَسَمُوا ثِيابَهُ بَيْنَهم بِالقُرْعَةِ وجَعَلُوا عِنْدَ رَأْسِهِ لَوْحًا مَكْتُوبًا هَذا يَسُوغُ مَلِكُ اليَهُودِ اِسْتِهْزاءً بِهِ، ثُمَّ جاءُوا بِلِصَّيْنِ فَجَعَلُوهُما عَنْ يَمِينِهِ وشِمالِهِ تَحْقِيرًا لَهُ وكانَ اليَهُودُ يَقُولُونَ لَهُ: يا ناقِضَ الهَيْكَلِ وبانِيهِ في ثَلاثَةِ أيّامٍ خَلِّصْ نَفْسَكَ، وإنْ كُنْتَ اِبْنَ اللَّهِ كَما تَقُولُ اِنْزِلْ عَنِ الصَّلِيبِ، وقالَ اليَهُودُ: هَذا يَزْعُمُ أنَّهُ خَلَصَ غَيْرَهُ فَكَيْفَ لَمْ يَقْدِرْ عَلى خَلاصِ نَفْسِهِ إنْ كانَ مُتَوَكِّلًا عَلى اللَّهِ تَعالى فَهو يُنْجِيهِ مِمّا هو فِيهِ؟ ولَمّا كانَ سِتَّ ساعاتٍ مِن يَوْمِ الجُمْعَةِ صَرَخَ يَسُوعُ وهو عَلى الصَّلِيبِ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ (آلوي آلوي إيما صاصا) أيْ إلَهِي إلَهِي لِمَ تَرَكْتَنِي وخَذَلْتَنِي وأخَذَ اليَهُودُ إسْفَنْجَةً فِيها خَلٌّ ورَفَعَها أحَدُهم عَلى قَصَبَةٍ وسَقاهُ، وقالَ آخَرُ: دَعُوهُ حَتّى نَرى مَن يُخَلِّصُهُ فَصَرَخَ يَسُوعُ وأمالَ رَأْسَهُ وأسْلَمَ الرُّوحَ وانْشَقَّ حِجابُ الهَيْكَلِ وانْشَقَّتِ الصُّخُورُ وتَفَتَّحَتِ القُبُورُ وقامَ كَثِيرٌ مِنَ القِدِّيسِينَ مِن قُبُورِهِمْ ودَخَلُوا المَدِينَةَ المُقَدَّسَةَ وظَهَرُوا لِلنّاسِ، ولَمّا كانَ المَساءُ جاءَ رَجُلٌ مِن ألْزامِهِ يُسَمّى يُوسُفُ بِلَفائِفَ نَقِيَّةٍ وتَرَكَهُ في قَبْرٍ كانَ قَدْ نَحَتَهُ في صَخْرَةٍ ثُمَّ جَعَلَ عَلى بابِ القَبْرِ حَجَرًا عَظِيمًا وجاءَ مَشايِخُ اليَهُودِ مِنَ الغَدِ الَّذِي بَعْدَ الجُمْعَةِ إلى فِيلاطِسَ القائِدِ، فَقالُوا: يا سَيِّدِي ذَكَرْنا أنَّ ذاكَ الضّالَّ كانَ قَدْ ذَكَرَ لِتَلامِيذِهِ أنا أقُومُ بَعْدَ ثَلاثَةِ أيّامٍ فَلَوْ أمَرْتَ مَن يَحْرُسُ القَبْرَ حَتّى تَمْضِيَ المُدَّةُ كَيْ لا تَأْتِيَ تَلامِيذُهُ ويَسْرِقُوهُ ثُمَّ يُشِيعُوا في الشَّعْبِ أنَّهُ قامَ فَتَكُونُ الضَّلالَةُ الثّانِيَةُ شَرًّا مِنَ الأُولى فَقالَ لَهُمُ القائِدُ: اِذْهَبُوا وسُدُّوا عَلَيْهِ واحْرُسُوهُ كَما تُرِيدُونَ فَمَضَوْا وفَعَلُوا ما أرادُوا، وفي عَشِيَّةِ يَوْمِ السَّبْتِ جاءَتْ مَرْيَمُ المَجْدُلانِيَّةُ ومَرْيَمُ رَفِيقَتُها لِيَنْظُرْنَ إلى القَبْرِ. وفِي «إنْجِيلِ مُرْقُصَ»: إنَّما جاءَتْ مَرْيَمُ يَوْمَ الأحَدِ بِغَلَسٍ، وإذا مَلَكٌ قَدْ نَزَلَ مِنَ السَّماءِ بِرَجَّةٍ عَظِيمَةٍ فَألْقى الحَجَرَ عَنِ القَبْرِ وجَلَسَ عِنْدَهُ وعَلَيْهِ ثِيابٌ بِيضٌ كالبَرْقِ فَكادَ الحَرَسُ أنْ يَمُوتُوا مِن هَيْبَتِهِ ثُمَّ قالَ لِلنِّسْوَةِ: لا تَخافا قَدْ عَلِمْتُ أنَّكُما جِئْتُما تَطْلُبانِ يَسُوعَ المَصْلُوبَ لَيْسَ هو هَهُنا إنَّهُ قَدْ قامَ، تَعالَيْنَ اُنْظُرْنَ إلى المَكانِ الَّذِي كانَ فِيهِ الرَّبُّ واذْهَبا وقُولا لِتَلامِيذِهِ إنَّهُ سَبَقَكم إلى الخَلِيلِ فَمَضَتا وأخْبَرَتا التَّلامِيذَ ودَخَلَ الحُرّاسُ وأخْبَرُوا رُؤَساءَ الكَهَنَةِ الخَبَرَ (p-181)فَقالُوا: لا تَنْطِقُوا بِهَذا ورَشُّوهم بِفِضَّةٍ عَلى كِتْمانِ القَضِيَّةِ فَقَبِلُوا ذَلِكَ مِنهم وأشاعُوا أنَّ التَّلامِيذَ جاءُوا وسَرَقُوهُ ومَهَّدَتِ المَشايِخُ عُذْرَهم عِنْدَ القائِدِ ومَضَتِ الأحَدَ عَشَرَ تِلْمِيذًا إلى الخَلِيلِ وقَدْ شَكَّ بَعْضُهُمْ، وجاءَ لَهم يَسُوعُ وكَلَّمَهم وقالَ لَهُمُ: اِذْهَبُوا فَعَمِّدُوا كُلَّ الأُمَمِ وعَلِّمُوهم ما أُوصِيكم بِهِ، وهو ذا أنا مَعَكم إلى اِنْقِضاءِ الدَّهْرِ، اِنْتَهى. وهَهُنا أُمُورٌ: الأوَّلُ: أنَّهُ يُقالُ لِلنَّصارى: ما اِدَّعَيْتُمُوهُ مِن قَتْلِ المَسِيحِ وصَلْبِهِ أتَنْقِلُونَهُ تَواتُرًا أوْ آحادًا، فَإنْ زَعَمُوا أنَّهُ آحادٌ لَمْ تَتِمَّ بِذَلِكَ حُجَّةٌ ولَمْ يَثْبُتِ العِلْمُ، إذِ الآحادُ لَمْ يُؤْمَن عَلَيْهِمُ السَّهْوُ والغَفْلَةُ والتَّواطُؤُ عَلى الكَذِبِ، وإذا كانَ الآحادُ يَعْرِضُ لَهم ذَلِكَ فَكَيْفَ يُحْتَجُّ بِقَوْلِهِمْ في القَطْعِيّاتِ؟! وإنْ عَزَوْا ذَلِكَ إلى التَّواتُرِ، قُلْنا لَهُمْ: أحَدُ شُرُوطِ التَّواتُرِ اِسْتِواءُ الطَّرَفَيْنِ فِيهِ والواسِطَةِ بِأنْ يَكُونَ الإخْبارُ في كُلِّ طَبَقَةٍ مِمَّنْ لا يُمْكِنُ مُواطَأتُهُ عَلى الكَذِبِ فَإنْ زَعَمْتُمْ أنَّ خَبَرَ قَتْلِ المَسِيحِ كَذَلِكَ، أكَذَّبْتُمْ نُصُوصَ الإنْجِيلِ الَّذِي بِأيْدِيكم إذْ قالَ نَقَلَتْهُ الَّذِينَ دَوَّنُوهُ لَكم وعَلَيْهِ مُعَوَّلُكم: إنَّ المَأْخُوذَ لِلْقَتْلِ كانَ في شِرْذِمَةٍ قَلِيلَةٍ مِن تَلامِذَتِهِ فَلَمّا قُبِضَ عَلَيْهِ هَرَبُوا بِأسْرِهِمْ ولَمْ يَتْبَعْهُ سِوى بُطْرُسَ مِن بَعِيدٍ، فَلَمّا دَخَلَ الدّارَ حَيْثُ اِجْتَمَعُوا نَظَرَتْ جارِيَةٌ مِنهم إلَيْهِ فَعَرَفَتْهُ فَقالَتْ: هَذا كانَ مَعَ يَسُوعَ فَحَلِفَ أنَّهُ لا يَعْرِفُ يَسُوعَ ولا يَقُولُ بِقَوْلِهِ وخادَعَهم حَتّى تَرَكُوهُ وذَهَبَ، ولَمْ يَكَدْ يَذْهَبُ، وأنَّ شابًّا آخَرَ تَبِعَهُ وعَلَيْهِ إزارٌ فَتَعَلَّقُوا بِهِ فَتَرَكَ إزارَهُ بِأيْدِيهِمْ وذَهَبَ عُرْيانًا، فَهَؤُلاءِ أصْحابُهُ وأتْباعُهُ لَمْ يَحْضُرْ أحَدٌ مِنهم بِشَهادَةِ الإنْجِيلِ، وأمّا أعْداؤُهُ اليَهُودُ الَّذِينَ تَزْعُمُونَ أنَّهم حَضَرُوا الأمْرَ فَلا نُسَلِّمُ أنَّهم بَلَغُوا عَدَدَ التَّواتُرِ بَلْ كانُوا آحادًا وهم أعْداءٌ يُمْكِنُ تَواطُؤُهم عَلى الكَذِبِ عَلى عَدُوِّهِمْ إيهامًا مِنهم أنَّهم ظَفِرُوا بِهِ وبَلَغُوا مِنهُ أمانِيَّهُمْ، فانْخَرَمَ شَرْطُ التَّواتُرِ، ويُؤَيِّدُ هَذا أنَّ رُؤَساءَ الكَهَنَةِ فِيما زَعَمْتُمْ رَشَوُا الحُرّاسَ فَلا يَبْعُدُ أنْ تَكُونَ هَذِهِ العِصابَةُ مِنَ اليَهُودِ صَلَبُوا شَخْصًا مِن أصْحابِ يَسُوعَ وأوْهَمُوا النّاسَ أنَّهُ المَسِيحُ لِتَتِمَّ لَهم أغْراضُهم عَلى أنَّ الأخْبارِيِّينَ ذَكَرُوا أنَّ بُخْتَنَصَّرَ قَتَلَ عُلَماءَ اليَهُودِ في مَشارِقِ الأرْضِ ومَغارِبِها لِأنَّهم حَرَّفُوا التَّوْراةَ وزادُوا فِيها ونَقَصُوا حَتّى لَمْ يَبْقَ مِنهم إلّا شِرْذِمَةٌ، فالمُخْبِرُونَ لَمْ يَبْلُغُوا حَدَّ التَّواتُرِ في الطَّبَقَةِ الوُسْطى أيْضًا. الثّانِي: أنَّ في هَذا الفَصْلِ ما تَحْكُمُ البَداهَةُ بِكَذِبِهِ، وما تَضْحَكُ الثَّكْلى مِنهُ، وما يُبْعِدُهُ العَقْلُ مِثْلَ قَوْلِهِ لِلْكَهَنَةِ: إنَّكم مِنَ الآنِ ما تُرُونَ اِبْنَ الإنْسانِ يُرِيدُونَ بِالإنْسانِ الرَّبَّ سُبْحانَهُ فَإنَّهُ لَمْ يَرِدْ إطْلاقُ ذَلِكَ عَلَيْهِ جَلَّ شَأْنُهُ في كِتابٍ، وقَوْلُهُ: إنَّ ناسًا مِنَ القِيامِ هَهُنا الخ، فَإنَّهُ لَمْ يُرَ أحَدٌ مِنَ القِيامِ هُناكَ قَبْلَ مَوْتَةِ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ آتِيًا في مَلَكُوتِهِ، وقَوْلُ المَلَكِ لِلنِّسْوَةِ: تَعالَيْنَ فانْظُرْنَ إلى المَوْضِعِ الَّذِي كانَ فِيهِ الرَّبُّ، فَإنَّهُ يُقالُ فِيهِ: أرَبٌّ يُقْبِرُ وإلَهٌ يُلْحِدُ، أُفٌّ لِتُرابٍ يُغْشِيَ وجْهَ هَذا الإلَهِ، وتَبًّا لِكَفَنٍ سَتَرَ مَحاسِنَهُ، وعَجَبًا لِلسَّماءِ كَيْفَ لَمْ تُبَدَّ وهو سامِكُها ولِلْأرْضِ لَمْ تُمَدَّ وهو ماسِكُها ولِلْبِحارِ كَيْفَ لَمْ تُغَضَّ وهو مُجْرِيها ولِلْجِبالِ كَيْفَ لَمْ تُسَرَّ وهو مُرْسِيها ولِلْحَيَوانِ كَيْفَ لَمْ يُصْعَقْ وهو مُشْبِعُهُ ولِلْكَوْنِ كَيْفَ لَمْ يُمْحَقْ وهو مُبْدِعُهُ، سُبْحانَ اللَّهِ كَيْفَ اِسْتَقامَ الوُجُودُ والرَّبُّ في اللُّحُودِ، وكَيْفَ ثَبَتَ العالَمُ عَلى نِظامٍ والإلَهُ في الرِّغامِ، إنّا لِلَّهِ وإنّا إلَيْهِ راجِعُونَ عَلى المُصِيبَةِ بِهَذا الرَّبِّ والرَّزِيَّةِ بِهَذا الإلَهِ لَقَدْ ثَكِلَتْهُ أُمُّهُ، وعَدَمَهُ لا أبا لَكَ قَوْمُهُ؟ وقَوْلُهُ: إلَهِي إلَهِي لِمَ خَذَلْتَنِي، فَإنَّهُ يُنافِي الرِّضا بِمُرِّ القَضاءِ، ويُناقِضُ التَّسْلِيمَ لِأحْكامِ الحَكِيمِ، وذَلِكَ لا يَلِيقُ بِالصّالِحِينَ فَضْلًا عَنِ المُرْسَلِينَ عَلى أنَّهُ يُبْطِلُ دَعْوى الرُّبُوبِيَّةِ الَّتِي تَزْعُمُونَها والأُلُوهِيَّةِ الَّتِي تَعْتَقِدُونَها. وقَوْلُهُمْ: إنَّهُ قامَ كَثِيرٌ مِنَ القِدِّيسِينَ مِن قُبُورِهِمُ الخ، فَإنَّهُ كَذِبٌ صَرِيحٌ لِأنَّهُ لَوْ كانَ صَحِيحًا لَأطْبَقَ النّاسُ عَلى نَقْلِهِ ولَزالَ الشَّكُّ عَنْ تِلْكَ الجُمُوعِ في أمْرِ يَسُوعَ. وقَوْلُهُمْ: مَضَتِ الأحَدَ عَشَرَ (p-182)تِلْمِيذًا إلى الخَلِيلِ الخ، فَإنَّهُ قَدِ اِنْطَفَأ فِيهِ سِراجُ التِّلْمِيذِ الثّانِيَ عَشَرَ عَلى ما يَقْتَضِيهِ قَوْلُ المَسِيحِ: ويْلٌ لِمَن يُسَلِّمُ اِبْنَ الإنْسانِ مَعَ أنَّ يَسُوعَ بِزَعْمِكم قالَ لِتَلامِيذِهِ الِاثْنَيْ عَشَرَ، وفِيهِمْ يَهُودا الأسْخَرْيُوطِيُّ الَّذِي أسْلَمَهُ لِلْقَتْلِ: إنَّكم سَتَجْلِسُونَ يَوْمَ القِيامَةِ عَلى اِثْنَيْ عَشَرَ كُرْسِيًّا تَدِينُونَ اِثْنَيْ عَشَرَ سِبْطَ بَنِي إسْرائِيلَ. وقَوْلُهُمْ: إنَّهم سَألَهم شَرْبَةَ ماءٍ فَإنَّهُ في غايَةِ البُعْدِ لِأنَّ الإنْجِيلَ مُصَرِّحٌ بِأنَّ المَسِيحَ كانَ يَطْوِي أرْبَعِينَ يَوْمًا وأرْبَعِينَ لَيْلَةً ومِثْلُهُ لا يَجْزَعُ مِن فِراقِ الماءِ ساعَةً لا سِيَّما وقَدْ كانَ يَقُولُ لِتَلامِيذِهِ: إنَّ لِي طَعامًا لا تَعْرِفُونَهُ، إلى غَيْرِ ذَلِكَ. الثّالِثُ: إنَّ ما ذَكَرُوا مِن قِيامِ المَسِيحِ مِن قَبْرِهِ لَيْلَةَ السَّبْتِ مَعَ صَلْبِهِ يَوْمَ الجُمْعَةِ مُخالِفٌ لِما رَواهُ «مَتّى في إنْجِيلِهِ» فَإنَّهُ قالَ فِيهِ: سَألَ اليَهُودُ المَسِيحَ أنْ يُرِيَهم آيَةً فَقالَ: الجِيلُ الشِّرِّيرُ الفاسِقُ يَطْلُبُ آيَةً فَلا يُعْطى إلّا آيَةَ يُونِيانَ النَّبِيِّ يَعْنِي يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلامُ، لِأنَّهُ أقامَ في بَطْنِ الحُوتِ ثَلاثَةَ أيّامٍ وثَلاثَ لَيالٍ، وكَذَلِكَ اِبْنُ الإنْسانِ يُقِيمُ في بَطْنِ الأرْضِ ثَلاثَةَ أيّامٍ وثَلاثَ لَيالٍ. الرّابِعُ: أنَّ في هَذِهِ القِصَّةِ ما يَدُلُّ دَلالَةً واضِحَةً عَلى أنَّ المَصْلُوبَ هو الشِّبْهُ، وأنَّ اللَّهَ تَعالى حُمى المَسِيحَ عَلَيْهِ السَّلامُ عَنِ الصَّلْبِ، كَما سَيَتَّضِحُ لَكَ مَعَ زِيادَةِ تَحْقِيقٍ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما قَتَلُوهُ وما صَلَبُوهُ ولَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾ . هَذا وإنَّما أُكِّدَ الحُكْمُ السّابِقُ اِعْتِناءً بِهِ، أوْ لِأنَّ تَسَلُّطَ الكَفّارِ عَلَيْهِ جَعَلَ المَقامَ مَقامَ اِعْتِقادِ أنَّهم يَقْتُلُونَهُ، وأرادَ سُبْحانَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿ورافِعُكَ إلَيَّ﴾ رافِعُكَ إلى سَمائِي، وقِيلَ: إلى كَرامَتِي، وعَلى كُلٍّ فالكَلامُ عَلى حَذْفِ مُضافٍ، إذْ مِنَ المَعْلُومِ أنَّ البارِئَ سُبْحانَهُ لَيْسَ بِمُتَحَيِّزٍ في جِهَةٍ، وفي رَفْعِهِ إلى أيِّ سَماءٍ خِلافٌ، واَلَّذِي اِخْتارَهُ الكَثِيرُ مِنَ العارِفِينَ أنَّهُ رُفِعَ إلى السَّماءِ الرّابِعَةِ، وعَنِ اِبْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما أنَّهُ رَفَعَهُ إلى السَّماءِ الدُّنْيا فَهو فِيها يُسَبِّحُ مَعَ المَلائِكَةِ ثُمَّ يُهْبِطُهُ اللَّهُ تَعالى عِنْدَ ظُهُورِ الدَّجّالِ عَلى صَخْرَةِ بَيْتِ المَقْدِسِ، وفي الخازِنِ أنَّهُ سُبْحانَهُ لَمّا رَفَعَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ إلَيْهِ كَساهُ الرِّيشَ وألْبَسَهُ النُّورَ وقَطَعَ عَنْهُ لَذَّةَ المَطْعَمِ والمَشْرَبِ فَطارَ مَعَ المَلائِكَةِ فَهو مَعَهم حَوْلَ العَرْشِ، وصارَ إنْسِيًّا مَلَكِيًّا أرْضِيًّا سَماوِيًّا. وأوْرَدَ بَعْضُ النّاسِ هَهُنا إشْكالاتٍ: وهي أنَّ اللَّهَ تَعالى كانَ قَدْ أيَّدَهُ بِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ كَما قالَ سُبْحانَهُ: ﴿وأيَّدْناهُ بِرُوحِ القُدُسِ﴾ ثُمَّ إنَّ طَرَفَ جَناحٍ مِن أجْنِحَةِ جِبْرِيلَ كانَ يَكْفِي لِلْعالَمِ فَكَيْفَ لَمْ يَكْفِ في مَنعِ أُولَئِكَ اليَهُودِ عَنْهُ؟ وأيْضًا أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا كانَ قادِرًا عَلى إحْياءِ المَوْتى وإبْراءِ الأكْمَهِ والأبْرَصِ فَكَيْفَ لَمْ يَقْدِرْ عَلى إماتَتِهِمْ ودَفْعِ شَوْكَتِهِمْ أوْ عَلى إسْقامِهِمْ وإلْقاءِ الزَّمانَةِ والفَلَجِ عَلَيْهِمْ حَتّى يَصِيرُوا عاجِزِينَ مِنَ التَّعَرُّضِ لَهُ؟ وأيْضًا لَمّا خَلَّصَهُ مِنَ الأعْداءِ بِأنْ رَفَعَهُ إلى السَّماءِ فَما الفائِدَةُ في إلْقاءِ شِبْهِهِ عَلى الغَيْرِ؟ وأُجِيبَ عَنِ الكُلِّ بِأنَّ بِناءَ التَّكْلِيفِ عَلى الِاخْتِيارِ، ولَوْ أقْدَرَ اللَّهُ تَعالى جِبْرِيلَ أوْ عِيسى عَلَيْهِما السَّلامُ عَلى دَفْعِ الأعْداءِ أوْ رَفْعِهِ مِن غَيْرِ إلْقاءِ شِبْهِهِ إلى السَّماءِ لَبَلَغَتْ مُعْجِزَتُهُ إلى حَدِّ الإلْجاءِ، والقَوْلُ بِأنَّ فَتْحَ بابِ إلْقاءِ الشُّبَهِ يُوجِبُ اِرْتِفاعَ الأمانِ عَنِ المَحْسُوساتِ وأنَّهُ يُفْضِي إلى سُقُوطِ الشَّرائِعِ وإبْطالِ التَّواتُرِ، وأيْضًا أنَّ في ذَلِكَ الإلْقاءِ تَمْوِيهًا وتَخْلِيطًا وذَلِكَ لا يَلِيقُ بِحِكْمَةِ اللَّهِ تَعالى لَيْسَ بِشَيْءٍ، أمّا أوَّلًا: فَلِأنَّ إلْقاءَ شِبْهِ شَخْصٍ عَلى آخَرَ وإنْ كانَ مُمْكِنًا في نَفْسِهِ إلّا أنَّ الأصْلَ عَدَمُ الإلْقاءِ واسْتِقْلالُ كُلٍّ مِنَ الحَيَوانِ بِصُورَتِهِ الَّتِي هي لَهُ، نَعَمْ لَوْ أخْبَرَ الصّادِقُ بِإلْقاءِ صُورَةِ شَخْصٍ عَلى آخَرَ قُلْنا بِهِ واعْتَقَدْناهُ، فَحِينَئِذٍ لا يَرْتَفِعُ الأمانُ عَنِ المَحْسُوساتِ بَلْ هي باقِيَةٌ عَلى الأصْلِ فِيها فِيما لَمْ يُخْبِرِ الصّادِقُ بِخِلافِهِ عَلى أنَّ إبْطالَ التَّواتُرِ بِفَتْحِ هَذا البابِ مَمْنُوعٌ، لِأنَّهُ لَمْ يُشْتَرَطْ في الخَبَرِ أنْ يَكُونَ عَنْ أمْرٍ ثابِتٍ في نَفْسِ الأمْرِ بَلْ يَكْفِي فِيهِ كَوْنُهُ عَنْ أمْرٍ مَحْسُوسٍ عَلى ما قالَهُ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ، وأمّا ثانِيًا: فَلِأنَّ التَّمْوِيهَ والتَّلْبِيسَ إنْ كانَ عَلى الأعْداءِ فَلا نُسَلِّمُ أنَّهُ مِمّا لا يَلِيقُ بِالحِكْمَةِ، وإنْ كانَتِ النَّجاةُ مِمّا تُمْكِنُ بِدُونِ الإلْقاءِ، وإنْ كانَ ذَلِكَ عَلى أوْلِيائِهِ فَلا نُسَلِّمُ أنَّ في الإلْقاءِ تَمْوِيهًا لِأنَّهم كانُوا عارِفِينَ يَقِينًا بِأنَّ المَطْلُوبَ الشِّبْهُ لا عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ كَما سَتَعْرِفُهُ إنْ شاءَ (p-183)اللَّهُ تَعالى. والقَوْلُ بِأنَّ المَطْلُوبَ قَدْ ثَبَتَ بِالتَّواتُرِ أنَّهُ بَقِيَ حَيًّا زَمانًا طَوِيلًا فَلَوْلا أنَّهُ كانَ عِيسى لَأظْهَرَ الجَزَعَ وعَرَّفَ نَفْسَهُ، ولَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لاشْتُهِرَ وتَواتَرَ، لَيْسَ بِشَيْءٍ أيْضًا، أما أوَّلًا: فَلِأنَّ دَعْوى تَواتُرِ بَقاءِ المَصْلُوبِ حَيًّا زَمانًا طَوِيلًا مِمّا لَمْ يُثْبِتُها بِرِهانٌ والثّابِتُ أنَّ المَصْلُوبَ إنَّما صُلِبَ في السّاعَةِ الثّانِيَةِ مِن يَوْمِ الجُمْعَةِ وماتَ في السّاعَةِ السّادِسَةِ مِن ذَلِكَ اليَوْمِ وأُنْزِلَ ودُفِنَ، ومِقْدارُ أرْبَعِ ساعاتٍ لا يُعَدُّ زَمانًا طَوِيلًا كَما لا يَخْفى، وأمّا ثانِيًا: فَلِأنَّ عَدَمَ تَعْرِيفِ المَصْلُوبِ نَفْسَهُ إمّا لِأنَّهُ أدْرَكَتْهُ دَهْشَةٌ مَنَعَتْهُ مِنَ البَيانِ والإيضاحِ، أوْ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى أخَذَ عَلى لِسانِهِ فَلَمْ يَسْتَطِعْ أنْ يُخْبِرَ عَنْ نَفْسِهِ صَوْنًا لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ السَّلامُ أنْ يُفْصِحَ الرَّجُلُ عَنْ أمْرِهِ، أوْ لِأنَّهُ لِصِدِّيقِيَّتِهِ آثَرَ المَسِيحُ بِنَفْسِهِ وفَعَلَ ذَلِكَ بِعَهْدِ عَهْدِهِ إلَيْهِ رَغْبَةً في الشَّهادَةِ، ولِهَذا ورّى في الجَوابِ الَّذِي نَقَلَتْهُ النَّصارى في القِصَّةِ وقَدْ وعَدَ المَسِيحُ عَلَيْهِ السَّلامُ التَّلامِيذَ عَلى ما نَقَلُوا قَبْلُ بِقَوْلِهِمْ لَوْ دَفَعْنا إلى المَوْتِ مَعَكَ لَمُتْنا والشِّبْهُ مِن جُمْلَتِهِمْ فَوَفّى بِما وعَدَ مِن نَفْسِهِ عَلى عادَةِ الصِّدِّيقِينَ مِن أصْحابِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ فَهو مِن رِجالٍ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ، ومَن ذَهَبَ إلى أنَّ الشَّبَهَ كانَ مِنَ الأعْداءِ لا مِنَ الأوْلِياءِ رُوِيَ أنَّهُ جَعَلَ يَقُولُ لِلْيَهُودِ عِنْدَ الصَّلْبِ: لَسْتُالمَسِيحَ وإنَّما أنا صاحِبُكم لَكِنَّهُ لَمْ يُسْمَعْ ولَمْ يُلْتَفَتْ إلى قَوْلِهِ وصَلَبُوهُ، والقَوْلُ بِأنَّهُ لَوْ كانَ ذَلِكَ لَتَواتَرَ لا يَخْفى ما فِيهِ لِمَن أحاطَ بِما ذَكَرْناهُ خَبَرًا، فَتَأمَّلْ. ﴿ومُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ تَطْهِيرُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ بِتَبْعِيدِهِ مِنهم بِالرَّفْعِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ بِنَجاتِهِ مِمّا قَصَدُوا فِعْلَهُ بِهِ مِنَ القَتْلِ، وفي الأوَّلِ: جَعَلَهم كَأنَّهم نَجاسَةً، وفي الثّانِي: جَعَلَ فِعْلَهم كَذَلِكَ، والأوَّلُ هو الظّاهِرُ وإلى الثّانِي ذَهَبَ الجُبّائِيُّ. والمُرادُ مِنَ المَوْصُولِ اليَهُودُ، وأتى بِالظّاهِرِ عَلى ما قِيلَ دُونَ الضَّمِيرِ إشارَةً إلى عِلَّةِ النَّجاسَةِ وهي الكُفْرُ، وأخْرَجَ اِبْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ الحَسَنِ أنَّ المُرادَ مِنَ المَوْصُولِ اليَهُودُ والنَّصارى والمَجُوسُ وكُفّارُ قَوْمِهِ. ﴿وجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ﴾ قالَ قَتادَةُ والحَسَنُ وابْنُ جُرَيْجٍ وخَلْقٌ كَثِيرٌ: هم أهْلُ الإسْلامِ اِتَّبَعُوهُ عَلى مِلَّتِهِ وفِطْرَتِهِ مِن أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ ﴿فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وهُمُ اليَهُودُ أوْ سائِرُ مَن شَمَلَهُ هَذا المَفْهُومُ فَإنَّ المُؤْمِنِينَ يَعْلُونَهم بِالحُجَّةِ أوِ السَّيْفِ في غالِبِ الأمْرِ، وأخْرَجَ اِبْنُ جَرِيرٍ عَنِ اِبْنِ زَيْدٍ أنَّ المُرادَ مِنَ المَوْصُولِ الأوَّلِ النَّصارى، ومِنَ الثّانِي اليَهُودُ وقَدْ جَعَلَ سُبْحانَهُ النَّصارى فَوْقَ اليَهُودِ فَلَيْسَ بَلَدٌ فِيهِ أحَدٌ مِنَ النَّصارى إلّا وهم فَوْقَ اليَهُودِ في شَرْقِ الدُّنْيا وغَرْبِها، وعَلى هَذا يَكُونُ المُرادُ مِنَ الِاتِّباعِ مُجَرَّدَ الِادِّعاءِ والمَحَبَّةِ ولا يَضُرُّ في غَلَبَتِهِمْ عَلى اليَهُودِ غَلَبَةُ المُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ، وإذا أُرِيدَ بِالِاتِّباعِ ما يَشْمَلُ اِتِّباعَ المُسْلِمِينَ، وهَذا الِاتِّباعُ يَصِحُّ أنْ يُرادَ بِالمُتَّبِعِينَ ما يَشْمَلُ المُسْلِمِينَ والنَّصارى مُطْلَقًا مَن آمَنَ بِهِ قَبْلَ مَجِيءِ نَبِيِّنا ﷺ ونَسْخِ شَرِيعَتِهِ، ومَن آمَنَ بِزَعْمِهِ بَعْدَ ذَلِكَ، وقَدْ يُرادُ مِنَ الِاتِّباعِ الِاتِّباعُ بِالمَعْنى الأوَّلِ، فَيَجُوزُ أنْ يُرادَ مِنَ المُتَّبِعِينَ المُسْلِمُونَ والقِسْمُ الأوَّلُ مِنَ النَّصارى، وتَخْصِيصُ المُتَّبِعِينَ بِهَذِهِ الأُمَّةِ وحَمْلُ الِاتِّباعِ عَلى المَجِيءِ بَعْدُ مِمّا لا يَنْبَغِي أنْ يَخْرُجَ عَلَيْهِ الكِتابُ الكَرِيمُ كَجَعْلِ الخِطابِ لِلنَّبِيِّ ﷺ وأنَّ الوَقْفَ عَلى ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾، ﴿إلى يَوْمِ القِيامَةِ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِالجَعْلِ أوْ بِالِاسْتِقْرارِ المُقَدَّرِ في الظَّرْفِ، ولَيْسَ المُرادُ أنَّ ذَلِكَ يَنْتَهِي حِينَئِذٍ ويَتَخَلَّصُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ الذِّلَّةِ بَلِ المُرادُ أنَّ المُتَّبِعِينَ يَعْلُونَهم إلى تِلْكَ الغايَةِ، فَأمّا بَعْدُها فَيَفْعَلُ اللَّهُ تَعالى ما يُرِيدُ. ومِنَ النّاسِ مَن حَمَلَ الفَوْقِيَّةَ عَلى العُلُوِّ الرُّتْبِيِّ، والفَوْقِيَّةُ بِحَسَبِ الشَّرَفِ، وجَعْلُ التَّقْيِيدِ بِيَوْمِ القِيامَةِ لِلتَّأْيِيدِ (p-184)كَما في قَوْلِهِمْ ما دامَتِ السَّماءُ، وما دارَ الفَلَكُ، بِناءً عَلى ظَنِّ أنَّ عَدَمَ اِنْتِهاءِ عُلُوِّ المُؤْمِنِينَ وذِلَّةِ الكافِرِينَ إلى ذَلِكَ اليَوْمِ مُوجِبٌ لِهَذا الجَعْلِ ولَيْسَ بِذَلِكَ. ﴿ثُمَّ إلَيَّ مَرْجِعُكُمْ﴾ أيْ مَصِيرِكم بَعْدَ يَوْمِ القِيامَةِ ورُجُوعِكُمْ، والضَّمِيرُ لِعِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ والطّائِفَتَيْنِ، وفِيهِ تَغْلِيبٌ عَلى الأظْهَرِ، و(ثُمَّ) لِلتَّراخِي؛ وتَقْدِيمُ الظَّرْفِ لِلْقَصْرِ المُفِيدِ لِتَأْكِيدِ الوَعْدِ والوَعِيدِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لِمَنِ اِتَّبَعَ وكَفَرَ فَقَطْ، وفِيهِ اِلْتِفاتٌ لِلدَّلالَةِ عَلى شِدَّةِ إرادَةِ إيصالِ الثَّوابِ والعِقابِ لِدَلالَةِ الخِطابِ عَلى الِاعْتِناءِ. ﴿فَأحْكُمُ بَيْنَكُمْ﴾ أيْ فَأقْضِي بَيْنَكم إثْرَ رُجُوعِكم إلَيَّ ومَصِيرِكم بَيْنَ يَدَيَّ ﴿فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ [ 55 ] مِن أُمُورِ الدِّينِ، أوْ مِن أمْرِ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ، والظَّرْفُ مُتَعَلِّقٌ بِما بَعْدَهُ وقُدِّمَ رِعايَةً لِلْفَواصِلِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب