الباحث القرآني

﴿فَلَمّا أحَسَّ عِيسى مِنهُمُ الكُفْرَ﴾ شُرُوعٌ في بَيانِ مَآلِ أحْوالِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ، وقِيلَ: يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ كُلَّهُ مِن قِبَلِ المَلائِكَةِ شَرْحًا لِطَرَفٍ مِنها داخِلًا تَحْتَ القَوْلِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الكَلامُ قَدْ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ورَسُولا إلى بَنِي إسْرائِيلَ﴾ ولا يَكُونُ ﴿أنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ﴾ مُتَعَلِّقًا بِما قَبْلَهُ، ولا يَكُونُ داخِلًا تَحْتَ القَوْلِ ويَكُونُ المَحْذُوفُ هُناكَ فَجاءَ عِيسى كَما بَشَّرَ اللَّهُ تَعالى رَسُولًا إلى بَنِي إسْرائِيلَ بِأنِّي قَدْ جِئْتُكم بِآيَةٍ مِن رَبِّكُمُ الآيَةَ، والفاءُ هُنا مُفْصِحَةٌ بِمِثْلِ المُقَدَّرِ هُناكَ عَلى التَّقْدِيرِ الثّانِي، وأصْلُ الإحْساسِ الإدْراكُ بِإحْدى الحَواسِّ الخَمْسِ الظّاهِرَةِ وقَدِ اُسْتُعِيرَ هُنا اِسْتِعارَةٌ تَبَعِيَّةٌ لِلْعِلْمِ بِلا شُبْهَةٍ، وقِيلَ: إنَّهُ مَجازٌ مُرْسَلٌ عَنْ ذَلِكَ مِن بابِ ذِكْرِ المَلْزُومِ وإرادَةِ اللّازِمِ، والدّاعِي لِذَلِكَ أنَّ الكُفْرَ مِمّا لا يُحَسُّ، والقَوْلُ بِأنَّ المُرادَ إحْساسُ آثارِ الكُفْرِ لَيْسَ بِشَيْءٍ، والمُرادُ مِنَ الكُفْرِ إصْرارُهم عَلَيْهِ وعُتُوُّهم فِيهِ مَعَ العَزِيمَةِ عَلى إيقاعِ مَكْرُوهٍ بِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ، وقَدْ صَحَّ أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ لَقِيَ مِنَ اليَهُودِ قاتَلَهُمُ اللَّهُ تَعالى شَدائِدَ كَثِيرَةً. أخْرَجَ إسْحَقُ بْنُ بِشْرٍ وابْنُ عَساكِرَ مِن طُرُقٍ عَنِ اِبْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما قالَ: «كانَ اليَهُودُ يَجْتَمِعُونَ عَلى عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ ويَسْتَهْزِءُونَ بِهِ ويَقُولُونَ لَهُ: يا عِيسى ما أكَلَ فُلانٌ البارِحَةَ وما اِدَّخَرَ في بَيْتِهِ لِغَدٍ؟! فَيُخْبِرُهم ويَسْخَرُونَ مِنهُ حَتّى طالَ ذَلِكَ بِهِ وبِهِمْ، وكانَ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ لَيْسَ لَهُ قَرارٌ ولا مَوْضِعٌ يُعْرَفُ، إنَّما هو سائِحٌ في الأرْضِ، فَمَرَّ ذاتَ يَوْمٍ بِاِمْرَأةٍ قاعِدَةٍ عِنْدَ قَبْرٍ وهي تَبْكِي فَسَألَها، فَقالَتْ: ماتَتِ اِبْنَةٌ لِي لَمْ يَكُنْ لِي ولَدٌ غَيْرُها فَصَلّى عِيسى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ نادى يا فُلانَةُ قُومِي بِإذْنِ الرَّحْمَنِ فاخْرُجِي فَتَحَرَّكَ القَبْرُ، ثُمَّ نادى الثّانِيَةَ فانْصَدَعَ القَبْرُ، ثُمَّ نادى الثّالِثَةَ فَخَرَجَتْ وهي تَنْفُضُ رَأْسَها مِنَ التُّرابِ فَقالَتْ: يا أُمّاهُ ما حَمَلَكِ عَلى أنْ أذُوقَ كَرْبَ المَوْتِ مَرَّتَيْنِ؟ يا أُمّاهُ اِصْبِرِي واحْتَسِبِي فَلا حاجَةَ لِي في الدُّنْيا، يا رُوحَ اللَّهِ سَلْ رَبِّي أنْ يَرُدَّنِي إلى الآخِرَةِ وأنْ يُهَوِّنَ عَلَيَّ كَرْبَ المَوْتِ، (p-175)فَدَعا رَبَّهُ فَقَبَضَها إلَيْهِ فاسْتَوَتْ عَلَيْها الأرْضُ فَبَلَغَ ذَلِكَ اليَهُودُ فازْدادُوا عَلَيْهِ غَضَبًا»، ورُوِيَ عَنْ مُجاهِدٍ أنَّهم أرادُوا قَتْلَهُ ولِذَلِكَ اِسْتَنْصَرَ قَوْمَهُ، و(مِن) لِابْتِداءِ الغايَةِ مُتَعَلِّقٌ بِ (أحَسَّ) أيِ اِبْتَدَأ الإحْساسُ مِن جِهَتِهِمْ؛ وجَوَّزَ أبُو البَقاءِ أنْ يَتَعَلَّقَ بِمَحْذُوفٍ عَلى أنَّهُ حالٌ مِنَ الكُفْرِ أيْ لَمّا أحَسَّ الكُفْرَ حالَ كَوْنِهِ صادِرًا مِنهم. ﴿قالَ مَن أنْصارِي إلى اللَّهِ﴾ المَقُولُ لَهُمُ الحَوارِيُّونَ كَما يُشِيرُ إلَيْهِ آيَةُ الصَّفِّ [14] ﴿كَما قالَ عِيسى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ﴾ الآيَةَ، وكَوْنُهُ جَمِيعَ بَنِي إسْرائِيلَ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِن بَنِي إسْرائِيلَ وكَفَرَتْ طائِفَةٌ﴾ لَيْسَ بِشَيْءٍ، إذِ الآيَةُ لَيْسَتْ بِنَصٍّ في المُدَّعى إذْ يَكْفِي في تَحَقُّقِ الِانْقِسامِ بُلُوغُ الدَّعْوَةِ إلى الجَمِيعِ، والأنْصارُ جَمْعُ نَصِيرٍ كالأشْرافِ جَمْعُ شَرِيفٍ، وقالَ قَوْمٌ: هو جَمْعُ نَصْرٍ، وضَعَّفَهُ أبُو البَقاءِ إلّا أنْ يُقَدَّرَ فِيهِ مُضافٌ أيْ مِن صاحِبِ نَصْرِي، أوْ تَجْعَلُهُ مَصْدَرًا وُصِفَ بِهِ، والجارُّ والمَجْرُورُ إمّا أنْ يَتَعَلَّقَ بِمَحْذُوفٍ وقَعَ حالًا مِنَ الياءِ وهي مَفْعُولٌ بِهِ مَعْنًى، والمَعْنى مَن يَنْصُرُنِي حالَ كَوْنِي مُلْتَجِئًا إلى اللَّهِ تَعالى أوْ ذاهِبًا إلى اللَّهِ، وإمّا أنْ يَتَعَلَّقَ بِأنْصارِي مُضَمَّنًا مَعْنى الإضافَةِ أيْ مِنَ الَّذِينَ يُضِيفُونَ أنْفُسَهم إلى اللَّهِ في نَصْرِي. وفِي «اَلْكَشّافِ» في تَفْسِيرِ سُورَةِ الصَّفِّ ما حاصِلُهُ مِمّا يُخالِفُ ما ذَكَرَهُ هُنا أنَّ إضافَةَ أنْصارٍ لِلْياءِ إضافَةُ مُلابَسَةٍ، أيْ مِن حِزْبِي ومُشارِكِي في تَوَجُّهِي لِنُصْرَةِ اللَّهِ تَعالى لِيُطابِقَ جَوابَهُمُ الآتِيَ ولا يَصِحُّ أنْ يَكُونَ مَعْناهُ مَن يَنْصُرُنِي مَعَ اللَّهِ لِعَدَمِ المُطابَقَةِ، وفِيهِ أنَّ عَدَمَ المُطابَقَةِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، إذْ نُصْرَةُ اللَّهِ تَعالى في الجَوابِ لَيْسَتْ عَلى ظاهِرِها بَلْ لا بُدَّ مِن تَجَوُّزٍ، أوْ إضْمارٍ في نَصْرِهِمْ لِلَّهِ تَعالى، ويُضْمَرُ ما تَحْصُلُ بِهِ المُطابَقَةُ، نَعَمْ كَوْنُ (إلى) بِمَعْنى مَعَ لا يَخْلُو عَنْ شَيْءٍ فَقَدْ ذَكَرَ الفَرّاءُ أنَّها إنَّما تَكُونُ كَذَلِكَ إذا ضُمَّ شَيْءٌ إلى آخَرَ، نَحْوَ: الذَّوْدُ إلى الذَّوْدِ إبِلٌ أيْ إذا ضَمَمْتَهُ إلَيْهِ صارَ إبِلًا، ألا تَراكَ تَقُولُ قَدِمَ زَيْدٌ ومَعَهُ مالٌ، ولا تَقُولُ: وإلَيْهِ وكَذا نَظائِرُهُ فالسّالِمُ عَنْ هَذا الحَمْلِ مِنَ التَّفاسِيرِ مَعَ اِشْتِمالِهِ عَلى قِلَّةِ الإضْمارِ أوْلى، ومِن هُنا اِخْتارَ بَعْضُهم كَوْنَ إلى بِمَعْنى اللّامِ، وآخَرُونَ كَوْنَها بِمَعْنى في. وقالَ في «اَلْكَشْفِ»: لَعَلَّ الأشْبَهَ في مَعْنى الآيَةِ واَللَّهُ تَعالى أعْلَمُ أنْ يُحْمَلَ عَلى مَعْنى مَن يَنْصُرُنِي مُنْهِيًا نَصْرَهُ إلى اللَّهِ تَعالى كَما يَقْتَضِيهِ حَرْفُ الِانْتِهاءِ دُونَ تَضْمِينٍ، كَأنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ طَلَبَ مِنهم أنْ يَنْصُرُوهُ لِلَّهِ تَعالى لا لِغَرَضٍ آخَرَ، مُدْمِجًا أنَّ نُصْرَةَ اللَّهِ تَعالى في نُصْرَةِ رَسُولِهِ، وجَوابُهُمُ المَحْكِيُّ عَنْهم بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿قالَ الحَوارِيُّونَ نَحْنُ أنْصارُ اللَّهِ﴾ شَدِيدُ الطِّباقِ لَهُ كَأنَّهم قالُوا: نَحْنُ ناصِرُوكَ لِأنَّهُ نَصْرُ اللَّهِ تَعالى لِلْغَرَضِ الَّذِي رَمَزَ إلَيْهِ، ولَوْ قالُوا مَكانَهُ: نَحْنُ أنْصارُكَ لَما وقَعَ هَذا المَوْقِعَ، اِنْتَهى. وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّ جَعْلَ (إلى) بِمَعْنى اللّامِ، أوْ في التَّعْلِيلِيَّتَيْنِ يَحْصُلُ طِلْبَةُ المَسِيحِ الَّتِي أُشِيرُ إلَيْها عَلى وجْهٍ لَعَلَّهُ أقَلُّ تَكَلُّفًا مِمّا ذَكَرَ، وكَأنَّ اِخْتِيارَ ذَلِكَ لِما قالَهُ الزَّجّاجُ مِن أنَّهُ لا يَجُوزُ أنْ يُقالَ: إنَّ بَعْضَ الحُرُوفِ مِن حُرُوفِ المَعانِي بِمَعْنى الآخَرِ لَكِنَّ الحَرْفَيْنِ قَدْ يَتَقارَبانِ في الفائِدَةِ فَيَظُنُّ الضَّعِيفُ العِلْمِ بِاللُّغَةِ أنَّ مَعْناهُما واحِدٌ ولَيْسَ بِذَلِكَ، فَلْيُفْهَمْ. و(اَلْحَوارِيُّونَ) جَمْعُ حَوارِيٍّ، يُقالُ: فُلانٌ حَوارِيُّ فُلانٍ أيْ خاصَّتُهُ مِن أصْحابِهِ وناصِرِهِ، ولَيْسَ الحَوارِيُّ جَمْعًا كَكَراسِيَّ عَلى ما وُهِمَ بَلْ هو مُفْرَدٌ مُنْصَرِفٌ كَما صَرَّحَ بِهِ المُحَقِّقُونَ، وذَكَرَ العَلّامَةُ التَّفْتازانِيُّ أنَّهُ مُفْرَدٌ وألِفُهُ مِن تَغْيِيراتِ النِّسَبِ؛ وفِيهِ أنَّ الألِفَ إذا زِيدَتْ في النِّسْبَةِ وغُيِّرَتْ بِها تُخَفَّفُ الياءُ في الأفْصَحِ في أمْثالِهِ، والحَوارِيُّ بِخِلافِهِ لِأنَّ تَخْفِيفَ يائِهِ شاذٌّ كَما صَرَّحُوا بِهِ، وبِهِ قُرِئَ في الآيَةِ، وأصْلُهُ مِنَ التَّحْوِيرِ أيِ التَّبْيِيضِ، ومِنهُ الخُبْزُ الحَوارِيُّ الَّذِي نَخَلَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرى؛ والحَوارِيّاتُ لِلْحَضَرِيّاتِ نِساءُ المُدُنِ والقُرى لِما أنَّهُ يَغْلِبُ فِيهِنَّ البَياضُ لِعَدَمِ البُرُوزِ لِلشَّمْسِ، ويُطْلَقُ الحَوارِيُّ عَلى القَصّارِ أيْضًا لِأنَّهُ (p-176)يُبَيِّضُ الثِّيابَ وهو بِلُغَةِ النَّبَطِ هُوّارِيٌّ بِضَمِّ الهاءِ وتَشْدِيدِ الواوِ وفَتْحِ الرّاءِ، قالَهُ الضَّحّاكُ، واخْتُلِفَ في سَبَبِ تَسْمِيَةِ أُولَئِكَ القَوْمِ بِذَلِكَ، فَقِيلَ: سُمُّوا بِذَلِكَ لِبَياضِ ثِيابِهِمْ وهو المَرْوِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وقِيلَ: لِأنَّهم كانُوا قَصّارِينَ يُبَيِّضُونَ الثِّيابَ لِلنّاسِ وهو المَرْوِيُّ عَنْ مُقاتِلٍ وجَماعَةٍ، وقِيلَ: لِنَقاءِ قُلُوبِهِمْ وطَهارَةِ أخْلاقِهِمْ، وإلَيْهِ يُشِيرُ كَلامُ قَتادَةَ، وفي تَعْيِينِ أنَّهم مِن أيِّ الطَّوائِفِ مِنَ النّاسِ خِلافٌ أيْضًا، فَقِيلَ: قَوْمٌ كانُوا يَصْطادُونَ السَّمَكَ فِيهِمْ يَعْقُوبُ وشَمْعُونُ ويُوحَنّا، فَمَرَّ بِهِمْ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ، فَقالَ لَهُمْ: أنْتُمْ تَصِيدُونَ السَّمَكَ فَإنِ اِتَّبَعْتُمُونِي صِرْتُمْ بِحَيْثُ تَصِيدُونَ النّاسَ بِالحَياةِ الأبَدِيَّةِ؟ فَقالُوا لَهُ مَن أنْتَ؟ قالَ: عِيسى اِبْنُ مَرْيَمَ عَبْدُ اللَّهِ ورَسُولُهُ فَطَلَبُوا مِنهُ المُعْجِزَةَ، وكانَ شَمْعُونُ قَدْ رَمى شَبَكَتَهُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ فَما اِصْطادَ شَيْئًا، فَأمَرَ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ بِإلْقائِها في الماءِ مَرَّةً أُخْرى فَفَعَلَ فاصْطادَ ما مَلَأ سَفِينَتَيْنِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ آمَنُوا بِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ، وقِيلَ: هُمُ اِثْنا عَشَرَ رَجُلًا، أوْ تِسْعَةٌ وعِشْرُونَ مِن سائِرِ النّاسِ اِتْبَعُوا عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ، وكانُوا إذا جاعُوا قالُوا: يا رُوحَ اللَّهِ جُعْنا فَيَضْرِبُ بِيَدِهِ عَلى الأرْضِ فَيَخْرُجُ لِكُلٍّ واحِدٍ رَغِيفانِ، وإذا عَطِشُوا قالُوا: عَطِشْنا فَيَضْرِبُ بِيَدِهِ عَلى الأرْضِ فَيَخْرُجُ الماءُ فَيَشْرَبُونَ، فَقالُوا: مَن أفْضَلُ مِنّا إذا شِئْنا أطْعَمْتَنا وإذا شِئْنا أسْقَيْتَنا وقَدْ آمَنّا بِكَ؟ فَقالَ: أفْضَلُ مِنكم مَن يَعْمَلُ بِيَدِهِ ويَأْكُلُ مِن كَسْبِهِ فَصارُوا يَغْسِلُونَ الثِّيابَ بِالكِراءِ ويَأْكُلُونَ. وقِيلَ: إنَّ واحِدًا مِنَ المُلُوكِ صَنَعَ طَعامًا وجَمَعَ النّاسَ عَلَيْهِ وكانَ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ عَلى قَصْعَةٍ فَكانَتِ القَصْعَةُ لا تَنْقُصُ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلْمَلِكِ، فَذَهَبَ إلَيْهِ المَلِكُ مَعَ أقارِبِهِ فَقالُوا لَهُ: مَن أنْتَ؟ قالَ: عِيسى اِبْنُ مَرْيَمَ، فَقالَ المَلِكُ: إنِّي تارِكٌ مُلْكِي ومُتَّبِعُكَ فَتَبِعَهُ مَعَ أقارِبِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الحَوارِيُّونَ، وقِيلَ: إنَّ أمَّهُ دَفَعَتْهُ إلى صَبّاغٍ فَكانَ إذا أرادَ أنْ يُعَلِّمَهُ شَيْئًا وجَدَهُ أعْلَمَ بِهِ مِنهُ فَغابَ الصَّبّاغُ يَوْمًا لَمُهِمٍّ، وقالَ لَهُ: هَهُنا ثِيابٌ مُخْتَلِفَةٌ وقَدْ جَعَلْتُ عَلى كُلٍّ مِنها عَلامَةً فاصْبُغْها بِتِلْكَ الألْوانِ فَطَبَخَ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ حَبًّا واحِدًا وجَعَلَ الجَمِيعَ فِيهِ، وقالَ: كُونِي بِإذْنِ اللَّهِ كَما أُرِيدُ، فَرَجَعَ الصَّبّاغُ فَأخْبَرَهُ بِما فَعَلَ، فَقالَ: أفْسَدْتَ عَلَيَّ الثِّيابَ، قالَ: قُمْ فانْظُرْ، فَكانَ يُخْرِجُ ثَوْبًا أحْمَرَ وثَوْبًا أخْضَرَ وثَوْبًا أصْفَرَ كَما كانَ يُرِيدُ فَتَعَجَّبَ الحاضِرُونَ مِنهُ وآمَنُوا بِهِ وكانُوا الحَوارِيِّينَ. ونَقَلَ جَمْعٌ عَنِ القَفّالِ أنَّهُ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ بَعْضُهم مِنَ المُلُوكِ، وبَعْضُهم مِنَ الصَّيّادِينَ، وبَعْضُهم مِنَ القَصّارِينَ، وبَعْضُهم مِنَ الصَّبّاغِينَ، وبَعْضُهم مِن سائِرِ النّاسِ، وسُمُّوا جَمِيعًا بِالحَوارِيِينَ لِأنَّهم كانُوا أنْصارَ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ والمُخْلِصِينَ في مَحَبَّتِهِ وطاعَتِهِ، والِاشْتِقاقُ كَيْفَ كانُوا هو الِاشْتِقاقُ، ومَأْخَذُهُ إمّا أنْ يُؤْخَذَ حَقِيقِيًّا وإمّا أنْ يُؤْخَذَ مَجازِيًّا، وهو الأوْفَقُ بِشَأْنِ أُولَئِكَ الأنْصارِ، وقِيلَ: إنَّهُ مَأْخُوذٌ مِن حارَ بِمَعْنى رَجَعَ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّهُ ظَنَّ أنْ لَنْ يَحُورَ﴾ وكَأنَّهم سُمُّوا بِذَلِكَ لِرُجُوعِهِمْ إلى اللَّهِ تَعالى. ومِنَ النّاسِ مَن فَسَّرَ الحَوارِيَّ بِالمُجاهِدِ فَإنْ أُرِيدَ بِالجِهادِ ما هو المُتَبادِرُ مِنهُ أشْكَلَ ذَلِكَ حَيْثُ إنَّهُ لَمْ يَصِحَّ أنَّ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ أمَرَ بِهِ؛ وادَّعاهُ بَعْضُهم مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِن بَنِي إسْرائِيلَ وكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأيَّدْنا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأصْبَحُوا ظاهِرِينَ﴾ ولا يَخْفى أنَّ الآيَةَ لَيْسَتْ نَصًّا في المَقْصُودِ لِجَوازِ أنْ يُرادَ بِالتَّأْيِيدِ التَّأْيِيدُ بِالحُجَّةِ وإعْلاءُ الكَلِمَةِ، وإنْ أُرِيدَ بِالجِهادِ جِهادُ النَّفْسِ بِتَجْرِيعِها مَرائِرَ التَّكالِيفِ لَمْ يُشْكِلْ ذَلِكَ. نَعَمْ اُسْتُشْكِلَ أنَّ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ إذا لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِالقِتالِ فَما مَعْنى طَلَبَهُ الأنْصارَ؟ وأُجِيبَ بِأنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا عَلِمَ أنَّ اليَهُودَ يُرِيدُونَ قَتْلَهُ اِسْتَنْصَرَ لِلْحِمايَةِ مِنهم كَما قالَهُ الحَسَنُ ومُجاهِدٌ ولَمْ يَسْتَنْصِرْ لِلْقِتالِ مَعَهم عَلى الإيمانِ بِما جاءَ بِهِ، وهَذا هو الَّذِي لَمْ يُؤْمَرُ بِهِ لا ذَلِكَ بَلْ رُبَّما يُدَّعى أنَّ ذَلِكَ مَأْمُورٌ بِهِ لِوُجُوبِ المُحافَظَةِ (p-177)عَلى حِفْظِ النَّفْسِ، وقَدْ رُوِيَ أنَّ اليَهُودَ لَمّا طَلَبُوهُ لِيَقْتُلُوهُ قالَ لِلْحَوارِيِّينَ: أيُّكم يُحِبُّ أنْ يَكُونَ رَفِيقِي في الجَنَّةِ عَلى أنْ يَلْقى فِيهِ شَبَهِي فَيُقْتَلَ مَكانِي؟ فَأجابَهُ إلى ذَلِكَ بَعْضُهُمْ، وفي بَعْضِ الأناجِيلِ أنَّ اليَهُودَ لَمّا أخَذُوا عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ سَلَّ شَمْعُونُ سَيْفَهُ فَضَرَبَ بِهِ عَبْدًا كانَ فِيهِمْ لِرَجُلٍ مِنَ الأحْبارِ عَظِيمٍ فَرَمى بِأُذُنِهِ، فَقالَ لَهُ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ: حَسْبُكَ، ثُمَّ أدْنى أُذُنَ العَبْدِ فَرَدَّها إلى مَوْضِعِها فَصارَتْ كَما كانَتْ، وقِيلَ: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ طَلَبُ النُّصْرَةِ لِلتَّمْكِينِ مِن إقامَةِ الحُجَّةِ ولِتَمْيِيزِ المُوافِقِ مِنَ المُخالِفِ وذَلِكَ لا يَسْتَدْعِي الأمْرَ بِالجِهادِ كَما أمَرَ نَبِيُّنا رُوحُ جَسَدِ الوُجُودِ ﷺ، وهو الظّاهِرُ لِمَن أنْصَفَ، والمُرادُ مِن أنْصارِ اللَّهِ أنْصارُ دِينِهِ ورَسُولِهِ وأعْوانِهِما عَلى ما هو المَشْهُورُ. ﴿آمَنّا بِاللَّهِ﴾ مُسْتَنَدٌ لِتِلْكَ الدَّعْوى جارِيَةٌ مَجْرى العِلَّةِ لَها ﴿واشْهَدْ﴾ عَطْفٌ عَلى ﴿آمَنّا﴾ ولا يَضُرُّ اِخْتِلافُهُما إنْشائِيَّةً وإخْبارِيَّةً لِما تَحَقَّقَ في مَحَلِّهِ، وقِيلَ: إنَّ ﴿آمَنّا﴾ لِإنْشاءِ الإيمانِ أيْضًا فَلا اِخْتِلافَ ﴿بِأنّا مُسْلِمُونَ﴾ [ 52 ] أيْ مُنْقادُونَ لِما تُرِيدُهُ مِنّا ويَدْخُلُ فِيهِ دُخُولًا أوَّلِيًّا نُصْرَتُهم لَهُ، أوْ بِأنَّ دِينَنا الإسْلامُ الَّذِي هو دِينُ الأنْبِياءِ مِن قَبْلِكَ فَهو إقْرارٌ مَعْنًى بِنُبُوَّةِ مَن قَبْلَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ، وهَذا طَلَبٌ مِنهم شَهادَتَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ لَهم يَوْمَ القِيامَةِ حِينَ تَشْهَدُ الرُّسُلُ لِقَوْمِهِمْ وعَلَيْهِمْ إيذانًا كَما قالَ الكَرْخِيُّ بِأنَّ مَرْمى غَرَضِهِمِ السَّعادَةُ الأُخْرَوِيَّةُ، وجاءَ في المائِدَةِ [111] ﴿بِأنَّنا﴾ لِأنَّ ما فِيها كَما قِيلَ أوَّلُ كَلامِ الحَوارِيِّينَ فَجاءَ عَلى الأصْلِ، وما هُنا تَكْرارٌ لَهُ بِالمَعْنى فَناسَبَ فِيهِ التَّخْفِيفَ، لِأنَّ كُلًّا مِنَ التَّخْفِيفِ والتَّكْرارِ فَرْعٌ، والفَرْعُ بِالفَرْعِ أوْلى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب