الباحث القرآني

﴿قالَتْ﴾ اِسْتِئْنافٌ مَبْنِيٌّ عَلى السُّؤالِ كَأنَّهُ قِيلَ: فَماذا كانَ مِنها حِينَ قالَتْ لَها المَلائِكَةُ ذَلِكَ؟ فَقِيلَ: ﴿قالَتْ رَبِّ أنّى يَكُونُ لِي ولَدٌ﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الِاسْتِفْهامُ مَجازِيًّا والمُرادُ التَّعَجُّبُ مِن ذَلِكَ والِاسْتِبْعادُ العادِيُّ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ حَقِيقِيًّا عَلى مَعْنى أنَّهُ يَكُونُ بِتَزَوُّجٍ أوْ غَيْرِهِ، وقِيلَ: يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ اِسْتِفْهامًا عَنْ أنَّهُ مِن أيِّ شَخْصٍ يَكُونُ، وإعْرابُ هَذِهِ الجُمْلَةِ عَلى نَحْوِ إعْرابِ الجُمْلَةِ السّابِقَةِ في قِصَّةِ زَكَرِيّا عَلَيْهِ السَّلامُ ﴿ولَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾ جُمْلَةٌ حالِيَّةٌ مُحَقِّقَةٌ لِما مَرَّ ومُقَوِّيَةٌ لَهُ، والمَسِيسُ هُنا كِنايَةٌ عَنِ الوَطْءِ وهَذا نَفْيٌ عامٌّ لِلتَّزَوُّجِ وغَيْرِهِ، والبَشَرُ يُطْلَقُ عَلى الواحِدِ والجَمْعِ، والتَّنْكِيرُ لِلْعُمُومِ، والمُرادُ عُمُومُ النَّفْيِ لا نَفْيُ العُمُومِ، وسُمِّيَ بَشَرًا لِظُهُورِ بَشَرَتِهِ أوْ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى باشَرَ أباهُ وخَلَقَهُ بِيَدَيْهِ. (قالَ) اِسْتِئْنافٌ كَسابِقِهِ، والفاعِلُ ضَمِيرُ الرَّبِّ والمَلَكُ حَكى لَها المَقُولَ وهو قَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ﴾ إمّا بِلا تَغْيِيرٍ فَيَكُونُ فِيهِ اِلْتِفاتٌ، وإمّا بِتَغْيِيرٍ، وقِيلَ: إنَّ اللَّهَ تَعالى قالَ لَها ذَلِكَ بِلا واسِطَةِ مَلَكٍ، والأوَّلُ: مَبْنِيٌّ عَلى أنَّهُ تَعالى لَمْ يُكَلِّمْ غَيْرَ الأنْبِياءِ بَلْ غَيْرَ خاصَّتِهِمْ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وقِيلَ: القائِلُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ ولَيْسَ عَلى سَبِيلِ الحِكايَةِ، والقَرِينَةُ عَلَيْهِ ذِكْرُ المَلائِكَةِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ قَبْلَهُ، وحَمْلُ ﴿قالَتْ رَبِّ﴾ فِيما تَقَدَّمَ عَلى ذَلِكَ أبْعَدُ بِعِيدٍ، وقَدْ مَرَّ عَلَيْكَ الكَلامُ في مِثْلِ هَذِهِ الجُمْلَةِ خَلا أنَّ التَّعْبِيرَ هُنا بِ يَخْلُقُ وهُناكَ بِ يَفْعَلُ لِاخْتِلافِ القِصَّتَيْنِ في الغَرابَةِ فَإنَّ الثّانِيَةَ أغْرَبُ، فالخَلْقُ المُنْبِئُ عَنِ الِاخْتِراعِ أنْسَبُ بِها ولِهَذا عَقَّبَهُ بِبَيانِ كَيْفِيَّتِهِ، فَقالَ سُبْحانَهُ: ﴿إذا قَضى أمْرًا﴾ أيْ أرادَ شَيْئًا، فالأمْرُ واحِدُ الأُمُورِ، والقَضاءُ في الأصْلِ الأحْكامُ، وأُطْلِقَ عَلى الإرادَةِ الإلَهِيَّةِ القَطْعِيَّةِ المُتَعَلِّقَةِ بِإيجادِ المَعْدُومِ وإعْدامِ المَوْجُودِ وسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِإيجابِها ما تَعَلَّقَتْ بِهِ البَتَّةَ ويُطْلَقُ عَلى الأمْرِ، ومِنهُ ﴿وقَضى رَبُّكَ﴾ . ﴿فَإنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [ 47 ] أيْ فَهو يَكُونُ أيْ يَحْدُثُ، وهَذا عِنْدَ الأكْثَرِينَ تَمْثِيلٌ لِتَأْثِيرِ قُدْرَتِهِ في مُرادِهِ بِأمْرِ المُطاعِ لِلْمُطِيعِ في حُصُولِ المَأْمُورِ مِن غَيْرِ اِمْتِناعٍ وتَوَقُّفٍ وافْتِقارٍ إلى مُزاوَلَةِ عَمَلٍ واسْتِعْمالِ آلَةٍ، فالمُمَثِّلُ الشَّيْءُ المُكَوِّنُ بِسُرْعَةٍ مِن غَيْرِ عَمَلٍ وآلَةٍ، والمُمَثَّلُ بِهِ أمْرُ الآمِرِ (p-165)المُطاعِ لِمَأْمُورٍ بِهِ مُطِيعٍ عَلى الفَوْرِ، وهَذا اللَّفْظُ مُسْتَعارٌ لِذَلِكَ مِنهُ، وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّهُ يَجُوزُ فِيهِ أنْ يَكُونَ حَقِيقَةً بِأنْ يُرادَ تَعَلُّقَ الكَلامِ النَّفْسِيِّ بِالشَّيْءِ الحادِثِ عَلى أنَّ كَيْفِيَّةَ الخَلْقِ عَلى هَذا الوَجْهِ، وعَلى كِلا التَّقْدِيرَيْنِ المُرادُ مِن هَذا الجَوابِ بَيانُ أنَّ اللَّهَ تَعالى لا يُعْجِزُهُ أنْ يَخْلُقَ ولَدًا بِلا أبٍ لِأنَّهُ أمْرٌ مُمْكِنٌ في نَفْسِهِ فَيَصِحُّ أنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقُ الإرادَةِ والقُدْرَةِ كَيْفَ لا وكَثِيرًا ما نُشاهِدُ حُدُوثَ كَثِيرٍ مِنَ الحَيَواناتِ عَلى سَبِيلِ التَّوَلُّدِ كَحُدُوثِ الفَأْرِ عَنِ المَدَرِ والحَيّاتِ عَنِ الشَّعْرِ المُتَعَفِّنِ والعَقارِبِ عَنِ البادُورَجِ والذُّبابِ عَنِ الباقِلاءِ إلى غَيْرِ ذَلِكَ غايَتُهُ الِاسْتِبْعادُ، وهو لا يُوجِبُ ظَنًّا فَضْلًا عَنْ عِلْمٍ، وبَعْدَ إخْبارِ الصّادِقِ عَنْ وُجُودِ ذَلِكَ المُمْكِنِ يَجِبُ القَطْعُ بِصِحَّتِهِ، والقَوْلُ بِأنَّ المادَّةَ فِيما عُدَّ ونَحْوُهُ مَوْجُودَةٌ وبَعْدَ وُجُودِها لا رَيْبَ في الإمْكانِ دُونَ ما نَحْنُ فِيهِ لِأنَّ مادَّةَ الآدَمِيِّ مَنِيّانِ ولَيْسَ هُناكَ إلّا مَنِيٌّ واحِدٌ أوْ لا مَنِيٌّ أصْلًا فَكَيْفَ يُمْكِنُ الخَلْقُ لَيْسَ بِشَيْءٍ، أمّا عَلى مَذْهَبِنا فَلِأنَّ الإيجادَ لا يَتَوَقَّفُ عَلى سَبْقِ المادَّةِ وإلّا لِتَسَلْسُلِ الأمْرِ، وأمّا عَلى مَذْهَبِ المُنْكِرِينَ فَيَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَنِيُّ الأُنْثى بِنَفْسِهِ أوْ بِما يَنْضَمُّ إلَيْهِ مِمّا لا يَعْلَمُهُ إلّا اللَّهُ تَعالى بِحالَةٍ يَصْلُحُ أنْ يَكُونَ مادَّةً، وقُصارى ما يَلْزَمُ مِن ذَلِكَ الِاسْتِبْعادُ وهو لا يُجْدِي نَفْعًا في أمْثالِ هَذِهِ المَقاماتِ، ويَجُوزُ أيْضًا أنْ يُقِيمَ اللَّهُ تَعالى غَيْرَ المَنِيِّ مَقامَ المَنِيِّ، وأيُّ مُحالٍ يَلْزَمُ مِن ذَلِكَ، ألّا تَرى كَيْفَ أُقِيمَ التُّرابُ مَقامَ المَنِيِّ في أصْلِ النَّوْعِ ودَعْوى أنَّ الإقامَةَ مَشْرُوطَةٌ بِكَوْنِ ذَلِكَ الغَيْرِ خارِجَ الرَّحِمِ، وأمّا الإقامَةُ في الرَّحِمِ فَمِمّا لا إمْكانَ لَها غَيْرَ بَيِّنَةٍ ولا مُبَيِّنَةٍ بَلِ العَقْلُ لا يُفَرِّقُ بَيْنَ الأمْرَيْنِ في الإمْكانِ وإنَّما يُفَرِّقُ بَيْنَهُما في مُوافَقَةِ العادَةِ وعَدَمِها وهو أمْرٌ وراءَ ما نَحْنُ فِيهِ. ومِنَ النّاسِ مَن بَيَّنَ هَذا المَطْلَبَ بِأنَّ التَّخَيُّلاتِ الذِّهْنِيَّةَ كَثِيرًا ما تَكُونُ أسْبابًا لِحُدُوثِ الحَوادِثِ كَتَصَوُّرِ حُضُورِ المُنافِي لِلْغَضَبِ وكَتَصَوُّرِ السُّقُوطِ بِحُصُولِ السُّقُوطِ لِلْماشِي عَلى جِذْعٍ مَمْدُودٍ فَوْقَ فَضاءٍ بِخِلافِهِ لَوْ كانَ عَلى قَرارٍ مِنَ الأرْضِ، وقَدْ جَعَلَتِ الفَلاسِفَةُ هَذا كالأصْلِ في بَيانِ جَوازِ المُعْجِزاتِ والكَراماتِ، فَما المانِعُ أنْ يُقالَ: إنَّها لَمّا تَخَيَّلَتْ صُورَةَ جِبْرِيلَ كَفى ذَلِكَ في عُلُوقِ الوَلَدِ في رَحِمِها لِأنَّ مَنِيَّ الرَّجُلِ لَيْسَ إلّا لِأجْلِ العَقْدِ فَإذا حَصَلَ الِانْعِقادُ لِمَنِيِّ المَرْأةِ بِوَجْهٍ آخَرَ أمْكَنَ عُلُوقُ الوَلَدِ، اِنْتَهى. ولَيْسَ بِشَيْءٍ لِأنَّهُ يَعُودُ بِالنَّقْصِ لِحَضْرَةِ البَتُولِ وأنَّها لَتُنَزِّهُ ساحَتَها عَنْ مَثَلِ هَذا التَّخَيُّلِ كَما لا يَخْفى، وفي جَوابِ هَذِهِ الطّاهِرَةِ لِيُوسُفَ النَّجّارِ ما يُؤَيِّدُ ما قُلْناهُ، فَقَدْ أخْرَجَ إسْحَقُ بْنُ بِشْرٍ وابْنُ عَساكِرَ عَنْ وهْبٍ أنَّهُ قالَ: لَمّا اِسْتَقَرَّ حَمْلُ مَرْيَمَ وبَشَّرَها جِبْرِيلُ وثِقَتْ بِكَرامَةِ اللَّهِ تَعالى واطْمَأنَّتْ وطابَتْ نَفْسًا، وأوَّلُ مَنِ اِطَّلَعَ عَلى حَمْلِها اِبْنُ خالٍ لَها يُقالُ لَهُ يُوسُفُ، واهْتَمَّ لِذَلِكَ وأحْزَنَهُ وخَشِيَ البَلِيَّةَ مِنهُ لِأنَّهُ كانَ يَخْدِمُها فَلَمّا رَأى تَغَيُّرَ لَوْنِها وكَبِرَ بَطْنِها عَظُمَ عَلَيْهِ ذَلِكَ فَقالَ مُعَرِّضًا لَها: هَلْ يَكُونُ زَرْعٌ مِن غَيْرِ بَذْرٍ؟! قالَتْ: نَعَمْ، قالَ: وكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ قالَتْ: إنَّ اللَّهَ تَعالى خَلَقَ البَذْرَ الأوَّلَ مِن غَيْرِ نَباتٍ وأنْبَتَ الزَّرْعَ الأوَّلَ مِن غَيْرِ بَذْرٍ، ولَعَلَّكَ تَقُولُ: لِمَ يَقْدِرُ أنْ يَخْلُقَ الزَّرْعَ الأوَّلَ إلّا بِالبَذْرِ؟ ولَعَلَّكَ تَقُولُ: لَوْلا أنِ اِسْتَعانَ اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ بِالبَذْرِ لَغَلَّبَهُ حَتّى لا يَقْدِرَ عَلى أنْ يَخْلُقَهُ ولا يُنْبِتَهُ؟ قالَ يُوسُفُ: أعُوذُ بِاَللَّهِ أنْ أقُولَ ذَلِكَ قَدْ صَدَّقْتُ وقُلْتُ بِالنُّورِ والحُكْمِ، وكَما قَدَرَ أنْ يَخْلُقَ الزَّرْعَ الأوَّلَ ويُنْبِتَهُ مِن غَيْرِ بَذْرٍ يَقْدِرُ أنْ يَجْعَلَ زَرْعًا مِن غَيْرِ بَذْرٍ فَأخْبِرِينِي هَلْ يَنْبُتُ الشَّجَرُ مِن غَيْرِ ماءٍ ولا مَطَرٍ؟ قالَتْ: ألَمْ تَعْلَمْ أنَّ لِلْبِذْرِ والماءِ والمَطَرِ والشَّجَرِ خالِقًا واحِدًا فَلَعَلَّكَ تَقُولُ: لَوْلا الماءُ والمَطَرُ لَمْ يَقْدِرْ عَلى أنْ يُنْبِتَ الشَّجَرَ؟ قالَ أعُوذُ بِاَللَّهِ تَعالى أنْ أقُولَ ذَلِكَ قَدْ صَدَقْتِ، فَأخْبِرِينِي خَبَرَكِ، قالَتْ: بَشَّرَنِي اللَّهُ تَعالى بِكَلِمَةٍ مِنهُ اِسْمُهُ المَسِيحُ عِيسى اِبْنُ مَرْيَمَ إلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ومِنَ الصّالِحِينَ﴾ فَعَلِمَ يُوسُفُ أنَّ ذَلِكَ أمْرٌ مِنَ اللَّهِ تَعالى لِسَبَبِ خَيْرٍ أرادَهُ بِمَرْيَمَ فَسَكَتَ عَنْها فَلَمْ تَزَلْ عَلى ذَلِكَ حَتّى ضَرَبَها الطَّلْقُ فَنُودِيَتْ أنِ اُخْرُجِي مِن (p-166)المِحْرابِ فَخَرَجَتْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب