الباحث القرآني

﴿فَنادَتْهُ المَلائِكَةُ﴾ وفي قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿فاسْتَجَبْنا لَهُ ووَهَبْنا لَهُ يَحْيى﴾ . وظاهِرُ قَوْلِهِ جَلَّ شَأْنُهُ في مَرْيَمَ: ﴿إنّا نُبَشِّرُكَ﴾ اِعْتِقابُ التَّبْشِيرِ الدُّعاءَ لا تَأخُّرُهُ عَنْهُ، وأثَرُ إنَّ بَيْنَ الدُّعاءِ والإجابَةِ أرْبَعِينَ سَنَةً لَمْ نَجِدْ لَهُ أثَرًا في ”الصِّحاحِ“، نَعَمْ رُبَّما تُشْعِرُ بَعْضُ الأخْبارِ المَوْقُوفَةِ أنَّ بَيْنَ الوِلادَةِ والتَّبْشِيرِ مُدَّةً كَما سَنُشِيرُ إلى ذَلِكَ قَرِيبًا إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى، والمُرادُ مِنَ المَلائِكَةِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ فَإنَّهُ المُنادِي وحْدَهُ كَما أخْرَجَهُ اِبْنُ جَرِيرٍ عَنِ اِبْنِ مَسْعُودٍ وذَكَرَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أبِي حَمّادٍ أنَّهُ كانَ يَقْرَأُ (فَناداهُ جِبْرِيلُ)، فالجَمْعُ هُنا مَجازٌ عَنِ الواحِدِ لِلتَّعْظِيمِ، أوْ يَكُونُ هَذا مِن إسْنادِ فِعْلِ البَعْضِ لِلْكُلِّ، وقِيلَ: الجَمْعُ فِيهِ مِثْلِهِ في قَوْلِكَ: فُلانٌ يَرْكَبُ الخَيْلَ ويَلْبَسُ الدِّيباجَ، واعْتُرِضَ بِأنَّ هَذا إنَّما يَصِحُّ إذا أُرِيدَ واحِدٌ لا بِعَيْنِهِ، وهَهُنا أُرِيدُ المُعَيَّنُ فَلَعَلَّ ما تَقَدَّمَ أوْلى بِالإرادَةِ، وقِيلَ: الجَمْعُ عَلى حالِهِ والمُنادِي كانَ جُمْلَةً مِنَ المَلائِكَةِ، وقَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ (فَنادِيَهُ) بِالإمالَةِ والتَّذْكِيرِ. وأخْرَجَ اِبْنُ المُنْذِرِ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ اِبْنِ مَسْعُودٍ أنَّهُ قالَ: ذَكَرُوا المَلائِكَةَ ثُمَّ تَلا ﴿إنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ المَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنْثى﴾ وكانَ يَقْرَأُها فَناداهُ المَلائِكَةُ ويُذَكِّرُ في جَمِيعِ القُرْآنِ، وأخْرَجَ الخَطِيبُ عَنْهُ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ كانَ يَقْرَأُ كَذَلِكَ. ﴿وهُوَ قائِمٌ﴾ جُمْلَةٌ حالِيَّةٌ مِن مَفْعُولِ النِّداءِ مُقَرِّرَةٌ لِما أشارَتْ إلَيْهِ الفاءُ عَلى ما أشَرْنا إلَيْهِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿يُصَلِّي﴾ حالٌ مِنَ المُسْتَكِنِّ في ﴿قائِمٌ﴾ أوْ حالٌ أُخْرى مِنَ المَفْعُولِ عَلى القَوْلِ بِجَوازِ تَعَدُّدِها مِن غَيْرِ عَطْفٍ ولا بَدَلِيَّةٍ، أوْ خَبَرٌ ثانٍ لِلْمُبْتَدَأِ عَلى رَأْيِ مَن يَرى مِثْلَ ذَلِكَ، وقِيلَ: الجُمْلَةُ صِفَةٌ لِقائِمٍ والمُرادُ بِالصَّلاةِ ذاتُ الأقْوالِ والأفْعالِ كَما هو الظّاهِرُ وعَلَيْهِ أكْثَرُ المُفَسِّرِينَ، وأخْرَجَ اِبْنُ المُنْذِرِ عَنْ ثابِتٍ، قالَ: الصَّلاةُ خِدْمَةُ اللَّهِ تَعالى في الأرْضِ، ولَوْ عَلِمَ اللَّهُ تَعالى شَيْئًا أفْضَلَ مِنَ الصَّلاةِ ما قالَ: ﴿فَنادَتْهُ المَلائِكَةُ وهو قائِمٌ يُصَلِّي﴾، وقِيلَ: المُرادُ بِها الدُّعاءُ والأوَّلُ يَدُلُّ عَلى مَشْرُوعِيَّةِ الصَّلاةِ في شَرِيعَتِهِمْ ﴿فِي المِحْرابِ﴾ أيْ في المَسْجِدِ، أوْ في مَوْقِفِ الإمامِ مِنهُ، أوْ في غُرْفَةِ مَرْيَمَ، والظَّرْفُ مُتَعَلِّقٌ (p-146)بِ (يُصَلِّي) أوْ بِ (قائِمٌ) عَلى تَقْدِيرِ كَوْنِ ﴿يُصَلِّي﴾ حالًا مِن ضَمِيرِ ﴿قائِمٌ﴾ لِأنَّ العامِلَ فِيهِ وفي الحالِ شَيْءٌ واحِدٌ فَلا يَلْزَمُ الفَصْلُ بِالأجْنَبِيِّ كَما يَلْزَمُ عَلى التَّقادِيرِ الباقِيَةِ، كَذا قالُوا: واَلَّذِي يَظْهَرُ أنَّ المَسْألَةَ مِن بابِ التَّنازُعِ فَإنَّ كُلًّا مِن ﴿قائِمٌ﴾ و﴿يُصَلِّي﴾ يَصِحُّ أنْ يَتَسَلَّطَ عَلى ﴿فِي المِحْرابِ﴾ عَلى أيِّ وجْهٍ تَقَدَّمَ مِن وُجُوهِ الإعْرابِ، فَتَدَبَّرْ. ثُمَّ اِعْلَمْ أنَّ الصَّلاةَ في المَحارِيبِ المَشْهُورَةِ المَوْجُودَةِ الآنَ في مَساجِدِ المُسْلِمِينَ قَدْ كَرِهَها جَماعَةٌ مِنَ الأئِمَّةِ وإلى ذَلِكَ ذَهَبَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وجْهَهُ وإبْراهِيمُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيما أخْرَجَهُ عَنْهُما اِبْنُ أبِي شَيْبَةَ وهي مِنَ البِدَعِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ في العَصْرِ الأوَّلِ، فَعَنْ أبِي مُوسى الجُهَنِيِّ، قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لا يَزالُ أُمَّتِي بِخَيْرٍ ما لَمْ يَتَّخِذُوا في مَساجِدِهِمْ مَذابِحَ كَمَذابِحِ النَّصارى ”،» وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي الجَعْدِ قالَ: «كانَ أصْحابُ مُحَمَّدٍ ﷺ يَقُولُونَ: إنَّ مِن أشْراطِ السّاعَةِ أنْ تُتَّخَذَ المَذابِحُ في المَساجِدِ»، وعَنِ اِبْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «“ اِتَّقُوا هَذِهِ المَذابِحَ» يَعْنِي المَحارِيبَ، والرِّواياتُ في ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، ولِلْإمامِ السُّيُوطِيُّ «رِسالَةً» مُسْتَقِلَّةً فِيها. ﴿أنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى﴾ أيْ بِأنَّ اللَّهَ، وبَعْدَ إسْقاطِ حَرْفِ الجَرِّ المُطَّرِدِ في أنَّ، وإنْ يَجُوزَ في المُنْسَبِكِ اِعْتِبارُ النَّصْبِ واعْتِبارُ الجَرِّ، والأوَّلُ: مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ، والثّانِي: مَذْهَبُ الخَلِيلِ، وقَرَأ نافِعٌ وابْنُ عامِرٍ بِكَسْرِ هَمْزَةِ (إنَّ) وخُرِّجَ عَلى إضْمارِ القَوْلِ، وهو مَذْهَبُ البَصْرِيِّينَ، أوْ عَلى إجْراءِ النِّداءِ مَجْرى القَوْلِ لِأنَّهُ نَوْعٌ مِنهُ وهو مَذْهَبُ الكُوفِيِّينَ، وقَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ (يُبْشِرُكَ) مِنَ الإبْشارِ، وقَرَأ (يَبْشُرُكَ) مِنَ الثُّلاثِيِّ، وأخْرَجَ اِبْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُعاذٍ الكُوفِيِّ قالَ: مَن قَرَأ (يُبَشِّرُ) مُثْقَلَةً فَإنَّهُ مِنَ البِشارَةِ، ومَن قَرَأ (يَبْشُرُ) مُخَفَّفَةً بِنَصْبِ الياءِ فَإنَّهُ مِنَ السُّرُورِ. ويَحْيى اِسْمٌ أعْجَمِيٌّ عَلى الصَّحِيحِ، وقِيلَ: عَرَبِيٌّ مَنقُولٌ مِنَ الفِعْلِ، والمانِعُ لَهُ مِنَ الصَّرْفِ عَلى الأوَّلِ العَلَمِيَّةُ والعُجْمَةُ، وعَلى الثّانِي العَلَمِيَّةُ ووَزْنُ الفِعْلِ، والقَوْلُ بِأنَّهُ لا قاطِعَ لِمَنعِ صَرْفِهِ لِاحْتِمالِ أنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا يَجْعَلُ العَلَمَ جُمْلَةً بِأنْ يَكُونَ فِيهِ ضَمِيرٌ كَما في قَوْلِهِ: ؎نُبِّئْتُ أخْوالِي بَنِي يَزِيدَ لَيْسَ بِشَيْءٍ لِما في ذَلِكَ الِاحْتِمالِ مِنَ التَّكَلُّفِ المُسْتَغْنى عَنْهُ ما يَكادُ يَكُونُ دَلِيلًا قَطْعِيًّا لِلْقِطْعِ، والقائِلُونَ بِعَرَبِيَّتِهِ مِنهم مَن وجَّهَ تَسْمِيَتَهُ بِذَلِكَ بِأنَّ اللَّهَ تَعالى أحْيا بِهِ عُقْرَ أُمِّهِ، ورُوِيَ عَنِ اِبْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما، ومِنهم مَن وجَّهَ ذَلِكَ بِأنَّ اللَّهَ تَعالى أحْيا قَلْبَهُ بِالإيمانِ، ورُوِيَ عَنْ قَتادَةَ، وقِيلَ: سُمِّيَ بِيَحْيى لِأنَّهُ عَلَّمَ اللَّهُ سُبْحانَهُ أنْ يَسْتَشْهِدَ والشُّهَداءُ أحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، وقِيلَ: لِأنَّهُ يَحْيا بِالعِلْمِ والحِكْمَةِ اللَّتَيْنِ يُؤْتاهُما، وقِيلَ: لِأنَّ اللَّهَ يُحْيِي بِهِ النّاسَ بِالهُدى، قالَ القُرْطُبِيُّ: ((كانَ اِسْمُهُ في الكِتابِ الأوَّلِ حَيًّا))، ورَأيْتُ في «إنْجِيلِ مَتّى» أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ يُدْعى يُوحَنّا المُعَمِّدانِيَّ لِما أنَّهُ كانَ يُعَمِّدُ النّاسَ في زَمانِهِ عَلى ما يَحْكِيهِ «كُتُبُ النَّصارى». وجَمْعُ يَحْيى يَحْيُونَ رَفْعًا ويَحْيِينَ جَرًّا ونَصْبًا، وتَثْنِيَتُهُ كَذَلِكَ يَحْيَيانِ ويَحْيَيَيْنِ، ويُقالُ في النَّسَبِ إلَيْهِ يَحْيِيٌّ بِحَذْفِ الألِفِ ويَحْيَوِيٌّ بِقَلْبِها واوًا ويَحْياوِيٌّ بِزِيادَةِ ألْفٍ قَبْلَ الواوِ المُنْقَلِبَةِ عَنِ الألِفِ الأصْلِيَّةِ، وفي تَصْغِيرِهِ يُحَيِّىٌ، بِوَزْنِ فُعَيْعِلٍ قالَ مَوْلانا شَيْخُ الإسْلامِ: ويَنْبَغِي أنَّ يَكُونَ هَذا الكَلامُ إلى آخِرِهِ مَحْكِيًّا بِعِبارَةٍ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ عَلى مِنهاجِ ﴿قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أسْرَفُوا عَلى أنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَحْمَةِ اللَّهِ﴾ الآيَةَ، كَما يُلَوِّحُ بِهِ مُراجَعَتُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ في الجَوابِ إلَيْهِ تَعالى بِالذّاتِ لا بِواسِطَةِ المَلَكِ، والعُدُولُ عَنْ إسْنادِ التَّبْشِيرِ بِنُونِ العَظَمَةِ حَسْبَما وقَعَ في سُورَةِ مَرْيَمَ لِلْجَرْيِ عَلى سُنَنِ الكِبْرِياءِ، كَما في قَوْلِ الخُلَفاءِ: أمِيرُ المُؤْمِنِينَ يَرْسُمُ لَكَ كَذا، ولِلْإيذانِ بِأنَّ ما حُكِيَ هُناكَ مِنَ النِّداءِ والتَّبْشِيرِ وما يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ المُحاوَرَةِ كانَ كُلُّ ذَلِكَ بِواسِطَةِ المَلَكِ بِطَرِيقِ الحِكايَةِ مِنهُ سُبْحانَهُ لا بِالذّاتِ كَما هو المُتَبادِرُ وبِهَذا يَتَّضِحُ اِتِّحادُ المَعْنى في السُّورَتَيْنِ الكَرِيمَتَيْنِ، فَتَأمَّلِ، اِنْتَهى. (p-147) وكانَ الدّاعِي إلى اِعْتِبارِ ما هُنا مَحْكِيًّا بِعِبارَةٍ مِنَ اللَّهِ تَعالى ظُهُورُ عَدَمِ صِحَّةِ كَوْنِ ما في سُورَةِ مَرْيَمَ مِن عِبارَةِ المَلَكِ غَيْرَ مَحْكِيٍّ مِنَ اللَّهِ تَعالى، وأنَّ الظّاهِرَ اِتِّحادُ الدُّعاءَيْنِ وإلّا فَما هُنا مِمّا لا يَجِبُ حَمْلُهُ عَلى ما ذُكِرَ لَوْلا ذَلِكَ، والمُلَوَّحُ غَيْرُ مُوجَبٍ كَما لا يَخْفى ولا بُدَّ في المَوْضِعَيْنِ مِن تَقْدِيرِ مُضافٍ كالوِلادَةِ إذِ التَّبْشِيرُ لا يَتَعَلَّقُ بِالأعْيانِ، ويَؤُولُ في المَعْنى إلى ما هُناكَ، أيْ إنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِوِلادَةِ غُلامٍ اِسْمُهُ يَحْيى. ﴿مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ﴾ نُصِبَ عَلى الحالِ المُقَدَّرَةِ مِن (يَحْيى)، والمُرادُ بِالكَلِمَةِ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ وهو المَرْوِيُّ عَنِ اِبْنِ عَبّاسٍ ومُجاهِدٍ وقَتادَةَ وعَلَيْهِ أجِلَّةُ المُفَسِّرِينَ، وإنَّما سُمِّيَ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ بِذَلِكَ لِأنَّهُ وُجِدَ بِكَلِمَةِ كُنْ مِن دُونِ تَوَسُّطِ سَبَبٍ عادِيٍّ فَشابَهَ البَدِيعِيّاتِ الَّتِي هي عالَمُ الأمْرِ، و(مِن) لِابْتِداءِ الغايَةِ مَجازًا مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ وقَعَ صِفَةً لِكَلِمَةٍ أيْ بِكَلِمَةٍ كائِنَةٍ مِنهُ تَعالى، وأُرِيدُ بِهَذا التَّصْدِيقِ الإيمانُ وهو أوَّلُ مَن آمَنَ بِعِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ وصَدَّقَ أنَّهُ كَلِمَةُ اللَّهِ تَعالى ورُوحٌ مِنهُ في المَشْهُورِ. أخْرَجَ أحْمَدُ عَنْ مُجاهِدٍ، قالَ: «قالَتِ اِمْرَأةُ زَكَرِيّا لِمَرْيَمَ: إنِّي أجِدُ الَّذِي في بَطْنِي يَتَحَرَّكُ لِلَّذِي في بَطْنِكَ». وأخْرَجَ اِبْنُ جَرِيرٍ مِن طَرِيقِ اِبْنِ جُرَيْجٍ عَنِ اِبْنِ عَبّاسٍ قالَ: «كانَ يَحْيى وعِيسى اِبْنَيْ خالَةٍ وكانَتْ أُمُّ يَحْيى تَقُولُ لِمَرْيَمَ إنِّي أجِدُ الَّذِي في بَطْنِي يَسْجُدُ لِلَّذِي في بَطْنِكَ»، فَذَلِكَ تَصْدِيقُهُ لَهُ وكانَ أكْبَرَ مِن عِيسى بِسِتَّةِ أشْهُرٍ، كَما قالَ الضَّحّاكُ وغَيْرُهُ، وقِيلَ: بِثَلاثِ سِنِينَ، قِيلَ: وعَلى كُلِّ تَقْدِيرٍ يَكُونُ بَيْنَ ولّادَةِ يَحْيى وبَيْنَ البِشارَةِ بِها زَمانٌ مَدِيدٌ لِأنَّ مَرْيَمَ ولَدَتْ وهي بِنْتُ ثَلاثَ عَشْرَةَ سَنَةً أوْ بِنْتُ عَشْرِ سِنِينَ، واعْتُرِضَ بِأنَّ هَذا إنَّما يَتِمُّ لَوْ كانَ دُعاءُ زَكَرِيّا عَلَيْهِ السَّلامُ زَمَنَ طُفُولِيَّةِ مَرْيَمَ قَبْلَ العَشْرِ أوِ الثَّلاثَ عَشْرَةَ، ولَيْسَ في الآيَةِ سِوى ما يُشْعِرُ بِأنَّ زَكَرِيّا عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا تَكَرَّرَ مِنهُ الدُّخُولُ عَلى مَرْيَمَ ومُشاهَدَتُهُ الرِّزْقَ لَدَيْها وسُؤالُهُ لَها وسَماعُهُ مِنها ذَلِكَ الجَوابَ اِشْتاقَ إلى الوَلَدِ فَدَعا بِما دَعا، وهَذا الدُّعاءُ كَما يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ في مَبادِئِ الأمْرِ يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ في أواخِرِهِ قُبَيْلَ حَمْلِ مَرْيَمَ، وكَوْنُهُ في الأواخِرِ غَيْرَ بَعِيدٍ لِما أنَّ الرَّغْبَةَ حِينَئِذٍ أوْفَرُ حَيْثُ شاهَدَ عَلَيْهِ السَّلامُ دَوامَ الأمْرِ وثَباتَهُ زَمَنَ الطُّفُولِيَّةِ وبَعْدَها، وهَذا قَلَّما يُوجَدُ في الأطْفالِ إذِ الكَثِيرُ مِنهم قَدْ يُلْقِي اللَّهُ تَعالى عَلى لِسانِهِ في صِغَرِهِ ما قَدْ يَكُونُ عَنْهُ بِمَراحِلَ في كِبَرِهِ، فَلَيْسَ عِنْدَنا ما يَدُلُّ صَرِيحًا عَلى أنَّ بَيْنَ الوِلادَةِ والتَّبْشِيرِ مُدَّةً مَدِيدَةً ولا بَيْنَ الدُّعاءِ والتَّبْشِيرِ أيْضًا، نَعَمْ عِنْدَنا ما يَدُلُّ عَلى أنَّ يَحْيى أكْبَرُ مِن عِيسى عَلَيْهِما السَّلامُ وهو مِمّا اِتَّفَقَ عَلَيْهِ المُسْلِمُونَ وغَيْرُهُمْ، فَفي «إنْجِيلِ مَتّى» ما يُصَرِّحُ بِأنَّهُ وُلِدَ قَبْلَهُ وقَتَلَهُ هِيرْدُوسُ قَبْلَ رَفْعِهِ وأنَّهُ عَمَّدَ المَسِيحَ واَللَّهُ تَعالى أعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الحالِ. وحُكِيَ عَنْ أبِي عُبَيْدَةَ أنَّ مَعْنى ﴿بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ﴾ بِكِتابٍ مِنهُ، والمُرادُ بِهِ الإنْجِيلُ وإطْلاقُ الكَلِمَةِ عَلَيْهِ كَإطْلاقِها عَلى القَصِيدَةِ في قَوْلِهِمْ كَلِمَةُ الحُوَيْدِرَةِ لِلْعَيْنِيَّةِ المَعْرُوفَةِ بِالبَلاغَةِ. ﴿وسَيِّدًا﴾ عَطْفٌ عَلى (مُصَدِّقًا)، وفَسَّرَهُ اِبْنُ عَبّاسٍ بِالكَرِيمِ، وقَتادَةُ بِالحَلِيمِ، والضَّحّاكُ بِالحَسَنِ الخُلُقِ، وسالِمٌ بِالتَّقِيِّ، وابْنُ زَيْدٍ بِالشَّرِيفِ، وابْنُ المُسَيِّبِ بِالفَقِيهِ العالِمِ، وأحْمَدُ بْنُ عاصِمٍ بِالرّاضِي بِقَضاءِ اللَّهِ تَعالى، والخَلِيلُ بِالمُطاعِ الفائِقِ أقْرانَهُ، وأبُو بَكْرٍ الوَرّاقُ بِالمُتَوَكِّلِ، واَلتِّرْمِذِيُّ بِالعَظِيمِ الهِمَّةِ، والثَّوْرِيُّ بِمَن لا يَحْسُدُ، وأبُو إسْحَقَ بِمَن يَفُوقُ بِالخَيْرِ قَوْمَهُ، وبَعْضُ أهْلِ اللُّغَةِ بِالمالِكِ الَّذِي تَجِبُ طاعَتُهُ، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأقْوالِ، وكُلُّ ما فِيها مِنَ الأوْصافِ مِمّا يَصْلُحُ لِيَحْيى عَلَيْهِ السَّلامُ لِأنَّها صِفاتُ كَمالٍ، وأحَقُّ النّاسِ بِصِفاتِ الكَمالِ النَّبِيُّونَ إلّا أنَّ التَّحْقِيقَ أنَّ أصْلَ مَعْنى السَّيِّدِ مَن يَسُودُ قَوْمَهُ يَكُونُ لَهُ أتْباعٌ ثُمَّ أُطْلِقَ عَلى كُلِّ فائِقٍ في دِينٍ أوْ دُنْيا، ويَجُوزُ أنْ يُرادَ بِهِ هُنا الفائِقُ في الدِّينِ حَيْثُ إنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمْ يَهُمَّ بِمَعْصِيَةٍ أصْلًا كَما ورَدَ ذَلِكَ مِن طُرُقٍ عَدِيدَةٍ. (p-148) وأخْرَجَ اِبْنُ أبِي حاتِمٍ وابْنُ عَساكِرَ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «كُلُّ اِبْنِ آدَمَ يَلْقى اللَّهَ بِذَنْبٍ قَدْ أذْنَبَهُ يُعَذِّبُهُ عَلَيْهِ إنْ شاءَ أوْ يَرْحَمُهُ إلّا يَحْيى بْنَ زَكَرِيّا»، وجُوِّزَ أنْ يُرادَ ما هو أصْلُ مَعْناهُ فَإنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ سَيِّدَ قَوْمِهِ ولَهُ أتْباعٌ مِنهُمْ، غايَةُ الأمْرِ أنَّ تِلْكَ رِياسَةٌ شَرْعِيَّةٌ، والإتْيانُ بِهِ إثْرَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿مُصَدِّقًا﴾ لِلْإشارَةِ إلى أنَّهُ نَبِيٌّ كَعِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ ولَيْسَ مِن أُمَّتِهِ كَما يُفْهِمُهُ ظاهِرًا قَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ﴾ . ﴿وحَصُورًا﴾ عَطْفٌ عَلى ما قَبْلَهُ، ومَعْناهُ الَّذِي لا يَأْتِي النِّساءَ مَعَ القُدْرَةِ عَلى ذَلِكَ، قالَهُ اِبْنُ عَبّاسٍ في إحْدى الرِّواياتِ عَنْهُ، وفي بَعْضِها إنَّهُ العِنِّينُ الَّذِي لا ذَكَرَ لَهُ يَتَأتّى بِهِ النِّكاحَ ولا يُنْزِلُ، ورَوى الحُفّاظُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنَّ ما مَعَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ كالأُنْمُلَةِ، وفي بَعْضِ الرِّواياتِ كالقَذاةِ، وفي أُخْرى كالنَّواةِ، وفي بَعْضٍ كَهُدْبَةِ الثَّوْبِ، قِيلَ: والأصَحُّ الأوَّلُ إذِ العُنَّةُ عَيْبٌ لا يَجُوزُ عَلى الأنْبِياءِ، وبِتَسْلِيمِ أنَّها لَيْسَتْ بِعَيْبٍ فَلا أقَلَّ أنَّها لَيْسَتْ بِصِفَةِ مَدْحٍ، والكَلامُ مَخْرِجُ المَدْحِ، وما أخْرَجَهُ الحافِظُ عَلى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ يُمْكِنُ أنْ يُقالَ: إنَّهُ مِن بابِ التَّمْثِيلِ، والإشارَةُ إلى عَدَمِ اِنْتِفاعِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ بِما عِنْدَهُ لِعَدَمِ مَيْلِهِ لِلنِّكاحِ لِما أنَّهُ في شُغْلٍ شاغِلٍ عَنْ ذَلِكَ، ومِن هُنا قِيلَ: إنَّ التَّبَتُّلَ لِنَوافِلِ العِباداتِ أفْضَلُ مِنَ الِاشْتِغالِ بِالنِّكاحِ اِسْتِدْلالًا بِحالِ يَحْيى عَلَيْهِ السَّلامُ، ومَن ذَهَبَ إلى خِلافِهِ اِحْتَجَّ بِما أخْرَجَهُ الطَّبَرانِيُّ عَنْ أبِي أُمامَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «”أرْبَعَةٌ لُعِنُوا في الدُّنْيا والآخِرَةِ وأمَّنَتِ المَلائِكَةُ، رَجُلٌ جَعَلَهُ اللَّهُ تَعالى ذَكَرًا فَأنَّثَ نَفْسَهُ وتَشَبَّهَ بِالنِّساءِ، واِمْرَأةٌ جَعَلَها اللَّهُ تَعالى أُنْثى فَتَذَكَّرَتْ وتَشَبَّهَتْ بِالرِّجالِ، واَلَّذِي يَضِلُّ الأعْمى، ورَجُلٌ حَصُورٌ ولَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ تَعالى حَصُورًا إلّا يَحْيى بْنَ زَكَرِيّا“،» وفي رِوايَةٍ ««لَعَنَ اللَّهُ تَعالى والمَلائِكَةُ رَجُلًا تَحَصَّرَ بَعْدَ يَحْيى بْنِ زَكَرِيّا»،» ويَجُوزُ أنْ يُرادَ بِالحَصُورِ المُبالَغُ في حَصْرِ النَّفْسِ وحَبْسِها عَنِ الشَّهَواتِ مَعَ القُدْرَةِ، وقَدْ كانَ حالُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ أيْضًا كَذَلِكَ. أخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ عَنْ قَتادَةَ مَوْقُوفًا وابْنُ عَساكِرَ عَنْ مُعاذِ بْنِ جَبَلٍ مَرْفُوعًا: «”أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ مَرَّ في صِباهُ بِصِبْيانٍ يَلْعَبُونَ فَدَعُوهُ إلى اللَّعِبِ فَقالَ: ما لِلَّعِبِ خُلِقْتُ“». ﴿ونَبِيًّا﴾ عَطْفٌ عَلى ما قَبْلَهُ مُتَرَتِّبٌ عَلى ما عُدِّدَ مِنَ الخِصالِ الحَمِيدَةِ ﴿مِنَ الصّالِحِينَ﴾ [ 39 ] أيْ ناشِئًا مِنهم أوْ مَعْدُودًا في عِدادِهِمْ فَ (مِن) عَلى الأوَّلِ لِلِابْتِداءِ، وعَلى الثّانِي لِلتَّبْعِيضِ، قِيلَ: ومَعْناهُ عَلى الأوَّلِ ذُو نَسَبٍ، وعَلى الثّانِي مَعْصُومٌ، وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ لا يَلْغُو ذِكْرُهُ بَعْدَ (نَبِيًّا)، وقَدْ يُقالُ: المُرادُ مِنَ الصَّلاحِ ما فَوْقَ الصَّلاحِ الَّذِي لا بُدَّ مِنهُ في مَنصِبِ النُّبُوَّةِ البَتَّةَ مِن أقاصِي مَراتِبِهِ وعَلَيْهِ مَبْنى دُعاءِ سُلَيْمانَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿وأدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ في عِبادِكَ الصّالِحِينَ﴾ ولَعَلَّهُ أوْلى مِمّا قَبْلُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب