الباحث القرآني
﴿قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فاتَّبِعُونِي﴾ ذَهَبَ عامَّةُ المُتَكَلِّمِينَ إلى أنَّ المَحَبَّةَ نَوْعٌ مِنَ الإرادَةِ وهي لا تَتَعَلَّقُ حَقِيقَةً إلّا بِالمَعانِي والمَنافِعِ فَيَسْتَحِيلُ تَعَلُّقُها بِذاتِهِ تَعالى وصِفاتِهِ فَهي هُنا بِمَعْنى إرادَةِ العَبْدِ اِخْتِصاصَهُ تَعالى بِالعِبادَةِ وذَلِكَ إمّا مِن بابِ إطْلاقِ المَلْزُومِ وإرادَةِ اللّازِمِ أوْ مِن بابِ الِاسْتِعارَةِ التَّبَعِيَّةِ بِأنْ شَبَّهَ إرادَةَ العَبْدِ ذَلِكَ ورَغْبَتَهُ فِيهِ بِمَيْلِ قَلْبِ المُحِبِّ إلى المَحْبُوبِ مَيْلًا لا يُلْتَفَتُ مَعَهُ إلّا إلَيْهِ أوْ مِن بابِ مَجازِ النَّقْصِ أيْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ طاعَةَ اللَّهِ تَعالى أوْ ثَوابَهُ فاتَّبَعُونِي فِيما آمُرُكم بِهِ وأنْهاكم عَنْهُ كَذا قِيلَ، وهو خِلافُ مَذْهَبِ العارِفِينَ مِن أهْلِ السُّنَّةِ والجَماعَةِ فَإنَّهم قالُوا: المَحَبَّةُ تَتَعَلَّقُ حَقِيقَةً بِذاتِ اللَّهِ تَعالى ويَنْبَغِي لِلْكامِلِ أنْ يُحِبَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ لِذاتِهِ وأمّا مَحَبَّةُ ثَوابِهِ فَدَرَجَةٌ نازِلَةٌ، قالَ الغَزالِيُّ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ في «اَلْإحْياءِ»: ((اَلْحُبُّ عِبارَةٌ عَنْ مَيْلِ الطَّبْعِ إلى الشَّيْءِ المُلِذِّ فَإنْ تَأكَّدَ ذَلِكَ المَيْلُ وقَوِيَ يُسَمّى عِشْقًا، والبُغْضُ عِبارَةٌ عَنْ نَفْرَةِ الطَّبْعِ عَنِ المُؤْلِمِ المُتْعِبِ فَإذا قَوِيَ سُمِّيَ مَقْتًا، ولا يُظَنَّ أنَّ الحُبَّ مَقْصُورٌ عَلى مُدْرَكاتِ الحَواسِّ الخَمْسِ حَتّى يُقالَ: إنَّهُ سُبْحانَهُ لا يُدْرِكُ بِالحَواسِّ ولا يَتَمَثَّلُ بِالخَيالِ فَلا يُحِبُّ، لِأنَّهُ ﷺ سَمّى الصَّلاةَ قُرَّةَ عَيْنٍ وجَعَلَها أبْلَغَ المَحْبُوباتِ، ومَعْلُومٌ أنَّهُ لَيْسَ لِلْحَواسِّ الخَمْسِ فِيها حَظٌّ بَلْ حِسٌّ سادِسٌ مَظِنَّتُهُ القَلْبُ والبَصِيرَةُ الباطِنَةُ أقْوى مِنَ البَصَرِ الظّاهِرِ، والقَلْبُ أشَدُّ إدْراكًا مِنَ العَيْنِ وجَمالُ المَعانِي المُدْرَكَةِ بِالعَقْلِ أعْظَمُ مِن جَمالِ الصُّوَرِ الظّاهِرَةِ لِلْأبْصارِ، فَتَكُونُ لا مَحالَةَ لَذَّةُ القُلُوبِ بِما تُدْرِكُهُ مِنَ الأُمُورِ الشَّرِيفَةِ الإلَهِيَّةِ الَّتِي تَجِلُّ أنْ تُدْرِكَها الحَواسُّ أتَمَّ وأبْلَغَ فَيَكُونُ مَيْلُ الطَّبْعِ السَّلِيمِ والعَقْلِ الصَّحِيحِ إلَيْهِ أقْوى، ولا مَعْنى لِلْحُبِّ إلّا المَيْلُ إلى ما في إدْراكِهِ لَذَّةٌ فَلا يُنْكِرُ إذًا حُبَّ اللَّهِ تَعالى إلّا مَن قَعَدَ بِهِ القُصُورُ في دَرَجِ البَهائِمِ فَلَمْ يُجِزْ إدْراكَهُ الحَواسَّ أصْلًا))، نَعَمْ هَذا الحُبُّ يَسْتَلْزِمُ الطّاعَةَ كَما قالَ الوَرّاقُ:
؎تَعْصِي الإلَهَ وأنْتَ تُظْهِرُ حُبَّهُ هَذا لَعَمْرِي في القِياسِ بَدِيعُ
؎لَوْ كانَ حُبُّكَ صادِقًا لَأطَعْتَهُ ∗∗∗ إنَّ المُحِبَّ لِمَن يُحِبُّ مُطِيعُ
والقَوْلُ بِأنَّ المَحَبَّةَ تَقْتَضِي الجِنْسِيَّةَ بَيْنَ المُحِبِّ والمَحْبُوبِ فَلا يُمْكِنُ أنْ تَتَعَلَّقَ بِاَللَّهِ تَعالى ساقِطٌ مِنَ القَوْلِ لِأنَّها قَدْ تَتَعَلَّقُ بِالأعْراضِ بِلا شُبْهَةٍ ولا جِنْسِيَّةٍ بَيْنَ العَرَضِ والجَوْهَرِ.
﴿يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ جَوابُ الأمْرِ وهو رَأْيُ الخَلِيلِ، وأكْثَرُ المُتَأخِّرِينَ عَلى أنَّ مِثْلَ ذَلِكَ جَوابُ شَرْطٍ مُقَدَّرٌ، أيْ إنْ تَتْبَعُونِي يُحْبِبْكم أيْ يُقَرِّبْكُمْ، رَواهُ اِبْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ سُفْيانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وقِيلَ: يَرْضَ عَنْكُمْ، وعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالمَحَبَّةِ عَلى طَرِيقِ المَجازِ المُرْسَلِ أوِ الِاسْتِعارَةِ أوِ المُشاكَلَةِ، وجَعَلَ بَعْضُهم نِسْبَةَ المُحِبَّةِ لِلَّهِ تَعالى مِنَ المُتَشابِهِ الَّذِي لا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلّا اللَّهُ تَعالى.
﴿ويَغْفِرْ لَكم ذُنُوبَكُمْ﴾ أيْ يَتَجاوَزُ لَكم عَنْها ﴿واللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [ 31 ] أيْ لِمَن تَحَبَّبَ إلَيْهِ بِطاعَتِهِ وتَقَرَّبَ إلَيْهِ بِاتِّباعِ نَبِيِّهِ ﷺ، والجُمْلَةُ تَذْيِيلٌ مُقَرِّرٌ لِما سَبَقَ مَعَ زِيادَةِ وعْدِ الرَّحْمَةِ، ووَضْعُ الِاسْمِ الجَلِيلِ مَعَ الإضْمارِ لِما مَرَّ ولِلْإشْعارِ بِاسْتِتْباعِ وصْفِ الأُلُوهِيَّةِ لِلْمَغْفِرَةِ والرَّحْمَةِ، وقُرِئَ (تُحِبُّونِي)، و(يُحِبَّكُمْ)، و(يُحْبِبْكُمْ) مِن حَبَّهُ يُحِبُّهُ، ومِنهُ قَوْلُهُ:
؎أُحِبُّ أبا ثَرْوانَ مِن حُبِّ تَمْرِهِ ∗∗∗ وأعْلَمُ أنَّ الرِّفْقَ بِالجارِ أرْفَقُ
؎وواللَّهِ لَوْلا تَمْرُهُ ما حَبَبْتُهُ ∗∗∗ ولا كانَ أدْنى مِن عَبِيدٍ ومَشْرِقِ
(p-130)ومُناسَبَةُ الآيَةِ لِما قَبْلَها كَما قالَ الطِّيبِيُّ: أنَّهُ سُبْحانَهُ لَمّا عَظَّمَ ذاتَهُ وبَيَّنَ جَلالَةِ سُلْطانِهِ بِقَوْلِهِ جَلَّ وعَلا: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ المُلْكِ﴾ الخ تَعَلَّقَ قَلْبُ العَبْدِ المُؤْمِنِ بِمَوْلًى عَظِيمِ الشَّأْنِ ذِي المُلْكِ والمَلَكُوتِ والجَلالِ والجَبَرُوتِ، ثُمَّ لَمّا ثَنّى بِنَهْيِ المُؤْمِنِينَ عَنْ مُوالاةِ أعْدائِهِ وحَذَّرَ عَنْ ذَلِكَ غايَةَ التَّحْذِيرِ بِقَوْلِهِ عَزَّ قائِلًا: ﴿لا يَتَّخِذِ المُؤْمِنُونَ الكافِرِينَ أوْلِياءَ﴾ الخ؛ ونَبَّهَ عَلى اِسْتِئْصالِ تِلْكَ المُوالاةِ بِقَوْلِهِ عَزَّ شَأْنُهُ: ﴿إنْ تُخْفُوا ما في صُدُورِكم أوْ تُبْدُوهُ﴾ الآيَةَ، وأكَّدَ ذَلِكَ بِالوَعِيدِ الشَّدِيدِ زادَ ذَلِكَ التَّعَلُّقُ أقْصى غايَتَهُ فاسْتَأْنَفَ قَوْلَهُ جَلَّ جَلالُهُ: ﴿قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ﴾ لِيُشِيرَ إلى طَرِيقِ الوُصُولِ إلى هَذا المَوْلى جَلَّ وعَلا فَكَأنَّ قائِلًا يَقُولُ: بِأيِّ شَيْءٍ يُنالُ كَمالُ المُحِبَّةِ ومُوالاةُ الرَّبِّ؟ فَقِيلَ: بَعْدَ قَطْعِ مُوالاةِ أعْدائِنا تُنالُ تِلْكَ الدَّرَجَةُ بِالتَّوَجُّهِ إلى مُتابَعَةِ حَبِيبِنا إذْ كُلُّ طَرِيقٍ سِوى طَرِيقِهِ مَسْدُودٌ وكُلُّ عَمَلٍ سِوى ما أذِنَ بِهِ مَرْدُودٌ.
واخْتُلِفَ في سَبَبِ نُزُولِها فَقالَ الحَسَنُ وابْنُ جُرَيْجٍ: «زَعَمَ أقْوامٌ عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنَّهم يُحِبُّونَ اللَّهَ تَعالى فَقالُوا يا مُحَمَّدُ: إنّا نُحِبُّ رَبَّنا فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى هَذِهِ الآيَةَ،» ورَوى الضَّحّاكُ عَنِ اِبْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ قالَ: ««وقَفَ النَّبِيُّ ﷺ عَلى قُرَيْشٍ في المَسْجِدِ الحَرامِ وقَدْ نَصَبُوا أصْنامَهم وعَلَّقُوا عَلَيْها بَيْضَ النَّعامِ وجَعَلُوا في آذانِها الشُّنُوفُ وهم يَسْجُدُونَ لَها، فَقالَ يا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ لَقَدْ خالَفْتُمْ مِلَّةَ أبِيكم إبْراهِيمَ وإسْماعِيلَ، ولَقَدْ كانا عَلى الإسْلامِ، فَقالَتْ قُرَيْشٌ: يا مُحَمَّدُ إنَّما نَعْبُدُ هَذِهِ حُبًّا لِلَّهِ تَعالى لِتُقَرِّبَنا إلى اللَّهِ سُبْحانَهُ زُلْفى، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى: ﴿قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ﴾ الخ،» وفي رِوايَةِ أبِي صالِحٍ ««إنَّ اليَهُودَ لَمّا قالُوا: نَحْنُ أبْناءُ اللَّهِ وأحِبّاؤُهُ أنْزَلَ هَذِهِ الآيَةَ فَلَمّا نَزَلَتْ عَرَضَها رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلى اليَهُودِ فَأبَوْا أنْ يَقْبَلُوها»،» ورَوى مُحَمَّدُ بْنُ إسْحَقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ قالَ: «نَزَلَتْ في نَصارى نَجْرانَ وذَلِكَ أنَّهم قالُوا: إنَّما نُعَظِّمُ المَسِيحَ ونَعْبُدُهُ حُبًّا لِلَّهِ تَعالى وتَعْظِيمًا لَهُ فَأنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآيَةَ رَدًّا عَلَيْهِمْ»، يُرْوى أنَّها لَمّا نَزَلَتْ قالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ: إنَّ مُحَمَّدًا يَجْعَلُ طاعَتَهُ كَطاعَةِ اللَّهِ تَعالى ويَأْمُرُنا أنْ نُحِبَّهُ كَما أحَبَّ النَّصارى عِيسى فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعالى:
{"ayah":"قُلۡ إِن كُنتُمۡ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِی یُحۡبِبۡكُمُ ٱللَّهُ وَیَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡۚ وَٱللَّهُ غَفُورࣱ رَّحِیمࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











