الباحث القرآني
﴿ألَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الكِتابِ﴾ تَعْجِيبٌ لِلنَّبِيِّ ﷺ أوْ لِكُلِّ مَن يَتَأتّى مِنهُ الرُّؤْيَةُ مِن حالِ أهْلِ الكِتابِ وأنَّهم إذا عَضَّتْهُمُ الحُجَّةُ فَرُّوا إلى الضَّجَّةِ وأعْرَضُوا عَنِ المَحَجَّةِ، وفِيهِ تَقْرِيرٌ لِما سَبَقَ مِن أنَّ الِاخْتِلافَ إنَّما كانَ بَعْدَ مَجِيءِ العِلْمِ، وقِيلَ: إنَّهُ تَنْوِيرٌ لِنَفِيَ النّاصِرِ لَهم حَيْثُ يَصِيرُونَ مَغْلُوبِينَ عِنْدَ تَحْكِيمِ كِتابِهِمْ، والمُرادُ بِالمَوْصُولِ اليَهُودُ، وبِالنَّصِيبِ الحَظُّ، و(مِن) إمّا لِلتَّبْعِيضِ وإمّا لِلْبَيانِ عَلى مَعْنى (نَصِيبًا) هو الكِتابُ، أوْ نَصِيبًا مِنهُ لِأنَّ الوُصُولَ إلى كُنْهِ كَلامِهِ تَعالى مُتَعَذِّرٌ فَإنْ جُعِلَ بَيانًا كانَ المُرادُ إنْزالَ الكِتابِ عَلَيْهِمْ وإنْ جُعِلَ تَبْعِيضًا كانَ المُرادُ هِدايَتَهم إلى فَهْمِ ما فِيهِ، وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ اللّامُ في (اَلْكِتابِ) لِلْعَهْدِ، والمُرادُ بِهِ التَّوْراةُ - وهو المَرْوِيُّ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ السَّلَفِ - والتَّنْوِينُ لِلتَّكْثِيرِ.
وجُوِّزَ أنْ تَكُونَ اللّامُ في (اَلْكِتابِ) لِلْعَهْدِ والمُرادُ بِهِ اللَّوْحُ، وأنْ تَكُونَ لِلْجِنْسِ؛ وعَلَيْهِ -اَلنَّصِيبُ- التَّوْراةُ، و(مِن) لِلِابْتِداءِ في الأوَّلِ ويَحْتَمِلُها، والتَّبْعِيضُ في الثّانِي، والتَّنْوِينُ لِلتَّعْظِيمِ، ولَكَ أنْ تَجْعَلَهُ عَلى الوَجْهِ السّابِقِ أيْضًا كَذَلِكَ، وجُوِّزَ عَلى تَقْدِيرٍ أنْ يُرادَ -بِالنَّصِيبِ- ما حَصَلَ لَهم مِنَ العِلْمِ أنْ يَكُونَ التَّنْوِينُ لِلتَّحْقِيرِ، واعْتُرِضَ بِأنَّهُ لا يُساعِدُهُ مَقامُ المُبالِغَةِ في تَقْبِيحِ حالِهِمْ، وأُجِيبَ بِأنَّهُ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المَقْصُودُ تَعْيِيرَهم بِتَمَرُّدِهِمْ واسْتِكْبارِهِمْ بِالنَّصِيبِ الحَقِيرِ عَنْ مُتابَعَةِ مَن لَهُ عِلْمٌ لا يُوازِنُهُ عُلُومُ المُرْسَلِينَ كُلِّهِمْ، والتَّعْبِيرُ عَمّا أُوتُوهُ بِالنَّصِيبِ لِلْإشْعارِ بِكَمالِ اِخْتِصاصِهِ بِهِمْ وكَوْنِهِ حَقًّا مِن حُقُوقِهِمُ الَّتِي يَجِبُ مُراعاتُها والعَمَلُ بِمُوجِبِها.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿يُدْعَوْنَ إلى كِتابِ اللَّهِ﴾ إمّا جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ مُبَيِّنَةٌ لِمَحَلِّ التَّعْجِيبِ، وإمّا حالٌ مِنَ المَوْصُولِ، والمُرادُ بِكِتابِ اللَّهِ التَّوْراةُ، والإظْهارُ في مَقامِ الإضْمارِ لِإيجابِ الإجابَةِ، والإضافَةُ لِلتَّشْرِيفِ وتَأْكِيدِ وُجُوبِ المُراجَعَةِ، وإلى ذَلِكَ ذَهَبَ اِبْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ وغَيْرُهُ.
وقَدْ أخْرَجَ اِبْنُ إسْحَقَ وجَماعَةٌ عَنْهُ قالَ: «”دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَيْتَ المِدْراسِ عَلى جَماعَةٍ مِن يَهُودَ فَدَعاهم إلى اللَّهِ تَعالى فَقالَ النُّعْمانُ بْنُ عَمْرٍو والحَرَثُ بْنُ زَيْدٍ: عَلى أيِّ دِينٍ أنْتَ يا مُحَمَّدُ؟ قالَ: عَلى مِلَّةِ إبْراهِيمَ ودِينِهِ، قالا: فَإنَّ إبْراهِيمَ كانَ يَهُودِيًّا، فَقالَ لَهُما رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: فَهَلُمّا إلى التَّوْراةِ فَهي بَيْنَنا وبَيْنَكُمْ، فَأبَيا عَلَيْهِ فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى الآيَةَ“». وفي «اَلْبَحْرِ»: «”زَنى رَجُلٌ مِنَ اليَهُودِ بِاِمْرَأةٍ ولَمْ يَكُنْ بَعْدُ في دِينِنا الرَّجْمُ فَتَحاكَمُوا إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ تَخْفِيفًا عَلى الزّانِيَيْنِ لِشَرَفِهِما، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إنَّما (p-111)أحْكَمُ بِكِتابِكم فَأنْكَرُوا الرَّجْمَ فَجِيءَ بِالتَّوْراةِ فَوَضَعَ حَبْرَهُمُ اِبْنُ صُورِيّا يَدَهُ عَلى آيَةِ الرَّجْمِ، فَقالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ: جاوَزَها يا رَسُولَ اللَّهِ فَأظْهَرَها فَرُجِما فَغَضِبَتِ اليَهُودُ فَنَزَلَتْ“».
وهُوَ المَرْوِيُّ عَنِ اِبْنِ جُرَيْجٍ - وحُكِيَ عَنِ اِبْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ أيْضًا - وذَهَبَ الحَسَنُ وقَتادَةُ إلى أنَّ المُرادَ بِكِتابِ اللَّهِ تَعالى القُرْآنُ دَعَوْا إلَيْهِ لِأنَّ ما فِيهِ مُوافِقٌ لِما في التَّوْراةِ مِن أُصُولِ الدِّيانَةِ وأرْكانِ الشَّرِيعَةِ والصِّفَةِ الَّتِي تَقَدَّمَتِ البِشارَةُ بِها أوْ لِأنَّهم لا يَشُكُّونَ في أنَّهُ كِتابُ اللَّهِ تَعالى المُنَزَّلُ عَلى خاتَمِ رُسُلِهِ.
﴿لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ﴾ قِيلَ: أيْ لِيَفْصِلَ الحَقَّ مِنَ الباطِلِ بَيْنَ الَّذِينَ أُوتُوا -وهُمُ اليَهُودُ - وبَيْنَ الدّاعِي لَهم - وهو النَّبِيُّ ﷺ في أمْرِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، أوْ في حُكْمِ الرَّجْمِ، أوْ في شَأْنِ الإسْلامِ، أوْ بَيْنَ مَن أسْلَمَ مِنهم ومَن لَمْ يُسْلِمْ حَيْثُ وقَعَ بَيْنَهُمُ اِخْتِلافٌ في الدِّينِ الحَقِّ، وعَلى هَذا -وهُوَ المَرْضِيُّ عِنْدَ البَعْضِ وإنْ لَمْ يُوافِقْ سَبَبَ النُّزُولِ- ورُبَّما أُحْوِجَ إلى اِرْتِكابِ مَجازٍ في مَرْجِعِ الضَّمِيرِ لا يَتَعَيَّنُ أنْ يَكُونَ الدّاعِي رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، وقُرِئَ (لِيُحْكَمَ) عَلى البِناءِ لِلْمَفْعُولِ ونُسِبَ ذَلِكَ إلى أبِي حَنِيفَةَ.
﴿ثُمَّ يَتَوَلّى فَرِيقٌ مِنهُمْ﴾ عَطْفٌ عَلى (يُدْعَوْنَ)، و(ثُمَّ) لِلتَّراخِي الرُّتْبِيِّ، وفِيهِ اِسْتِبْعادُ تَوَلِّيهِمْ بَعْدَ عِلْمِهِمْ بِوُجُوبِ الرُّجُوعِ إلَيْهِ، و﴿مِنهُمْ﴾ صِفَةٌ لِفَرِيقٍ، ولَعَلَّ المُرادَ بِهَذا الفَرِيقِ أكْثَرُهم عِلْمًا لِيُعْلَمَ تَوَلِّي سائِرِهِمْ مِن بابِ الأوْلى، قِيلَ: وهَذا سَبَبُ العُدُولِ عَنْ -ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ- وقِيلَ: الَّذِينَ لَمْ يُسْلِمُوا، ووَجْهُ العُدُولِ عَلَيْهِ ظاهِرٌ، فَتَدَبَّرْ.
﴿وهم مُعْرِضُونَ﴾ [ 23 ] جُوِّزَ أنْ يَكُونَ صِفَةً مَعْطُوفَةً عَلى الصِّفَةِ قَبْلَها فالواوُ لِلْعَطْفِ، وأنْ تَكُونَ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ مِنَ الضَّمِيرِ المُسْتَكِنِّ في (مِنهُمْ) أوْ مِن (فَرِيقٌ) لِتَخْصِيصِهِ بِالصِّفَةِ، فالواوُ حِينَئِذٍ لِلْحالِ وهي إمّا مُؤَكِّدَةٌ لِأنَّ التَّوَلِّيَ والإعْراضَ بِمَعْنًى، وإمّا مُبَيِّنَةٌ لِاخْتِلافِ مُتَعَلِّقَيْهِما بِناءً عَلى ما قِيلَ: إنَّ التَّوَلِّيَ عَنِ الدّاعِي والإعْراضَ عَنِ المَدْعُوِّ إلَيْهِ أوِ التَّوَلِّيَ بِالبَدَنِ والإعْراضَ بِالقَلْبِ، أوِ الأوَّلُ كانَ مِنَ العُلَماءِ، والثّانِي مِن أتْباعِهِمْ، وجُوِّزَ أنْ لا يَكُونَ لَها مَحَلٍّ مِنَ الإعْرابِ بِأنْ تَكُونَ تَذْيِيلًا أوْ مُعْتَرِضَةً، والمُرادُ وهم قَوْمٌ دَيْدَنُهُمِ الإعْراضُ، وبَعْضُهم فَسَّرَ الجُمْلَةَ بِهَذا مَعَ اِعْتِبارِ الحالِيَّةِ ولَعَلَّهُ رَأى أنَّهُ لا يُمْنَعُ عَنْها.
{"ayah":"أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِینَ أُوتُوا۟ نَصِیبࣰا مِّنَ ٱلۡكِتَـٰبِ یُدۡعَوۡنَ إِلَىٰ كِتَـٰبِ ٱللَّهِ لِیَحۡكُمَ بَیۡنَهُمۡ ثُمَّ یَتَوَلَّىٰ فَرِیقࣱ مِّنۡهُمۡ وَهُم مُّعۡرِضُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق