الباحث القرآني

ثُمَّ إنَّهُ سُبْحانَهُ بَيَّنَ بَعْضَ أذِيّاتِ أهْلِ الكِتابِ بِقَوْلِهِ عَزَّ قائِلًا: ﴿وإذْ أخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ﴾ والمُرادُ بِهِمْ إمّا أحْبارُ اليَهُودِ خاصَّةً - وإلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ جُبَيْرٍ - وهو المَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ مِن طَرِيقِ عِكْرِمَةَ، وإمّا ما يَشْمَلُهم وأحْبارَ النَّصارى - وهو المَرْوِيُّ عَنْهُ مِن طَرِيقِ عَلْقَمَةَ - وإنَّما ذُكِرُوا بِعُنْوانِ إيتاءِ الكِتابِ مُبالَغَةً في تَقْبِيحِ حالِهِمْ، وقِيلَ: رَمْزًا إلى أنْ أخْذَ المِيثاقِ كانَ في كِتابِهِمُ الَّذِي أُوتُوهُ. ورَوى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ أنَّ أصْحابَ عَبْدِ اللَّهِ يَقْرَءُونَ: وإذْ أخَذَ رَبَّكُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِيثاقَهم. ﴿لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنّاسِ﴾ جَوابُ مِيثاقٍ لِتَضَمُّنِهِ مَعْنى القَسَمِ، والضَّمِيرُ لِلْكِتابِ أيْ بِاللَّهِ لَتُظْهِرُنَّ جَمِيعَ ما فِيهِ مِنَ الأحْكامِ والأخْبارِ الَّتِي مِن جُمْلَتِها أمْرُ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وهو المَقْصُودُ بِالحِكايَةِ، وظاهِرُ كَلامِ السُّدِّيِّ وابْنِ جُبَيْرٍ أنَّ الضَّمِيرَ لِمُحَمَّدٍ ﷺ وإنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِاسْمِهِ الشَّرِيفِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو وعاصِمٌ في رِوايَةِ ابْنِ عَيّاشٍ: لَيُبَيِّنُنَّهُ بِياءِ الغَيْبَةِ، وقَدْ قَرَّرَ عُلَماءُ العَرَبِيَّةِ أنَّكَ إذا أخْبَرْتَ عَنْ يَمِينِ حُلِفَ بِها فَلَكَ في ذَلِكَ ثَلاثَةُ أوْجُهٍ: أحُدُها: أنْ يَكُونَ بِلَفْظِ الغائِبِ كَأنَّكَ تُخْبِرُ عَنْ شَيْءٍ كَأنْ تَقُولَ: اسْتَحْلَفْتُهُ لَيَقُومَنَّ. الثّانِي: أنْ تَأْتِيَ بِلَفْظِ الحاضِرِ تُرِيدُ اللَّفْظَ الَّذِي قِيلَ لَهُ فَتَقُولُ: اسْتَحْلَفْتُهُ لَتَقُومَنَّ كَأنَّكَ قُلْتَ: قُلْتُ لَهُ: لَتَقُومَنَّ. الثّالِثُ: أنْ تَأْتِيَ بِلَفْظِ المُتَكَلِّمِ فَتَقُولَ: اسْتَحْلَفْتُهُ لَأقُومَنَّ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وأهْلَهُ﴾ بِالنُّونِ والياءِ والتّاءِ، ولَوْ كانَ تَقاسَمُوا أمْرًا لَمْ يَجِئْ فِيهِ الياءُ التَّحْتِيَّةُ لِأنَّهُ لَيْسَ بِغائِبٍ قالَهُ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ. ﴿ولا تَكْتُمُونَهُ﴾ عَطْفٌ عَلى الجَوابِ، وإنَّما لَمْ يُؤَكَّدْ بِالنُّونِ لِكَوْنِهِ مَنفِيًّا، وقالَ أبُو البَقاءِ: اكْتِفاءً بِالتَّوْكِيدِ في الفِعْلِ الأوَّلِ. وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ حالًا مِن ضَمِيرِ المُخاطَبِينَ إمّا عَلى إضْمارِ مُبْتَدَأٍ بَعْدَ الواوِ، أيْ وأنْتُمْ لا تَكْتُمُونَهُ، وإمّا عَلى رَأْيِ مَن يُجَوِّزُ دُخُولَ الواوِ عَلى المُضارِعِ المَنفِيِّ عِنْدَ وُقُوعِهِ حالًا أيْ لَتُظْهِرُنَّهُ غَيْرَ كاتِمِينَ، والنَّهْيُ عَنِ الكِتْمانِ بَعْدَ الأمْرِ بِالبَيانِ لِلْمُبالَغَةِ في إيجابِ المَأْمُورِ بِهِ - كَما ذَهَبَ إلَيْهِ غَيْرُ واحِدٍ - أوْ لِأنَّ المُرادَ بِالبَيانِ المَأْمُورِ بِهِ ذِكْرُ الآياتِ النّاطِقَةِ بِنُبُوَّتِهِ ﷺ، وبِالكِتْمانِ المَنهِيِّ عَنْهُ إلْغاءُ التَّأْوِيلاتِ الزّائِغَةِ والشُّبَهاتِ الباطِلَةِ كَما قِيلَ وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الحَسَنِ أنَّهُ كانَ يُفَسِّرُ ﴿لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنّاسِ ولا تَكْتُمُونَهُ﴾ بِقَوْلِهِ لَتَتَكَلَّمَنَّ بِالحَقِّ ولَتَصْدُقَنَّهُ بِالعَمَلِ، وأمْرُ النَّهْيِ بَعْدَ الأمْرِ عَلى هَذا ظاهِرٌ أيْضًا، ولَعَلَّ الكَلامَ عَلَيْهِ أفْيَدُ. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ ومَن مَعَهُ ولا يَكْتُمُونَهُ بِالياءِ كَما في سابِقِهِ ﴿فَنَبَذُوهُ﴾ أيْ طَرَحُوا ما أُخِذَ مِنهم مِنَ المِيثاقِ ﴿وراءَ ظُهُورِهِمْ﴾ ولَمْ يُراعُوهُ ولَمْ يَلْتَفِتُوا إلَيْهِ أصْلًا، فَإنَّ النَّبْذَ وراءَ الظَّهْرِ تَمْثِيلٌ واسْتِعارَةٌ لِتَرْكِ الِاعْتِدادِ وعَدَمِ (p-150)الِالتِفاتِ وعَكْسُهُ جَعْلُ الشَّيْءِ نُصْبَ العَيْنِ ومُقابِلَها. ﴿واشْتَرَوْا بِهِ﴾ أيْ بِالكِتابِ الَّذِي أُمِرُوا بِبَيانِهِ ونُهُوا عَنْ كِتْمانِهِ، وقِيلَ: الضَّمِيرُ لِلْعَهْدِ والأوَّلُ أوْلى، والمَعْنى أخَذُوا بَدَلَهُ﴿ثَمَنًا قَلِيلا﴾ مِن حُطامِ الدُّنْيا الفانِيَةِ وأغْراضِها الفاسِدَةِ ﴿فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ﴾ (187) أيْ بِئْسَ شَيْئًا يَشْتَرُونَهُ ذَلِكَ الثَّمَنُ، فَما نَكِرَةٌ مَنصُوبَةٌ مُفَسِّرَةٌ لِفاعِلِ بِئْسَ، وجُمْلَةُ يَشْتَرُونَهُ صِفَتُهُ، والمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ، وقِيلَ: (ما) مَصْدَرِيَّةٌ فاعِلُ بِئْسَ، والمَخْصُوصُ مَحْذُوفٌ أيْ بِئْسَ شِراؤُهم هَذا الشِّراءَ لِاسْتِحْقاقِهِمْ بِهِ العَذابَ الألِيمَ. واسْتُدِلَّ بِالآيَةِ عَلى وُجُوبِ إظْهارِ العِلْمِ وحُرْمَةِ كِتْمانِ شَيْءٍ مِن أُمُورِ الدِّينِ لِغَرَضٍ فاسِدٍ مِن تَسْهِيلٍ عَلى الظَّلَمَةِ وتَطْيِيبٍ لِنُفُوسِهِمْ واسْتِجْلابٍ لِمَسارِهِمْ واسْتِجْذابٍ لِمَبارِّهِمْ ونَحْوِ ذَلِكَ، وفي الخَبَرِ: ”«مَن سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أُلْجِمَ بِلِجامٍ مِن نارٍ“». ورَوى الثَّعْلَبِيُّ بِإسْنادِهِ عَنِ الحَسَنِ بْنِ عُمارَةَ قالَ: أتَيْتُ الزُّهْرِيَّ بَعْدَ أنْ تَرَكَ الحَدِيثَ فَألْفَيْتُهُ عَلى بابِهِ فَقُلْتُ: إنْ رَأيْتَ أنْ تُحَدِّثَنِي ؟ فَقالَ: أما عَلِمْتَ أنِّي تَرَكْتُ الحَدِيثَ ؟ فَقُلْتُ: إمّا إنْ تُحَدِّثَنِي، وإمّا أنْ أُحَدِّثَكَ، فَقالَ: حَدِّثْنِي، فَقُلْتُ: حَدَّثَنِي الحَكَمُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ نَجْمٍ الخَرّازِ قالَ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ أبِي طالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ يَقُولُ: ما أخَذَ اللَّهُ تَعالى عَلى أهْلِ الجَهْلِ أنْ يَتَعَلَّمُوا حَتّى أخَذَ عَلى أهْلِ العِلْمِ أنْ يَعْلَمُوا، قالَ: فَحَدَّثَنِي أرْبَعِينَ حَدِيثًا. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ: لَوْلا ما أخَذَ اللَّهُ تَعالى عَلى أهْلِ الكِتابِ ما حَدَّثْتُكم، وتَلا هَذِهِ الآيَةَ. وأخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ عَنِ الحَسَنِ: لَوْلا المِيثاقُ الَّذِي أخَذَهُ اللَّهُ تَعالى عَلى أهْلِ العِلْمِ ما حَدَّثْتُكم بِكَثِيرٍ مِمّا تَسْألُونَ عَنْهُ. ويُؤَيِّدُ الِاسْتِدْلالَ بِالآيَةِ عَلى ما ذُكِرَ ما أخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أبِي عُبَيْدَةَ قالَ: جاءَ رَجُلٌ إلى قَوْمٍ في المَسْجِدِ وفِيهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فَقالَ: إنَّ كَعْبًا يُقْرِئُكُمُ السَّلامَ ويُبَشِّرُكم أنَّ هَذِهِ الآيَةَ: ﴿وإذْ أخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ﴾ إلَخْ. لَيْسَتْ فِيكم، فَقالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ: وأنْتَ فَأقْرِئْهُ السَّلامَ أنَّها نَزَلَتْ - وهو يَهُودِيٌّ - وأرادَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ أنَّ كَعْبًا لَمْ يَعْرِفْ ما أشارَتْ إلَيْهِ وإنْ نَزَلَتْ في أهْلِ الكِتابِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب