الباحث القرآني
فَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ إنَّ النّاسُ قَدْ جَمَعُوا لَكم فاخْشَوْهُمْ﴾ بَدَلٌ مِنَ ( ﴿الَّذِينَ اسْتَجابُوا﴾ ) أوْ صِفَةٌ، والمُرادُ مِنَ النّاسِ: الأوَّلُ: رَكْبُ عَبْدِ قَيْسٍ، ومِنَ الثّانِي: أبُو سُفْيانَ ومَن مَعَهُ، فَألْ فِيهِما لِلْعَهْدِ، والنّاسُ الثّانِي غَيْرُ الأوَّلِ. (p-126)ورُوِيَ عَنْ مُجاهِدٍ وقَتادَةَ وعِكْرِمَةَ وغَيْرِهِمْ أنَّهم قالُوا: والخَبَرُ مُتَداخِلٌ، «نَزَلَتْ هَذِهِ الآياتُ في غَزْوَةِ بَدْرٍ الصُّغْرى، وذَلِكَ أنَّ أبا سُفْيانَ قالَ يَوْمَ أُحُدٍ حِينَ أرادَ أنْ يَنْصَرِفَ: يا مُحَمَّدُ مَوْعِدُ ما بَيْنَنا وبَيْنَكَ مَوْسِمُ بَدْرٍ القابِلُ إنْ شِئْتَ، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ذَلِكَ بَيْنَنا وبَيْنَكَ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى، فَلَمّا كانَ العامُ المُقْبِلُ خَرَجَ أبُو سُفْيانَ في أهْلِ مَكَّةَ حَتّى نَزَلَ مَجَنَّةَ مِن ناحِيَةِ مَرِّ الظَّهْرانِ، وقِيلَ: بَلَغَ عُسْفانَ، فَألْقى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ الرُّعْبَ فَبَدا لَهُ الرُّجُوعُ، فَلَقِيَ نُعَيْمَ بْنَ مَسْعُودٍ الأشْجَعِيَّ وقَدْ قَدِمَ مُعْتَمِرًا فَقالَ لَهُ أبُو سُفْيانَ: إنِّي واعَدْتُ مُحَمَّدًا وأصْحابَهُ أنَّ نَلْتَقِيَ بِمَوْسِمِ بَدْرٍ، وإنَّ هَذِهِ عامُ جَدْبٍ، ولا يَصْلُحُنا إلّا عامٌ نَرْعى فِيهِ الشَّجَرَ ونَشْرَبُ فِيهِ اللَّبَنَ، وقَدْ بَدا لِي، وأكْرَهُ أنْ يَخْرُجَ مُحَمَّدٌ ولا أخْرُجُ أنا فَيَزِيدُهم ذَلِكَ جُرْأةً، فالحَقِ المَدِينَةَ فَتُثَبِّطُهم ولَكَ عِنْدِي عَشَرَةٌ مِنَ الإبِلِ أضَعُها عَلى يَدَيْ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، فَأتى نُعَيْمٌ المَدِينَةَ فَوَجَدَ النّاسَ يَتَجَهَّزُونَ لِمِيعادِ أبِي سُفْيانَ فَقالَ لَهم: بِئْسَ الرَّأْيُ رَأْيُكم أتَوْكم في دِيارِكم وقَرارِكم فَلَمْ يُفْلِتْ مِنكم إلّا شَرِيدٌ، فَتُرِيدُونَ أنْ تَخْرُجُوا إلَيْهِمْ وقَدْ جَمَعُوا لَكم عِنْدَ المَوْسِمِ، فَواللَّهِ لا يُفْلِتُ مِنكم أحَدٌ، فَكَرِهَ أصْحابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ الخُرُوجَ، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأخْرُجَنَّ ولَوْ وحْدِي، فَخَرَجَ ومَعَهُ سَبْعُونَ راكِبًا يَقُولُونَ: (حَسْبُنا اللَّهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ) حَتّى وافى بَدْرًا فَأقامَ بِها ثَمانِيَةَ أيّامٍ يَنْتَظِرُ أبا سُفْيانَ، وقَدِ انْصَرَفَ أبُو سُفْيانَ ومَن مَعَهُ مِن مَجَنَّةَ إلى مَكَّةَ فَسَمّاهم أهْلُ مَكَّةَ جَيْشَ السَّوِيقِ يُرِيدُونَ أنَّكم لَمْ تَفْعَلُوا شَيْئًا سِوى شُرْبِ السَّوِيقِ، ولَمْ يَلْقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ أحَدًا مِنَ المُشْرِكِينَ فَكَرَّ راجِعًا إلى المَدِينَةِ»، وفي ذَلِكَ يَقُولُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَواحَةَ أوْ كَعْبُ بْنُ مالِكٍ:
؎وعَدْنا أبا سُفْيانَ وعْدًا فَلَمْ نَجِدْ لِمِيعادِهِ صِدْقًا وما كانَ وافِيا
؎فَأُقْسِمُ لَوْ وافَيْتَنا فَلَقِيتَنا ∗∗∗ لَأُبْتَ ذَمِيمًا وافْتَقَدْتَ المَوالِيا
؎تَرَكْنا بِهِ أوْصالَ عُتْبَةَ وابْنَهُ ∗∗∗ وعَمْرًا أبا جَهْلٍ تَرَكْناهُ ثاوِيا
؎عَصَيْتُمْ رَسُولَ اللَّهِ أُفٍّ لِدِينِكم ∗∗∗ وأمْرِكُمُ الشَّيْءَ الَّذِي كانَ غاوِيا
؎وإنِّي وإنْ عَنَّفْتُمُونِي لَقائِلٌ ∗∗∗ فِدًى لِرَسُولِ اللَّهِ أهْلِي ومالِيا
؎أطَعْناهُ لَمْ نَعْدِلْهُ فِينا بِغَيْرِهِ ∗∗∗ شِهابًا لَنا في ظُلْمَةِ اللَّيْلِ هادِيا
فَعَلى هَذا المُرادُ مِنَ النّاسِ الأوَّلُ نُعَيْمٌ، وأُطْلِقَ ذَلِكَ عَلَيْهِ كَما يُطْلَقُ الجَمْعُ واسْمُ الجَمْعِ المُحَلّى بِألِ الجِنْسِيَّةِ عَلى الواحِدِ مِنهُ مَجازًا كَما صَرَّحُوا بِهِ، أوْ بِاعْتِبارِ أنَّ المُذِيعِينَ لَهُ كالقائِلِينَ لَهم لَكِنْ في كَوْنِ القائِلِ نُعَيْمًا مَقالٌ.
وقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ سَعْدٍ في طَبَقاتِهِ، وذَكَرَ بَعْضُهم أنَّ القائِلِينَ أُناسٌ مِن عَبْدِ قَيْسٍ.
﴿فَزادَهم إيمانًا﴾ الضَّمِيرُ المُسْتَكِنُّ لِلْمَقُولِ أوْ لِمَصْدَرٍ قالَ: أوْ لِفاعِلِهِ إنْ أُرِيدَ بِهِ نُعَيْمٌ وحْدَهُ، أوْ لِلَّهِ تَعالى، وتَعَقَّبَ أبُو حَيّانَ الأوَّلَ بِأنَّهُ ضَعِيفٌ مِن حَيْثُ إنَّهُ لا يَزِيدُ إيمانًا إلّا النُّطْقُ بِهِ لا هو في نَفْسِهِ، وكَذا الثّالِثُ بِأنَّهُ إذا أُطْلِقَ عَلى المُفْرَدِ لَفْظُ الجَمْعِ مَجازًا فَإنَّ الضَّمائِرَ تَجْرِي عَلى ذَلِكَ الجَمْعِ لا عَلى المُفْرَدِ فَيُقالُ: مَفارِقُهُ شابَتْ، بِاعْتِبارِ الإخْبارِ عَنِ الجَمْعِ، ولا يَجُوزُ: مَفارِقُهُ شابَ، بِاعْتِبارِ مَفْرِقُهُ شابَ، وفي كِلا التَّعْقِيبَيْنِ نَظَرٌ، أمّا الأوَّلُ فَقَدْ نَظَرَ فِيهِ الحَلَبِيُّ بِأنَّ المَقُولَ هو الَّذِي في الحَقِيقَةِ حَصَلَ بِهِ زِيادَةُ الإيمانِ، وأمّا الثّانِي فَقَدْ نَظَرَ فِيهِ السَّفاقُسِيُّ بِأنَّهُ لا يَبْعُدُ جَوازُهُ بِناءً عَلى ما عُلِمَ مِنِ اسْتِقْراءِ كَلامِهِمْ فِيما لَهُ لَفْظٌ ولَهُ مَعْنًى مِنِ اعْتِبارِ اللَّفْظِ تارَةً والمَعْنى أُخْرى.
والمُرادُ أنَّهم لَمْ يَلْتَفِتُوا إلى ذَلِكَ بَلْ ثَبَتَ بِهِ يَقِينُهم بِاللَّهِ تَعالى، وازْدادُوا طُمَأْنِينَةً وأظْهَرُوا حَمِيَّةَ الإسْلامِ. (p-127)واسْتَدَلَّ بِذَلِكَ مَن قالَ: إنَّ الإيمانَ يَتَفاوَتُ زِيادَةً ونُقْصانًا، وهَذا ظاهِرٌ إنْ جُعِلَتِ الطّاعَةُ مِن جُمْلَةِ الإيمانِ، وأمّا إنْ جُعِلَ الإيمانُ نَفْسَ التَّصْدِيقِ والِاعْتِقادِ فَقَدْ قالُوا في ذَلِكَ: إنَّ اليَقِينَ مِمّا يَزْدادُ بِالأُلْفِ وكَثْرَةِ التَّأمُّلِ وتَناصُرِ الحُجَجِ بِلا رَيْبٍ، ويُعَضِّدُ ذَلِكَ أخْبارٌ كَثِيرَةٌ، ومَن جَعَلَ الإيمانَ نَفْسَ التَّصْدِيقِ وأنْكَرَ أنْ يَكُونَ قابِلًا لِلزِّيادَةِ والنُّقْصانِ يُؤَوِّلُ ما ورَدَ في ذَلِكَ بِاعْتِبارِ المُتَعَلِّقِ، ومِنهم مَن يَقُولُ: إنَّ زِيادَتَهُ مَجازٌ عَنْ زِيادَةِ ثَمَرَتِهِ وظُهُورِ آثارِهِ وإشْراقِ نُورِهِ وضِيائِهِ في القَلْبِ، ونُقْصانُهُ عَلى عَكْسِ ذَلِكَ، وكَأنَّ الزِّيادَةَ هُنا مَجازٌ عَنْ ظُهُورِ الحَمِيَّةِ وعَدَمِ المُبالاةِ بِما يُثَبِّطُهم، وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّ التَّأْوِيلَ الأوَّلَ هُنا خَفِيٌّ جِدًّا؛ لِأنَّهُ لَمْ يَتَجَدَّدْ لِلْقَوْمِ بِحَسَبِ الظّاهِرِ عِنْدَ ذَلِكَ القَوْلِ شَيْءٌ يَجِبُ الإيمانُ بِهِ كَوُجُوبِ صَلاةٍ أوْ صَوْمٍ مَثَلًا لِيُقالَ: إنَّ زِيادَةَ إيمانِهِمْ بِاعْتِبارِ ذَلِكَ المُتَعَلِّقِ، وكَذا التِزامُ التَّأْوِيلِ الثّانِي في الآياتِ والآثارِ الَّتِي لَمْ تَكَدْ تَتَمَنطَقُ بِمِنطَقَةِ الحَصْرِ بَعِيدٌ غايَةَ البُعْدِ.
فالأوْلى القَوْلُ بِقَبُولِ الإيمانِ الزِّيادَةَ والنُّقْصانَ مِن غَيْرِ تَأْوِيلٍ، وإنْ قُلْنا: إنَّهُ نَفْسُ التَّصْدِيقِ، وكَوْنُهُ إذا نَقَصَ يَكُونُ ظَنًّا أوْ شَكًّا، ويَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ إيمانًا وتَصْدِيقًا مِمّا لا ظَنَّ ولا شَكَّ في أنَّهُ عَلى إطْلاقِهِ مَمْنُوعٌ.
نَعَمْ قَدْ يَكُونُ التَّصْدِيقُ بِمَرْتَبَةٍ إذا نَزَلَ عَنْها يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ تَصْدِيقًا، وذاكَ مِمّا لا نِزاعَ لِأحَدٍ في أنَّهُ لا يَقْبَلُ النُّقْصانَ مَعَ بَقاءِ كَوْنِهِ تَصْدِيقًا، وإلى هَذا أشارَ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ.
﴿وقالُوا حَسْبُنا اللَّهُ﴾ أيْ مُحْسِبُنا وكافِينا مِن أحْسَبَهُ إذا كَفاهُ، والدَّلِيلُ عَلى أنَّ حَسْبَ بِمَعْنى مُحْسِبٌ اسْمُ فاعِلٍ وُقُوعُهُ صِفَةً لِلنَّكِرَةِ في هَذا رَجُلٌ حَسْبُكَ مَعَ إضافَتِهِ إلى ضَمِيرِ المُخاطَبِ، فَلَوْلا أنَّهُ اسْمُ فاعِلٍ وإضافَتُهُ لَفْظِيَّةٌ لا تُفِيدُهُ تَعْرِيفًا كَإضافَةِ المَصْدَرِ ما صَحَّ كَوْنُهُ صِفَةً لِرَجُلٍ كَذا قالُوا، ومِنهُ يُعْلَمُ أنَّ المَصْدَرَ المُؤَوَّلَ بِاسْمِ الفاعِلِ لَهُ حُكْمُهُ في الإضافَةِ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ مَعْطُوفَةٌ عَلى الجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَها.
﴿ونِعْمَ الوَكِيلُ﴾ (172) أيِ المَوْكُولُ إلَيْهِ فَفَعِيلٌ بِمَعْنى مَفْعُولٍ، والمَخْصُوصُ بِالمَدْحِ مَحْذُوفٌ هو ضَمِيرُهُ تَعالى، والظّاهِرُ عَطْفُ هَذِهِ الجُمْلَةِ الإنْشائِيَّةِ عَلى الجُمْلَةِ الخَبَرِيَّةِ الَّتِي قَبْلَها، والواوُ إمّا مِنَ الحِكايَةِ أوْ مِنَ المَحْكِيِّ، فَإنْ كانَ الأوَّلُ وقُلْنا: بِجَوازِ عَطْفِ الإنْشاءِ عَلى الإخْبارِ فِيما لَهُ مَحَلٌّ مِنَ الإعْرابِ لِكَوْنِهِما حِينَئِذٍ في حُكْمِ المُفْرَدَيْنِ، فَأمْرُ العَطْفِ ظاهِرٌ مِن غَيْرِ تَكَلُّفِ التَّأْوِيلِ لِأنَّ الجُمْلَةَ المَعْطُوفَ عَلَيْها في مَحَلِّ نَصْبِ مَفْعُولٍ. (قالُوا) لَكِنَّ القَوْلَ بِجَوازِ هَذا العَطْفِ بِدُونِ التَّأْوِيلِ عِنْدَ الجُمْهُورِ مَمْنُوعٌ لا بُدَّ لَهُ مِن شاهِدٍ ولَمْ يَثْبُتْ.
وإنْ كانَ الثّانِي وقُلْنا بِجَوازِ عِطْفِ الإنْشاءِ عَلى الإخْبارِ مُطْلَقًا - كَما ذَهَبَ إلَيْهِ الصَّفّارُ - أوْ قُلْنا: بِجَوازِ عَطْفِ القِصَّةِ عَلى القِصَّةِ أعْنِي عَطْفَ حاصِلِ مَضْمُونِ إحْدى الجُمْلَتَيْنِ عَلى حاصِلِ مَضْمُونِ الأُخْرى مِن غَيْرِ نَظَرٍ إلى اللَّفْظِ - كَما أشارَ إلى ذَلِكَ العَلّامَةُ الثّانِي - فالأمْرُ أيْضًا ظاهِرٌ، وإنْ قُلْنا: بِعَدَمِ جَوازِ ذَلِكَ - كَما ذَهَبَ إلَيْهِ الجُمْهُورُ فَلا بُدَّ مِنَ التَّأْوِيلِ إمّا في جانِبِ المَعْطُوفِ عَلَيْهِ أوْ في جانِبِ المَعْطُوفِ، والذّاهِبُونَ إلى الأوَّلِ قالُوا: إنَّ الجُمْلَةَ الأُولى وإنْ كانَتْ خَبَرِيَّةً صُورَةٌ، لَكِنَّ المَقْصُودَ مِنها إنْشاءُ التَّوَكُّلِ أوِ الكِفايَةُ لا الإخْبارُ بِأنَّهُ تَعالى كافٍ في نَفْسِ الأمْرِ، والذّاهِبُونَ إلى الثّانِي اخْتَلَفُوا فَمِنهم مَن قَدَّرَ قُلْنا أيْ - وقُلْنا نِعْمَ الوَكِيلُ -.
واعْتُرِضَ بِأنَّهُ تَقْدِيرٌ لا يَنْساقُ الذِّهْنُ إلَيْهِ، ولا دَلالَةَ لِلْقَرِينَةِ عَلَيْهِ مَعَ أنَّهُ لا يُوجَدُ بَيْنَ الإخْبارِ بِأنَّ اللَّهَ تَعالى كافِيهِمْ والإخْبارِ بِأنَّهم قالُوا - نِعْمَ الوَكِيلُ - مُناسَبَةٌ مُعْتَدٌّ بِها يَحْسُنُ بِسَبَبِها العَطْفُ بَيْنَهُما، ومِنهم مَن جَعَلَ مَدْخُولَ الواوِ مَعْطُوفًا عَلى ما قَبْلَهُ بِتَقْدِيرِ المُبْتَدَأِ إمّا مُؤَخَّرًا لِتَناسُبِ المَعْطُوفِ عَلَيْهِ، فَإنَّ (حَسْبُنا) خَبَرٌ، و(اللَّهُ) مُبْتَدَأٌ بِقَرِينَةِ ذِكْرِهِ في المَعْطُوفِ عَلَيْهِ ومَجِيءِ حَذْفِهِ في الِاسْتِعْمالِ وانْتِقالِ الذِّهْنِ إلَيْهِ، وإمّا مُقَدَّمًا رِعايَةً لِقُرْبِ المَرْجِعِ مَعَ ما سَبَقَ. (p-128)واعْتُرِضَ بِأنَّهُ لا يَخْفى أنَّهُ بَعْدَ تَقْدِيرِ المُبْتَدَأِ لَوْ لَمْ يُؤَوَّلْ - نِعْمَ الوَكِيلُ - بِمَقُولٍ في حَقِّهِ ذَلِكَ تَكُونُ الجُمْلَةُ أيْضًا إنْشائِيَّةً، إذِ الجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ الَّتِي خَبَرُها إنْشاءٌ إنْشائِيَّةٌ كَما أنَّ الَّتِي خَبَرُها فِعْلٌ فِعْلِيَّةٌ بِحَسَبِ المَعْنى، كَيْفَ لا ولا فَرْقَ بَيْنَ: نِعْمَ الرَّجُلُ زَيْدٌ، وزَيْدٌ نِعْمَ الرَّجُلِ، في أنَّ مَدْلُولَ كُلٍّ مِنهُما نِسْبَةٌ غَيْرُ مُحْتَمِلَةٍ لِلصِّدْقِ والكَذِبِ، وبَعْدَ التَّأْوِيلِ لا يَكُونُ المَعْطُوفُ جُمْلَةَ (نِعْمَ الوَكِيلِ)، بَلْ جُمْلَةَ مُتَعَلِّقِ خَبَرِها (نِعْمَ الوَكِيلُ) والإشْكالُ إنَّما هو في عَطْفِ (نِعْمَ الوَكِيلُ) إلّا أنْ يُقالَ يُخْتارُ هَذا، ويُقالُ: الجَوابُ عَنْ شَيْءٍ قَدْ يَكُونُ بِتَقْرِيرِ ذَلِكَ الشَّيْءِ وإبْداءِ شَيْءٍ آخَرَ، وقَدْ يَكُونُ بِتَغْيِيرِ ذَلِكَ الشَّيْءِ وما هَهُنا مِنَ الثّانِي، فَمِن حَيْثُ الظّاهِرُ المَعْطُوفُ هو جُمْلَةُ (نِعْمَ الوَكِيلُ) فَيَعُودُ الإشْكالُ، ومِن حَيْثُ الحَقِيقَةُ هو جُمْلَةُ هو مَقُولٌ، فَلا إشْكالَ، لَكِنْ يُرَدُّ أنَّهُ بَعْدَ التَّأْوِيلِ يَفُوتُ إنْشاءُ المَدْحِ العامِّ الَّذِي وُضِعَ أفْعالُ المَدْحِ لَهُ، بَلْ يَصِيرُ لِلْإخْبارِ بِالمَدْحِ الخاصِّ، وهو أنَّهُ مَقُولٌ في حَقِّهِ (نِعْمَ الوَكِيلُ) وأيْضًا مَقُولِيَّةُ المَقُولِ المَذْكُورِ فِيهِ إنَّما تَكُونُ بِطَرِيقِ الحَمْلِ والإخْبارِ عَنْهُ بِنِعَمَ الوَكِيلِ، فَلا بُدَّ مِن تَقْدِيرِ مَقُولٍ في حَقِّهِ مَرَّةً أُخْرى، ويَلْزَمُ تَقْدِيراتٌ غَيْرُ مُتَناهِيَةٍ، وكَأنَّهُ لِهَذا لَمْ يُؤَوِّلِ الجُمْهُورُ الإنْشاءَ الواقِعَ خَبَرًا بِذَلِكَ، وإنَّما هو مُخْتارُ السَّعْدِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى، وقَدْ جَوَّزَ بَعْضُهم عَلى تَقْدِيرِ كَوْنِ الواوِ مِنَ المَحْكِيِّ عَطَفَ (نِعْمَ الوَكِيلُ) عَلى (حَسْبُنا) بِاعْتِبارِ كَوْنِهِ في مَعْنى الفِعْلِ كَما عُطِفَ (جَعَلَ) عَلى (فالِقُ) في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فالِقُ الإصْباحِ وجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا﴾ عَلى رَأْيٍ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ مِن عَطْفِ الجُمْلَةِ الَّتِي لَها مَحَلٌّ مِنَ الإعْرابِ عَلى المُفْرَدِ؛ لِأنَّهُ إذْ ذاكَ خَبَرٌ عَنِ المُفْرَدِ، وبَعْضُ المُحَقِّقِينَ يُجَوِّزُونَ ذَلِكَ لا مِن عَطْفِ الإنْشاءِ عَلى الإخْبارِ، وهَذا وإنْ كانَ في الحَقِيقَةِ لا غُبارَ عَلَيْهِ، إلّا أنَّ أمْرَ العَطْفِ عَلى الخَبَرِ بِناءً عَلى ما ذَكَرَهُ الشَّيْخُ الرَّضِيُّ مِن أنَّ نِعْمَ الرَّجُلُ بِمَعْنى المُفْرَدِ وتَقْدِيرُهُ أيْ رَجُلٌ جَيِّدٌ، أظْهَرُ، كَما لا يَخْفى.
ومِنَ النّاسِ مَنِ ادَّعى أنَّ الآيَةَ شاهِدٌ عَلى جَوازِ عَطْفِ الإنْشاءِ عَلى الإخْبارِ فِيما لَهُ مَحَلٌّ مِنَ الإعْرابِ بِناءً عَلى أنَّ الواوَ مِنَ الحِكايَةِ لا غَيْرَ.
ولا يَخْفى عَلَيْكَ أنَّهُ بَعْدَ تَسْلِيمِ كَوْنِ الواوِ كَذَلِكَ فِيها لا تَصْلُحُ شاهِدًا عَلى ما ذُكِرَ لِجَوازِ أنْ يَكُونَ (قالُوا) مُقَدَّرًا في المَعْطُوفِ بِقَرِينَةِ ذِكْرِهِ في المَعْطُوفِ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ مِن عَطْفِ الجُمْلَةِ الفِعْلِيَّةِ الخَبَرِيَّةِ عَلى الجُمْلَةِ الفِعْلِيَّةِ الخَبَرِيَّةِ، ثُمَّ إنَّ الظّاهِرَ كَما يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ في الآيَةِ عَطْفٌ عَلى الإخْبارِ، وفِيهِ الخِلافُ الَّذِي عَرَفْتَ، كَذَلِكَ يَقْتَضِي عَطْفَ الفِعْلِيَّةِ عَلى الِاسْمِيَّةِ، وفِيهِ أيْضًا خِلافٌ مَشْهُورٌ كَعَكْسِهِ، ومِمّا ذَكَرْنا في أمْرِ الإنْشاءِ والإخْبارِ يُسْتَخْرَجُ الجَوابُ عَنْ ذَلِكَ، وقَدْ أطالَ العُلَماءُ الكَلامَ في هَذا المَقامِ، وما ذَكَرْناهُ قَلِيلٌ مِن كَثِيرٍ، ووَشْلٌ مِن غَدِيرٍ، ثُمَّ إنَّ هَذِهِ الكَلِمَةَ كانَتْ آخِرَ قَوْلِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ حِينَ أُلْقِيَ في النّارِ كَما أخْرَجَهُ البُخارِيُّ في الأسْماءِ والصِّفاتِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما، وعَبْدِ الرَّزّاقِ وغَيْرِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما.
وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: " «إذا وقَعْتُمْ في الأمْرِ فَقُولُوا: حَسْبُنا اللَّهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ» .
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي الدُّنْيا عَنْ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْها «أنَّ النَّبِيَّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ كانَ إذا اشْتَدَّ غَمُّهُ مَسَحَ بِيَدِهِ عَلى رَأْسِهِ ولِحْيَتِهِ ثُمَّ تَنَفَّسَ الصُّعَداءَ وقالَ: حَسْبِيَ اللَّهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ» .
وأخْرَجَ أبُو نُعَيْمٍ عَنْ شَدّادِ بْنِ أوْسٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: «حَسْبِيَ اللَّهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ أمانُ كُلِّ خائِفٍ».
{"ayah":"ٱلَّذِینَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدۡ جَمَعُوا۟ لَكُمۡ فَٱخۡشَوۡهُمۡ فَزَادَهُمۡ إِیمَـٰنࣰا وَقَالُوا۟ حَسۡبُنَا ٱللَّهُ وَنِعۡمَ ٱلۡوَكِیلُ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق