الباحث القرآني

﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِن دُونِكُمْ﴾ أخْرَجَ ابْنُ إسْحاقَ وغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: كانَ رِجالٌ مِنَ المُسْلِمِينَ يُواصِلُونَ رِجالًا مَن يَهُودَ لِما كانَ بَيْنَهم مِنَ الجِوارِ والحِلْفِ في الجاهِلِيَّةِ فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى فِيهِمْ يَنْهاهم عَنْ مُباطَنَتِهِمْ تُخَوِّفُ الفِتْنَةَ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الآيَةُ، وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ أنَّها نَزَلَتْ في المُنافِقِينَ مِن أهْلِ المَدِينَةِ، نُهِيَ المُؤْمِنُونَ أنْ يَتَوَلَّوْهم، وظاهِرُ ما يَأْتِي يُؤَيِّدُهُ، والبِطانَةُ خاصَّةُ الرَّجُلِ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَ أمْرَهُ مَأْخُوذٌ مِن بِطانَةِ الثَّوْبِ لِلْوَجْهِ الَّذِي يَلِي البَدَنَ لِقُرْبِهِ وهي نَقِيضُ الظِّهارَةِ ويُسَمّى بِها الواحِدُ والجَمْعُ والمُذَكَّرُ والمُؤَنَّثُ. و( مِن ) مُتَعَلِّقَةٌ بِـ ( لا تَتَّخِذُوا ) أوْ بِمَحْذُوفٍ وقَعَ صِفَةً لِبِطانَةٍ، وقِيلَ: زائِدَةٌ، و–دُونَ - إمّا بِمَعْنى غَيْرِ أوْ بِمَعْنى الأدْوَنِ والدَّنِيءِ، وضَمِيرُ الجَمْعِ المُضافُ إلَيْهِ لِلْمُؤْمِنِينَ، والمَعْنى ( لا تَتَّخِذُوا ) الكافِرِينَ كاليَهُودِ والمُنافِقِينَ أوْلِياءَ وخَواصَّ مِن غَيْرِ المُؤْمِنِينَ أوْ مِمَّنْ لَمْ تَبْلُغْ مَنزِلَتُهُ مَنزِلَتَكم في الشَّرَفِ والدِّيانَةِ، والحُكْمُ عامٌّ، وإنْ كانَ سَبَبُ النُّزُولِ خاصًّا فَإنَّ اتِّخاذَ المُخالِفِ ولِيًّا مَظِنَّةُ الفِتْنَةِ والفَسادِ، ولِهَذا ورَدَ تَفْسِيرُ هَذِهِ البِطانَةِ بِالخَوارِجِ. وأخْرَجَ البَيْهَقِيُّ وغَيْرُهُ عَنْ أنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ أنَّهُ قالَ: «لا تَنْقُشُوا في خَواتِيمِكم عَرَبِيًّا، ولا تَسْتَضِيئُوا بِنارِ المُشْرِكِينَ» فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلْحَسَنِ فَقالَ: نَعَمْ لا تَنْقُشُوا في خَواتِيمِكم مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، ولا تَسْتَسِرُّوا المُشْرِكِينَ في شَيْءٍ مِن أُمُورِكم، ثُمَّ قالَ الحَسَنُ: وتَصْدِيقُ ذَلِكَ مِن كِتابِ اللَّهِ تَعالى: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِن دُونِكُمْ﴾ ﴿لا يَأْلُونَكم خَبالا﴾ أصْلُ الألْوِ التَّقْصِيرُ يُقالُ: ألا كَغَزا يَأْلُو ألْوًا إذا قَصَّرَ وفَتَرَ وضَعُفَ ومِنهُ قَوْلُ امْرِئِ القَيْسِ: ؎وما المَرْءُ ما دامَتْ حَشاشَةُ نَفْسِهِ بِمُدْرِكٍ أطْرافَ الخُطُوبِ ولا (آلى) أرادَ ولا مُقَصِّرٌ في الطَّلَبِ وهو لازِمٌ يَتَعَدّى إلى المَفْعُولِ بِالحَرْفِ، وقَدْ يُسْتَعْمَلُ مُتَعَدِّيًا إلى مَفْعُولَيْنِ في قَوْلِهِمْ: لا آلُوكَ نُصْحًا ولا آلُوكَ جُهْدًا عَلى تَضْمِينِ مَعْنى المَنعِ أيْ لا أمْنَعُكَ ذَلِكَ، وقَدْ يُجْعَلُ بِمَنعِ التَّرْكِ فَيَتَعَدّى إلى واحِدٍ، وفي القامُوسِ: ما ألَوْتَ الشَّيْءَ أيْ ما تَرَكْتَهُ، والخَبالُ في الأصْلِ الفَسادُ الَّذِي يَلْحَقُ الإنْسانَ فَيُورِثُهُ اضْطِرابًا كالمَرَضِ والجُنُونِ، ويُسْتَعْمَلُ بِمَعْنى الشَّرِّ والفَسادِ مُطْلَقًا، ومَعْنى الآيَةِ عَلى الأوَّلِ لا يُقَصِّرُونَ لَكم في الفَسادِ والشَّرِّ بَلْ يَجْهَدُونَ في مَضَرَّتِكم، وعَلَيْهِ يَكُونُ الضَّمِيرُ المَنصُوبُ والِاسْمُ الظّاهِرُ مَنصُوبَيْنِ بِنَزْعِ الخافِضِ (p-38)وإلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ الثّانِي مَنصُوبًا عَلى الحالِ أيْ مُخْبَلِينَ أوْ عَلى التَّمْيِيزِ. واعْتُرِضَ ذَلِكَ بِأنَّهُ لا إبْهامَ في نِسْبَةِ التَّقْصِيرِ إلى الفاعِلِ، ولا يَصِحُّ جَعْلُهُ فاعِلًا إلّا عَلى اعْتِبارِ الإسْنادِ المَجازِيِّ والنَّصْبِ بِنَزْعِ الخافِضِ، ووُقُوعُ المَصْدَرِ حالًا لَيْسَ بِقِياسٍ إلّا فِيما يَكُونُ المَصْدَرُ نَوْعًا مِنَ العامِلِ نَحْوَ أتانِي سُرْعَةً وبُطْئًا كَما نَصَّ عَلَيْهِ الرَّضِيُّ في بَحْثِ المَفْعُولِ بِهِ والحالِ، واعْتَمَدَهُ السَّيالَكُوتِي، ونَقَلَ أبُو حَيّانَ أنَّ التَّمْيِيزَ هُنا مُحَوَّلٌ عَنِ المَفْعُولِ نَحْوَ ﴿وفَجَّرْنا الأرْضَ عُيُونًا﴾ وهو مِنَ الغَرابَةِ بِمَكانٍ لِأنَّ المَفْرُوضَ أنَّ الفِعْلَ لازِمٌ فَمِن أيْنَ يَكُونُ لَهُ مَفْعُولٌ لِيُحَوَّلَ عَنْهُ ؟! ومُلاحَظَةُ تَعِدِّيهِ إلَيْهِ بِتَقْدِيرِ الحَرْفِ قَوْلٌ بِالنَّصْبِ عَلى نَزْعِ الخافِضِ وقَدْ سَمِعْتَ ما فِيهِ. وأُجِيبَ بِالتِزامِ أحَدِ الأمْرَيْنِ الحالِيَّةِ أوْ كَوْنِهِ مَنصُوبًا عَلى النَّزْعِ مَعَ القَوْلِ بِالسَّماعِ هُنا والمَعْنى عَلى الثّانِي لا يَمْنَعُونَكم خَبالًا أيْ أنَّهم يَفْعَلُونَ مَعَكم ما يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ مِنَ الفَسادِ، ولا يُبْقُونَ عِنْدَهم شَيْئًا مِنهُ في حَقِّكم وهو وجْهٌ وجِيهٌ، والتَّضْمِينُ قِياسِيٌّ عَلى الصَّحِيحِ والخِلافُ فِيهِ واهٍ لا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ، والمَعْنى والإعْرابُ عَلى الثّالِثِ ظاهِرانِ بَعْدَ الإحاطَةِ بِما تَقَدَّمَ ﴿ودُّوا ما عَنِتُّمْ﴾ أيْ أحَبُّوا عَنَتَكم أيْ مَشَقَّتَكُمُ الشَّدِيدَةَ وضَرَرَكم. وقالَ السُّدِّيُّ: تَمَنَّوْا ضَلالَتَكم عَنْ دِينِكم، ورُوِيَ مِثْلُهُ عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ. ﴿قَدْ بَدَتِ البَغْضاءُ مِن أفْواهِهِمْ﴾ أيْ ظَهَرَتْ أماراتُ العَداوَةِ لَكم مِن فَلَتاتِ ألْسِنَتِهِمْ وفَحْوى كَلِماتِهِمْ لِأنَّهم لِشِدَّةِ بُغْضِهِمْ لَكم لا يَمْلِكُونَ أنْفُسَهم ولا يَقْدِرُونَ أنْ يَحْفَظُوا ألْسِنَتَهم، وقالَ قَتادَةُ: ظُهُورُ ذَلِكَ فِيما بَيْنَهم حَيْثُ أبْدى كُلٌّ مِنهم ما يَدُلُّ عَلى بُغْضِهِ لِلْمُسْلِمِينَ لِأخِيهِ، وفِيهِ بُعْدٌ، إذْ لا يُناسِبُهُ ما بَعْدَهُ، والأفْواهُ جَمْعُ فَمٍ وأصْلُهُ فُوهٌ، فَلامُهُ هاءٌ، والجُمُوعُ تَرُدُّ الأشْياءَ إلى أُصُولِها، ويَدُلُّ عَلى ذَلِكَ أيْضًا تَصْغِيرُهُ عَلى فُوَيْهٍ والنِّسْبَةُ إلَيْهِ فُوهِيٌّ، وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ قَدْ بَدا البَغْضاءُ ﴿وما تُخْفِي صُدُورُهُمْ﴾ مِنَ البَغْضاءِ ( ﴿أكْبَرُ﴾ ) أيْ أعْظَمُ مِمّا بَدا لِأنَّهُ كانَ عَنْ فَلْتَةٍ، ومِثْلُهُ لا يَكُونُ إلّا قَلِيلًا ﴿قَدْ بَيَّنّا لَكُمُ الآياتِ﴾ أيْ أظْهَرْنا لَكُمُ الآياتِ الدّالَّةَ عَلى النَّهْيِ عَنْ مُوالاةِ أعْداءِ اللَّهِ تَعالى ورَسُولِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، أوْ قَدْ أظْهَرْنا لَكُمُ الدَّلالاتِ الواضِحاتِ الَّتِي يَتَمَيَّزُ بِها الوَلِيُّ مِنَ العَدُّوِ ﴿إنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ (811) أيْ إنْ كُنْتُمْ مِن أهْلِ العَقْلِ، أوْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ الفَضْلَ بَيْنَ الوَلِيِّ والعَدُّوِ، أوْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ مَواعِظَ اللَّهِ تَعالى ومَنافِعَها، وجَوابُ إنْ مَحْذُوفٌ لِدَلالَةِ الكَلامِ عَلَيْهِ، ثُمَّ إنَّ هَذِهِ الجُمَلَ ما عَدا ﴿وما تُخْفِي صُدُورُهم أكْبَرُ﴾ لِأنَّها حالٌ لا غَيْرَ جاءَتْ مُسْتَأْنَفاتٌ جَوابًا عَنِ السُّؤالِ عَنِ النَّهْيِ، وتَرْكُ العَطْفِ بَيْنَها إيذانًا بِاسْتِقْلالِ كُلٍّ مِنها في ذَلِكَ، وقِيلَ: إنَّها في مَوْضِعٍ النَّعْتِ – لِبِطانَةٍ - إلّا ( قَدْ بَيَّنّا ) لِظُهُورِ أنَّها لا تَصْلُحُ لِذَلِكَ، والأوَّلُ أحْسَنُ لِما في الِاسْتِئْنافِ مِنَ الفَوائِدِ، وفي الصِّفاتِ مِنَ الدَّلالَةِ عَلى خِلافِ المَقْصُودِ أوْ إيهامِهِ لا أقَلَّ وهو تَقْيِيدُ النَّهْيِ ولَيْسَ المَعْنى عَلَيْهِ، وقِيلَ: إنَّ ﴿ودُّوا ما عَنِتُّمْ﴾ بَيانٌ وتَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ: ﴿لا يَأْلُونَكم خَبالا﴾ فَحُكْمُهُ حُكْمُهُ، وما عَدا ذَلِكَ مُسْتَأْنَفٌ لِلتَّعْلِيلِ عَلى طَرِيقِ التَّرْتِيبِ بِأنْ يَكُونَ اللّاحِقُ عِلَّةً لِلسّابِقِ إلى أنْ تَكُونَ الأُولى عِلَّةً لِلنَّهْيِ، ويَتِمُّ التَّعْلِيلُ بِالمَجْمُوعِ أيْ لا تَتَّخِذُوهم بِطانَةً لِأنَّهم لا يَأْلُونَكم خَبالًا لِأنَّهم يَوَدُّونَ شِدَّةَ ضَرَرِكم بِدَلِيلِ أنَّهم قَدْ تَبْدُو البَغْضاءُ مِن أفْواهِهِمْ، وإنْ كانُوا يُخْفُونَ الكَثِيرَ، ولا بُدَّ عَلى هَذا مِنِ اسْتِثْناءِ ( قَدْ بَيَّنّا ) إذْ لا يَصِحُّ تَعْلِيلًا لِبُدُوِّ البَغْضاءِ، ويَصْلُحُ تَعْلِيلًا لِلنَّهْيِ فافْهَمْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب