الباحث القرآني

﴿قَدْ كانَ لَكُمْ﴾ مِن تَتِمَّةِ القَوْلِ المَأْمُورِ بِهِ جِيءَ بِهِ لِتَقْرِيرِ مَضْمُونِ ما قَبْلَهُ وتَحْقِيقِهِ والخِطابُ لِلْيَهُودِ أيْضًا، واخْتارَهُ شَيْخُ الإسْلامِ وذَهَبَ إلَيْهِ البَلْخِيُّ، أيْ قَدْ كانَ لَكم أيُّها اليَهُودُ المُغْتَرُّونَ بِعَدَدِهِمْ وعُدَدِهِمْ (آيَةٌ) أيْ عَلامَةٌ عَظِيمَةٌ دالَّةٌ عَلى صِدْقِ ما أقُولُ لَكم أنَّكم سَتُغْلَبُونَ ﴿فِي فِئَتَيْنِ﴾ أيْ فِرْقَتَيْنِ أوْ جَماعَتَيْنِ مِنَ النّاسِ كانَتِ المَغْلُوبَةُ مِنهُما مُدِلَّةً بِكَثْرَتِها مُعْجَبَةً بِعِزَّتِها فَأصابَها ما أصابَها ﴿التَقَتا﴾ يَوْمَ بَدْرٍ ﴿فِئَةٌ تُقاتِلُ في سَبِيلِ اللَّهِ﴾ فَهي في أعْلى دَرَجاتِ الإيمانِ ولَمْ يَقُلْ مُؤْمِنَةً مَدْحًا لَهم بِما يَلِيقُ بِالمَقامِ ورَمْزًا إلى الِاعْتِدادِ بِقِتالِهِمْ، وقُرِئَ يُقاتِلُ عَلى تَأْوِيلِ الفِئَةِ بِالقَوْمِ أوِ الفَرِيقِ ﴿وأُخْرى كافِرَةٌ﴾ بِاَللَّهِ تَعالى فَهي أبْعَدُ مِن أنْ تَقاتُلَ في سَبِيلِهِ وإنَّما لَمْ تُوصَفْ بِما يُقابِلُ صِفَةَ الفِئَةِ الأُولى إسْقاطًا لِقِتالِهِمْ عَنْ دَرَجَةِ الِاعْتِبارِ وإيذانًا بِأنَّهُ لَمْ يَتَصَدَّوْا لَهُ لِما عَراهم مِنَ الهَيْبَةِ والوَجَلِ. و(كانَ) ناقِصَةٌ وعَلَيْهِ جُمْهُورُ المُعْرِبِينَ و(آيَةٌ) اِسْمُها وتَرْكُ التَّأْنِيثِ في الفِعْلِ لِأنَّ المَرْفُوعَ غَيْرُ حَقِيقِيِّ التَّأْنِيثِ ولِأنَّهُ مَفْصُولٌ ولِأنَّ الآيَةَ والدَّلِيلَ بِمَعْنًى، وفي الخَبَرِ وجْهانِ: أحَدُهُما (لَكُمْ)، و﴿فِي فِئَتَيْنِ﴾ نَعْتٌ لِآيَةٍ، والثّانِي أنَّ الخَبَرَ هو هَذا النَّعْتُ و(لَكُمْ) مُتَعَلِّقٌ بِ (كانَ) عَلى رَأْيِ مَن يَرى ذَلِكَ، وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ (لَكُمْ) في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلى الحالِ وقَدْ تَقَدَّمَ مِرارًا أنَّ وصْفَ النَّكِرَةِ إذا قُدِّمَ عَلَيْها كانَ حالًا و(اِلْتَقَتا) في حَيِّزِ الجَرِّ نَعْتٌ لِفِئَتَيْنِ، و(فِئَةٌ) خَبَرٌ لِمَحْذُوفٍ أيْ إحْداهُما فِئَةٌ وأُخْرى نَعْتٌ لِمُقَدَّرٍ أيْ وفِئَةٌ أُخْرى والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِتَقْرِيرِ ما في الفِئَتَيْنِ مِنَ الآيَةِ، وقِيلَ: فِئَةٌ وما عُطِفَ عَلَيْها بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ في ﴿التَقَتا﴾ وما بَعْدَهُما صِفَةٌ فَلا بُدَّ مِن ضَمِيرٍ مَحْذُوفٍ عائِدٍ إلى المُبْدَلِ مِنهُ مُسَوِّغٍ لِوَصْفِ البَدَلِ بِالجُمْلَةِ العارِيَةِ عَنْ ضَمِيرً، أيْ فِئَةٌ مِنهُما تُقاتِلُ الخ، وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنَ المُتَعاطِفَيْنِ مُبْتَدَأً وما بَعْدَهُما خَبَرٌ أيْ فِئَةٌ مِنهُما تُقاتِلُ الخ فِئَةً أُخْرى كافِرَةً، وقِيلَ: كُلٌّ مِنهُما مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الخَبَرِ أيْ مِنهُما فِئَةٌ الخ، وقُرِئَ (وأُخْرى كافِرَةً) بِالنَّصْبِ فِيهِما وهو عَلى المَدْحِ في الأُولى والذَّمِّ في الثّانِيةِ، وقِيلَ: عَلى الِاخْتِصاصِ، واعْتَرَضَهُ أبُو حَيّانَ بِأنَّ المَنصُوبَ عَلَيْهِ لا يَكُونُ نَكِرَةً، وأُجِيبَ بِأنَّ القائِلَ لَمْ يَعْنِ الِاخْتِصاصَ المُبَوَّبَ لَهُ في النَّحْوِ كَما في «نَحْنُ مُعاشِرَ الأنْبِياءِ لا نُورَثُ» وإنَّما عَنى النَّصْبَ بِإضْمارِ فِعْلٍ لائِقٍ، وأهْلُ البَيانِ يُسَمُّونَ هَذا النَّحْوَ اِخْتِصاصًا كَما قالَهُ الحَلَبِيُّ، (p-96)وجُوِّزَ أنْ يَكُونا حالَيْنِ كَأنَّهُ قِيلَ: اِلْتَقَتا مُؤْمِنَةً وكافِرَةً، وفِئَةٌ وأُخْرى عَلى هَذا تَوْطِئَةٌ لِلْحالِ، وقُرِئَ بِالجَرِّ فِيهِما عَلى البَدَلِيَّةِ مِن (فِئَتَيْنِ) بَدَلَ بَعْضٍ مِن كُلٍّ والضَّمِيرُ العائِدُ إلى المُبْدَلِ مِنهُ مُقَدَّرٌ عَلى نَحْوِ ما مَرَّ ويُسَمّى بَدَلًا تَفْصِيلِيًّا كَما في قَوْلِهِ: ؎وكُنْتُ كَذِي رِجْلَيْنِ رِجْلٍ صَحِيحَةٍ ورِجْلٍ رَماها صائِبُ الحِدْثانِ وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿يَرَوْنَهم مِثْلَيْهِمْ﴾ في حَيِّزِ الرَّفْعِ صِفَةٌ لِلْفِئَةِ الأخِيرَةِ أوْ مُسْتَأْنَفَةٌ مُبَيِّنَةٌ لِكَيْفِيَّةِ الآيَةِ. والمُرادُ كَما قالَ السُّدِّيُّ: تَرى الفِئَةُ الأخِيرَةُ الكافِرَةُ الفِئَةَ الأُولى المُؤْمِنَةَ مِثْلَ عَدَدِ الرّائِينَ وقَدْ كانُوا تِسْعَمِائَةٍ وخَمْسِينَ مُقاتِلًا كُلُّهم شاكُو السِّلاحِ، وعَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ وابْنِ مَسْعُودٍ كانُوا ألْفًا وسَقْفَ بَيْتٍ حَلَّهم ورَبَطَهم عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، وفِيهِمْ مِن صَنادِيدِ قُرَيْشٍ ورُؤَساءِ الضَّلالِ أبُو جَهْلٍ وأبُو سُفْيانَ وغَيْرُهُما، ومِنَ الإبِلِ والخَيْلِ سَبْعُمِائَةِ بَعِيرٍ ومِائَةُ فَرَسٍ، رَوى مُحَمَّدُ بْنُ الفُراتِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أوْسٍ أنَّهُ قالَ: أسَرَ المُشْرِكُونَ رَجُلًا مِنَ المُسْلِمِينَ فَسَألُوهُ كَمْ كُنْتُمْ؟ قالَ: ثَلاثَمِائَةٍ وبِضْعَةَ عَشَرَ، قالُوا: ما كُنّا نَراكم إلّا تَضْعُفُونَ عَلَيْنا وأرادُوا ألْفًا وتِسْعَمِائَةٍ وهو المُرادُ مِن ﴿يَرَوْنَهم مِثْلَيْهِمْ﴾ وزَعَمَ الفَرّاءُ أنَّهُ يَحْتَمِلُ إرادَةَ ثَلاثَةِ أمْثالِهِمْ لِأنَّكَ إذا قُلْتَ: عِنْدِي ألْفٌ وأحْتاجُ إلى مِثْلَيْها فَإنَّما تُرِيدُ إلى ألْفَيْنِ مُضافَيْنِ إلَيْها لا بَدَلًا مِنها فَهم كانُوا يَرَوْنَهم ثَلاثَةَ أمْثالِهِمْ، وأنْكَرَ هَذا الوَجْهَ الزَّجّاجُ لِمُخالَفَتِهِ لِظاهِرِ الكَلامِ، أوْ مِثْلَيْ عَدَدِ المَرْئِيِّينَ أيْ سِتَّمِائَةٍ ونَيِّفًا وعِشْرِينَ حَيْثُ كانَ عُدَّةُ المُرْسَلِينَ سَبْعَةً وسَبْعِينَ رَجُلًا مِنَ المُهاجِرِينَ ومِائَتَيْنِ وسِتَّةً وثَلاثِينَ مِنَ الأنْصارِ، وكانَ صاحِبُ لِواءِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ والمُهاجِرِينَ عَلِيًّا الكَرّارَ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ، وصاحِبُ رايَةِ الأنْصارِ سَعْدَ بْنَ عُبادَةَ، وكانَ مَعَهم مِنَ الإبِلِ سَبْعُونَ بَعِيرًا، ومِنَ الخَيْلِ فَرَسانَ فَرَسٌ لِلْمِقْدادِ بْنِ عَمْرٍو، وفَرَسٌ لِمَرْثَدِ بْنِ أبِي مَرْثَدٍ، ومِنَ السِّلاحِ سِتُّ أدْرُعٍ وثَمانِيَةُ سُيُوفٍ، وكانَ أكْثَرُهم رَجّالَةً، واسْتُشْهِدَ مِنهم يَوْمَئِذٍ أرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا سِتَّةٌ مِنَ المُهاجِرِينَ وثَمانِيَةٌ مِنَ الأنْصارِ، وقَدْ مَرَّتْ إلَيْهِ الإشارَةُ، وإنَّما أراهُمُ اللَّهُ تَعالى كَذَلِكَ مَعَ أنَّهم لَيْسُوا كَذَلِكَ لِيَهابُوهم ويَجْبُنُوا عَنْ قِتالِهِمْ وهو نَوْعٌ مِنَ التَّأْيِيدِ والمَدَدِ المَعْنَوِيِّ وكانَ ذَلِكَ عِنْدَ تَدانِي الفِئَتَيْنِ بَعْدَ أنْ قَلَّلَهُمُ اللَّهُ تَعالى في أعْيُنِهِمْ عِنْدَ التَّرائِي لِيَجْتَرِءُوا عَلَيْهِمْ ولا يَرْهَبُوا فَيَهْرُبُوا حَيْثُ يَنْفَعُ الهَرَبُ. وذَهَبَ جَماعَةٌ مِنَ العُلَماءِ إلى أنَّ المُرادَ تَرى الفِئَةُ المُؤْمِنَةُ الفِئَةَ الكافِرَةَ مِثْلَيْ أنْفُسِهِمْ مَعَ كَوْنِهِمْ ثَلاثَةَ أمْثالِهِمْ لِيَثْبُتُوا ويَطْمَئِنُّوا بِالنَّصْرِ المَوْعُودِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَإنْ يَكُنْ مِنكم مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾ . قالَ شَيْخُ الإسْلامِ مَوْلانا مُفْتِيَ الدِّيارِ الرُّومِيَّةِ: والأوَّلُ: هو أوْلى لِأنَّ رُؤْيَةَ المِثْلَيْنِ غَيْرُ مُتَعَيَّنَةٍ مِن جانِبِ المُؤْمِنِينَ بَلْ وقَدْ وقَعَتْ رُؤْيَةُ المِثْلِ بَلْ أقَلُّ مِنهُ أيْضًا فَإنَّهُ رُوِيَ أنَّ اِبْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ قالَ: نَظَرْنا إلى المُشْرِكِينَ فَرَأيْناهم يَضْعُفُونَ عَلَيْنا ثُمَّ نَظَرْنا إلَيْهِمْ فَلَمّا رَأيْناهم يَزِيدُونَ عَلَيْنا رَجُلًا واحِدًا ثُمَّ قَلَّلَهُمُ اللَّهُ تَعالى أيْضًا في أعْيُنِهِمْ حَتّى رَأوْهم عَدَدًا يَسِيرًا أقَلَّ مِن أنْفُسِهِمْ قالَ اِبْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ: لَقَدْ قُلِّلُوا في أعْيُنِنا يَوْمَ بَدْرٍ حَتّى قُلْتُ لِرَجُلٍ إلى جَنْبِي: تَراهم سَبْعِينَ؟ قالَ: أراهم مِائَةً فَأسَرْنا مِنهم رَجُلًا فَقُلْنا كَمْ كُنْتُمْ؟ قالَ: ألْفًا، فَلَوْ أُرِيدَ رُؤْيَةَ المُؤْمِنِينَ المُشْرِكِينَ أقَلَّ مِن عَدَدِهِمْ في نَفْسِ الأمْرِ كَما في الأنْفالِ لَكانَتْ رُؤْيَتُهم إيّاهم أقَلَّ مِن أنْفُسِهِمْ أحَقَّ بِالذِّكْرِ في كَوْنِها آيَةً مِن رُؤْيَتِهِمْ مِثْلَيْهِمْ عَلى أنَّ إبانَةَ آثارِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعالى وحِكْمَتِهِ لِلْكَفَرَةِ بِإراءَتِهِمُ القَلِيلَ كَثِيرًا والضَّعِيفَ قَوِيًّا وإلْقاءِ الرُّعْبِ في قُلُوبِهِمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ أدْخَلُ في كَوْنِها آيَةً لَهم وحُجَّةً عَلَيْهِمْ وأقْرَبُ إلى اِعْتِرافِ المُخاطَبِينَ بِذَلِكَ لِكَثْرَةِ مُخالَطَتِهِمْ لِلْكَفَرَةِ المُشاهِدِينَ لِلْحالِ، وكَذا تَعَلُّقُ الفِعْلِ بِالفاعِلِ أشَدُّ مِن تَعَلُّقِهِ بِالمَفْعُولِ فَجُعِلَ أقْرَبُ المَذْكُورَيْنِ السّابِقَيْنِ فاعِلًا وأبْعَدُهُما مَفْعُولًا سَواءٌ جَعْلُ الجُمْلَةِ صِفَةً أوْ مُسْتَأْنَفَةً أوْلى مِنَ العَكْسِ، اِنْتَهى. (p-97)ويُمْكِنُ أنْ يُقالَ مِن طَرَفِ الجُمْهُورِ الذّاهِبِينَ إلى أنَّ المُرادَ رُؤْيَةُ المُؤْمِنِينَ المُشْرِكِينَ مِثْلَيْ أنْفُسِهِمْ بِأنَّهُ التَّفْسِيرُ المَأْثُورُ عَنِ اِبْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ، ولا نُسَلِّمُ أنَّ رُؤْيَتَهم إيّاهم أقَلَّ مِن أنْفُسِهِمْ أحَقُّ بِالذِّكْرِ في كَوْنِها آيَةً مِن رُؤْيَتِهِمْ مِثْلَيْهِمْ لِجَوازِ أنْ تَكُونَ الآيَةُ والعَلامَةُ لِلْيَهُودِ عَلى أنَّهم سَيُغْلَبُونَ قِتالَ المُؤْمِنِينَ لِهَؤُلاءِ المُشْرِكِينَ وغَلَبَتَهم عَلَيْهِمْ مَعَ وُجُودِ السَّبَبِ العادِيِّ لِلْجُبْنِ وهو رُؤْيَةُ المُؤْمِنِينَ إيّاهم أكْثَرَ مِن أنْفُسِهِمْ وأوْفَرَ مِن عَدَدِهِمْ فَكَأنَّهُ قِيلَ: يا مَعْشَرَ اليَهُودِ تَحَقَّقُوا قِتالَ المُسْلِمِينَ لَكم وغَلَبَتَهم عَلَيْكم ولا تَغْتَرُّوا بِعِلْمِهِمْ بِقِلَّتِهِمْ وكَثْرَتِكم فَإنَّهم يُقْدِمُونَ عَلى قِتالِ مَن يَرَوْنَهُ أكْثَرَ مِنهم عَدَدًا ولا يَجْبُنُونَ ولا يَهابُونَ ويَنْتَصِرُونَ فَما ذاكَ إلّا لِأنَّ اللَّهَ تَعالى قَدْ مَلَأ قُلُوبَهم إيمانًا وشِدَّةً عَلى مَن خالَفَهم وأحاطَهم بِتَأْيِيدِهِ ونَصْرِهِ ووَعَدَهُمُ الوَعْدَ الجَمِيلَ. لا يُقالُ: إنَّ الأوْفَقَ لِهَذا الغَرَضِ أنْ يَرى المُؤْمِنُونَ المُشْرِكِينَ عَلى ما هم عَلَيْهِ مِن كَوْنِ المُشْرِكِينَ ثَلاثَةَ أمْثالِهِمْ أوْ يَرَوْنَهم أكْثَرَ مِن ذَلِكَ لِأنَّ إقْدامَهم حِينَئِذٍ عَلى قِتالِهِمْ أدَلُّ عَلى سَبَبِ الغَلَبَةِ عَلى اليَهُودِ لِأنّا نَقُولُ: نَعَمْ، الأمْرُ كَما ذَكَرَ إلّا أنَّ هَذِهِ الرُّؤْيَةَ لِوَفائِها بِالمَقْصُودِ مَعَ تَضَمُّنِها مَدْحَ المُؤْمِنِينَ بِالثَّباتِ النّاشِئِ مِن قُوَّةِ الإيمانِ بِالنَّصْرِ المَوْعُودِ آخِرًا بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَإنْ يَكُنْ مِنكم مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾ اُخْتِيرَتْ عَلى ما لَيْسَ فِيها إلّا أمْرٌ واحِدٌ غَيْرَ مُتَضَمِّنٍ لِذَلِكَ المَدْحِ المَخْصُوصِ، وعَلى هَذا لا يُحْتاجُ إلى اِلْتِزامِ كَوْنِ التَّثْنِيَةِ مَجازًا عَنِ التَّكْثِيرِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ثُمَّ ارْجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ﴾ ولا إلى القَوْلِ بِأنَّ ضَمِيرَ ﴿مِثْلَيْهِمْ﴾ راجِعٌ إلى الفِئَةِ الأخِيرَةِ أيْ تَرى الفِئَةُ المُؤْمِنَةُ الفِئَةَ الكافِرَةَ مِثْلَيْ عَدَدِ الفِئَةِ الكافِرَةِ أعْنِي قَرِيبًا مِن ألْفَيْنِ وإنْ ذَهَبَ إلى ذَلِكَ البَعْضُ ويُرَدُّ أيْضًا عَلى قَوْلِهِ: عَلى أنَّ إبانَةً الخ بَعْدَ تَسْلِيمِ أنَّ الإراءَةَ نَفْسَها كانَتْ هي الآيَةَ أنَّ إراءَةَ القَلِيلِ كَثِيرًا لَمْ تَقَعْ لِلْيَهُودِ المُخاطَبِينَ بِصَدْرِ الآيَةِ لِتَكُونَ إبانَةَ آثارِ قُدْرَتِهِ تَعالى بِذَلِكَ أدْخَلَ في كَوْنِها آيَةً لَهم وحُجَّةً عَلَيْهِمْ، وكَوْنُ ذَلِكَ أقْرَبَ لِاعْتِرافِهِمْ لِكَثْرَةِ مُخالَطَتِهِمُ الكَفَرَةَ الرّائِينَ يَتَوَقَّفُ عَلى أنَّ الرّائِينَ قَدْ أخْبَرُوهم بِذَلِكَ وأنَّهم صَدَّقُوا بِهِ ولَمْ يَحْمِلُوهُ عَلى أنَّهُ خُيِّلَ لَهم لِخَوْفِهِمْ بِسَبَبِ عَدَمِ عِلْمِهِمْ بِالحَرْبِ والخائِفُ يُخَيَّلُ إلَيْهِ أنَّ أشْجارَ البَيْداءِ شُجْعانٌ شاكِيَةٌ وأُسْدٌ ضارِيَةٌ، وإثْباتُ كُلٍّ مِن هَذِهِ الأُمُورِ صَعْبٌ عَلى أنَّ فِيما رَوى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وعِكْرِمَةُ عَنِ اِبْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما مِن أنَّ اليَهُودَ قالُوا لَهُ ﷺ بَعْدَ تِلْكَ الواقِعَةِ: لا يَغُرُّنَّكَ أنَّكَ لَقِيتَ قَوْمًا أغْمارًا لا عِلْمَ لَهم بِالحَرْبِ فَأصَبْتَ مِنهم فُرْصَةً ولَئِنْ قاتَلْتَنا لَعَلِمْتَ أنّا نَحْنُ النّاسُ، ما يُشْعِرُ في الجُمْلَةِ بِأنَّهم لَوْ أخْبَرُوهم بِذَلِكَ وصَدَّقُوا لَحَمَلُوهُ عَلى نَحْوِ ما ذَكَرْنا، وما ذُكِرَ مِن أنَّ تَعَلُّقَ الفِعْلِ بِالفاعِلِ أشَدُّ الخ، فَمُسَلَّمٌ إلّا أنّا لا نُسَلِّمُ أنَّهُ يَسْتَدْعِي أوْلَوِيَّةَ جَعْلِ أوَّلِ المَذْكُورَيْنِ السّابِقَيْنِ فاعِلًا وأبْعَدِهِما مَفْعُولًا مِنَ العَكْسِ مُطْلَقًا بَلْ ذَلِكَ إذا لَمْ يَكُنْ في العَكْسِ مَعْنًى لَطِيفٌ تَحْسُنُ مُراعاتُهُ نَظَرًا لِلْمَقامِ، وهُنا قَدْ كانَ ذَلِكَ لا سِيَّما وقَدْ سَبَقَ مَدْحُ الفِئَةِ الأُولى بِالمُقاتِلَةِ في سَبِيلِ اللَّهِ تَعالى وعُدِلَ عَنْ مَدْحِهِمْ بِالإيمانِ الَّذِي هو الأساسُ إلَيْهِ ولا شَكَّ أنَّ مُقاتَلَتَهم لِلْمُشْرِكِينَ مَعَ رُؤْيَتِهِمْ إيّاهم أكْثَرَ مِن أنْفُسِهِمْ ومِثْلَيْهِمْ أمْدَحُ وأمْدَحُ كَما لا يَخْفى. وقَرَأ نافِعٌ ويَعْقُوبُ (تَرَوْنَهُمْ) بِالتّاءِ واسْتُشْكِلَتْ عَلى تَقْدِيرِ كَوْنِ الخِطابِ لِلْيَهُودِ بِأنَّهم لَمْ يَرَوُا المُؤْمِنِينَ مِثْلَيْ أنْفُسِهِمْ ولا مِثْلَيِ الكافِرِينَ ولَمْ يَرَوُا الكافِرِينَ أيْضًا مِثْلَيْ أنْفُسِهِمْ ولا مِثْلَيِ المُؤْمِنِينَ، وأُجِيبَ بِأنَّهُ يَصِحُّ أنْ يُقالَ: إنَّهم رَأوُا المُؤْمِنِينَ مِثْلَيْ أنْفُسِهِمْ أوْ مِثْلَيِ الكافِرِينَ عَلى سَبِيلِ المَجازِ حَيْثُ نَزَلَتْ رُؤْيَةُ المُشْرِكِينَ مَنزِلَةَ رُؤْيَتِهِمْ لِما بَيْنَهم مِنَ الِاتِّحادِ في الكُفْرِ والِاتِّفاقِ في الكَلِمَةِ لا سِيَّما بَعْدَ ما وقَعَ بَيْنَهم بِواسِطَةِ كَعْبِ بْنِ الأشْرَفِ مِنَ العَهْدِ والمِيثاقِ فَأسْنُدِتِ الرُّؤْيَةُ إلَيْهِمْ مُبالَغَةً في البَيانِ وتَحْقِيقًا لِعَرُوضِ مِثْلِ تِلْكَ الحالَةِ لَهُمْ،، وكَذا يَصِحُّ أنْ يُقالَ: إنَّهم رَأوْا حَقِيقَةَ الكافِرِينَ مِثْلَيِ المُؤْمِنِينَ، (p-98)وتُحْمَلُ الرُّؤْيَةُ عَلى العِلْمِ والِاعْتِقادِ النّاشِئِ عَنِ الشُّهْرَةِ والتَّواتُرِ ويُلْتَزَمُ كَوْنُ الآيَةِ لَهم قِتالَ المُؤْمِنِينَ الكافِرِينَ وغَلَبَةَ الأوَّلِينَ الآخَرِينَ مَعَ كَوْنِهِمْ أكْثَرَ مِنهم إلّا أنَّهُ اُقْتُصِرَ عَلى أقَلِّ اللّازِمِ ويُعْلَمُ مِنهُ كَوْنُ قِتالِ المُؤْمِنِينَ وغَلَبَتِهِمْ عَلى الفِئَةِ الكافِرَةِ مَعَ كَوْنِها ثَلاثَةَ أمْثالِهِمْ في نَفْسِ الأمْرِ المَعْلُومِ لَهم أيْضًا آيَةً مِن بابِ أوْلى. ولِما في هَذَيْنَ الجَوابَيْنِ كَيْفَما كانَ اِلْتَزِمْ بَعْضُهم كَوْنَ الخِطابِ مِن أوَّلِ الأمْرِ لِلْمُشْرِكِينَ لِيَتَّضِحَ أمْرُ هَذِهِ القِراءَةِ، وأوْجَبَ عَلَيْهِ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿قَدْ كانَ لَكُمْ﴾ خِطابًا لَهم بَعْدَ ذَلِكَ ولا يَكُونُ داخِلًا تَحْتَ الأمْرِ بِناءً عَلى أنَّ الوَعِيدَ كانَ بِوَقْعَةِ بَدْرٍ ولا مَعْنى لِلِاسْتِدْلالِ بِها قَبْلَ وُقُوعِها، وجَعْلُ ذَلِكَ داخِلًا في مَفْعُولِ الأمْرِ إلّا أنَّهُ عَبَّرَ عَنِ المُسْتَقْبَلِ بِلَفْظِ الماضِي لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ لا يَخْلُو عَنْ شَيْءٍ. وجَعَلَ بَعْضُهُمُ الخِطابَ في قِراءَةِ نافِعٍ لِلْمُؤْمِنِينَ والتَزَمَ كَوْنَ الخِطابِ السّابِقِ لَهم أيْضًا عَلى أنَّهُ اِبْتِداءُ خِطابٍ في مَعْرِضِ الِامْتِنانِ عَلَيْهِمْ بِما سَبَقَ الوَعْدُ بِهِ، وقِيلَ: إنَّهُ لِجَمِيعِ الكَفَرَةِ، وقالَ بَعْضُ أئِمَّةِ التَّحْقِيقِ: القَوْلُ بِأنَّ الخِطابَ عامٌّ لِلْمُؤْمِنِينَ واليَهُودِ ومُشْرِكِي مَكَّةَ هو الَّذِي يَقْتَضِيهِ المَقامُ لِئَلّا يُقْتَطَعَ الكَلامُ ويَقَعُ التَّذْيِيلُ بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿واللَّهُ يُؤَيِّدُ﴾ الخ مَوْقِعَ المِسْكِ في الخِتامِ، ثُمَّ إنَّ مَن عَدَّ التَّعْبِيرَ عَنْ جَماعَةٍ بِطَرِيقٍ مِنَ الطُّرُقِ الثَّلاثَةِ مَعَ التَّعْبِيرِ بَعْدُ عَنِ البَعْضِ بِطَرِيقٍ آخَرَ يُخالِفُهُ مِنها مِنَ الِالتِفاتِ، قالَ بِوُجُودِهِ في الآيَةِ عَلى بَعْضِ اِحْتِمالاتِها، ومَن لَمْ يُعِدَّ ذَلِكَ مِنهُ كَما هو الظّاهِرُ أنْكَرَ الِالتِفاتَ فِيها، وبِهَذا يُجْمَعُ بَيْنَ أقْوالِ النّاظِرِينَ في الآيَةِ مِن هَذِهِ الحَيْثِيَّةِ واخْتِلافِهِمْ في وُجُودِ الِالتِفاتِ وعَدَمِهِ فِيها، فَأمْعِنِ النَّظَرَ فَإنَّهُ لِمِثْلِ هَذا المَبْحَثِ كُلِّهِ يُدَّخَرُ. وقَرَأ اِبْنُ مُصَرِّفٍ (يُرَوْنَهُمْ) عَلى البِناءِ لِلْمَفْعُولِ بِالياءِ والتّاءِ أيْ يُرِيهِمُ اللَّهُ تَعالى ذَلِكَ بِقُدْرَتِهِ. ﴿رَأْيَ العَيْنِ﴾ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِ (يَرَوْنَهُمْ) عَلى تَقْدِيرِ جَعْلِها بَصَرِيَّةٍ فَ (مِثْلَيْهِمْ) حِينَئِذٍ حالٌ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَصْدَرًا تَشْبِيهِيًّا عَلى تَقْدِيرِ جَعْلِها عِلْمِيَّةً اِعْتِقادِيَّةً أيْ رَأْيًا مِثْلَ رَأْيِ العَيْنِ فَ (مِثْلَيْهِمْ) حِينَئِذٍ مَفْعُولٌ ثانٍ، وقِيلَ: إنَّ (رَأْيَ) مَنصُوبٌ عَلى الظَّرْفِيَّةِ أيْ في رَأْيِ العَيْنِ ﴿واللَّهُ﴾ المُتَّصِفُ بِصِفاتِ الجَمالِ والجَلالِ ﴿يُؤَيِّدُ﴾ أيْ يُقَوِّي ﴿بِنَصْرِهِ﴾ أيْ بِعَوْنِهِ، وقِيلَ: بِحُجَّتِهِ ولَيْسَ بِالقَوِيِّ ﴿مَن يَشاءُ﴾ أنْ يُؤَيِّدَهُ مِن غَيْرِ تَوَسُّطِ الأسْبابِ المُعْتادَةِ كَما أيَّدَ الفِئَةَ المُقاتِلَةَ في سَبِيلِهِ وهو مِن تَمامِ القَوْلِ المَأْمُورِ بِهِ. ﴿إنَّ في ذَلِكَ﴾ المَذْكُورِ مِنَ النَّصْرِ، وقِيلَ: مِن تِلْكَ الرُّؤْيَةِ ﴿لَعِبْرَةً﴾ أيِ اِتِّعاظًا ودَلالَةً، وهي فِعْلَةٌ مِنَ العُبُورِ كالرِّكْبَةِ والجِلْسَةِ وهو التَّجاوُزُ، ومِنهُ عَبَرْتُ النَّهْرَ وسُمِّيَ الِاتِّعاظُ عِبْرَةً لِأنَّ المُتَّعِظَ يَعْبُرُ مِنَ الجَهْلِ إلى العِلْمِ ومِنَ الهَلاكِ إلى النَّجاةِ، والتَّنْوِينُ لِلتَّعْظِيمِ أيْ عِبْرَةً عَظِيمَةً كائِنَةً ﴿لأُولِي الأبْصارِ﴾ [ 13 ] جَمْعُ بَصَرٍ بِمَعْنى بَصِيرَةٍ مَجازًا أوْ بِمَعْناهُ المَعْرُوفِ أيْ لِذَوِي العُقُولِ والبَصائِرِ أوْ لِمَن أبْصَرَهم ورَآهم بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ، وهَذِهِ الجُمْلَةُ إمّا مِن تَمامِ الكَلامِ الدّاخِلِ تَحْتَ القَوْلِ مُقَرِّرَةٌ لِما قَبْلَها بِطَرِيقِ التَّذْيِيلِ وإمّا وارِدَةٌ مِن جِهَتِهِ تَعالى تَصْدِيقًا لِمَقالَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب