الباحث القرآني

(p-2)بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴿ولا تُجادِلُوا أهْلَ الكِتابِ﴾ مِنَ اليَهُودِ والنَّصارى، وقِيلَ: مِن نَصارى نَجْرانَ ﴿إلا بِالَّتِي هي أحْسَنُ﴾ بِالخَصْلَةِ الَّتِي هي أحْسَنُ كَمُقابَلَةِ الخُشُونَةِ بِاللِّينِ، والغَضَبِ بِالكَظْمِ، والمُشاغَبَةِ بِالنُّصْحِ، والسَّوْرَةِ بِالأناةِ كَما قالَ سُبْحانَهُ: ( ادْفَعْ بِالَّتِي هي أحْسَنُ ) [المُؤْمِنُونَ: 96، فُصِّلَتْ: 34]، ﴿إلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنهُمْ﴾ بِالإفْرادِ في الِاعْتِداءِ والعِنادِ، ولَمْ يَقْبَلُوا النُّصْحَ، ولَمْ يَنْفَعْ فِيهِمُ الرِّفْقُ، فاسْتَعْمَلُوا مَعَهُمُ الغِلْظَةَ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ مُجاهِدٍ أنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا هُمُ الَّذِينَ أثْبَتُوا الوَلَدَ والشَّرِيكَ أوْ قالُوا: يَدُ اللَّهِ تَعالى مَغْلُولَةٌ، أوِ اللَّهُ سُبْحانَهُ فَقِيرٌ، أوْ آذَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وهَذِهِ الغِلْظَةُ الَّتِي تُفْهِمُ الآيَةُ الإذْنَ بِها لا تَصِلُ إلى القِتالِ لِأُولَئِكَ الظّالِمِينَ مِن أهْلِ الكِتابِ عَلى أيِّ وجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ المَذْكُورَةِ كانَ ظُلْمُهُمْ، لِأنَّ ظاهِرَ كَوْنِ السُّورَةِ مَكِّيَّةً أنَّ هَذِهِ الآيَةَ مَكِّيَّةٌ، والقِتالُ في المَشْهُورِ لَمْ يُشْرَعْ بِمَكَّةَ، ولَيْسَتِ الغِلْظَةُ مَحْصُورَةً فِيهِ، كَما لا يَخْفى، وقِيلَ: المَعْنى: ولا تُجادِلُوا في الدّاخِلِينَ في الذِّمَّةِ المُؤَدِّينَ لِلْجِزْيَةِ إلّا بِالَّتِي هي أحْسَنُ إلّا الَّذِينَ ظَلَمُوا فَنَبَذُوا الذِّمَّةَ ومَنَعُوا الجِزْيَةَ، فَإنَّ أُولَئِكَ مُجادَلَتُهم بِالسَّيْفِ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ مُجاهِدٍ ما يَقْرُبُ مِنهُ، وتُعُقِّبَ بِأنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ، والحَرْبَ والجِزْيَةَ مِمّا شُرِعَ بِالمَدِينَةِ، وكَوْنُ الآيَةِ بَيانًا لِحُكْمٍ آتٍ بُعْدٌ بَعِيدٌ، وأيْضًا لا قَرِينَةَ عَلى التَّخْصِيصِ. وقِيلَ: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ القائِلُ بِذَلِكَ ذاهِبًا إلى أنَّ الآيَةَ مَدَنِيَّةٌ، ومَكِّيَّةَ السُّورَةِ بِاعْتِبارِ أغْلَبِ آياتِها، أوْ مِمَّنْ يَقُولُ: بِأنَّ الحَرْبَ شُرِعَ بِمَكَّةَ في آخِرِ الأمْرِ، والسُّورَةُ آخِرُ ما نَزَلَ بِها، إلّا أنَّهُ لَمْ يَقَعْ، وعَدَمُ الوُقُوعِ لا يَدُلُّ عَلى عَدَمِ المَشْرُوعِيَّةِ. وعَنِ ابْنِ زَيْدٍ أنَّ المُرادَ بِأهْلِ الكِتابِ مُؤْمِنُو أهْلِ الكِتابِ، وبِالَّتِي هي أحْسَنُ: مُوافَقَتُهم فِيما حَدَّثُوا بِهِ مِن أخْبارِ أوائِلِهِمْ، وبِالَّذِينِ ظَلَمُوا: مَن بَقِيَ مِنهم عَلى كُفْرِهِ، وهو كَما تَرى، واخْتُلِفَ في نَسْخِ الآيَةِ. فَأخْرَجَ أبُو داوُدَ في ناسِخِهِ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وابْنُ الأنْبارِيِّ في المَصاحِفِ عَنْ قَتادَةَ أنَّهُ قالَ: نَهى في هَذِهِ الآيَةِ عَنْ مُجادَلَةِ أهْلِ الكِتابِ، ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ فَقالَ سُبْحانَهُ: ﴿قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ولا بِاليَوْمِ الآخِرِ﴾ [التَّوْبَةُ: 29] الآيَةَ، ولا مُجادَلَةَ أشَدُّ مِنَ السَّيْفِ، وقالَ في مَجْمَعِ البَيانِ: الصَّحِيحُ أنَّها غَيْرُ مَنسُوخَةٍ، لِأنَّ المُرادَ بِالجِدالِ المُناظَرَةُ، وذَلِكَ عَلى الوَجْهِ الأحْسَنِ هو الواجِبُ الَّذِي لا يَجُوزُ غَيْرُهُ. وقالَ بَعْضُ الأجِلَّةِ: إنَّ المُجادَلَةَ بِالحُسْنى في أوائِلِ الدَّعْوَةِ، لِأنَّها تَتَقَدَّمُ القِتالَ، فَلا يَلْزَمُ النَّسْخُ، ولا عَدَمُ القِتالِ بِالكُلِّيَّةِ، وأمّا كَوْنُ النَّهْيِ يَدُلُّ عَلى عُمُومِ الأزْمانِ فَيَلْزَمُ النَّسْخُ، فَلا يَتِمُّ ما ذُكِرَ، فَيَدْفَعُهُ أنَّ مَن يُقاتِلُ كَمانِعِ الجِزْيَةِ داخِلٌ في المُسْتَثْنى، فَلا نَسْخَ، وإنَّما هو تَخْصِيصٌ بِمُتَّصِلٍ، وكَوْنُ ذَلِكَ يَقْتَضِي مَشْرُوعِيَّةَ القِتالِ بِمَكَّةَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأنَّهُ مَسْكُوتٌ عَنْهُ، فَتَأمَّلْ. (p-3)وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ «ألا بِالَّتِي» إلَخْ، عَلى أنَّ «ألا» حَرْفُ تَنْبِيهٍ واسْتِفْتاحٍ، والتَّقْدِيرُ، ألا جادِلُوهُمُ بِالَّتِي هي أحْسَنُ، ﴿وقُولُوا آمَنّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إلَيْنا﴾ مِنَ القُرْآنِ ﴿وأُنْزِلَ إلَيْكُمْ﴾ أيْ وبِالَّذِي أُنْزِلَ إلَيْكم مِنَ التَّوْراةِ، والإنْجِيلِ، وهَذا القَوْلُ نَوْعٌ مِنَ المُجادَلَةِ بِالَّتِي هي أحْسَنُ، وعَنْ سُفْيانَ بْنِ حُسَيْنٍ أنَّهُ قالَ: هَذِهِ مُجادَلَتُهم بِالَّتِي هي أحْسَنُ. وأخْرَجَ البُخارِيُّ، والنَّسائِيُّ، وغَيْرُهُما عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: «كانَ أهْلُ الكِتابِ يَقْرَؤُونَ الكِتابَ بِالعِبْرانِيَّةِ، ويُفَسِّرُونَها بِالعَرَبِيَّةِ لِأهْلِ الإسْلامِ، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: «لا تُصَدِّقُوا أهْلَ الكِتابِ، ولا تُكَذِّبُوهُمْ، وقُولُوا: آمَنّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إلَيْنا، وأُنْزِلَ إلَيْكُمُ» الآيَةَ». والتَّصْدِيقُ والتَّكْذِيبُ لَيْسا نَقِيضَيْنِ، فَيَجُوزُ ارْتِفاعُهُما. ﴿وإلَهُنا وإلَهُكم واحِدٌ﴾ لا شَرِيكَ لَهُ في الأُلُوهِيَّةِ ﴿ونَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ أيْ مُطِيعُونَ خاصَّةً كَما يُؤْذِنُ بِذَلِكَ تَقْدِيمُ ( لَهُ )، وفِيهِ تَعْرِيضٌ بِاتِّخاذِهِمْ أحْبارَهم ورُهْبانَهم أرْبابًا مِن دُونِ اللَّهِ تَعالى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب