﴿فَكُلا أخَذْنا بِذَنْبِهِ﴾ هَذا وما بَعْدَهُ كالفَذْلَكَةِ لِلْآياتِ المُتَضَمِّنَةِ تَعْذِيبَ مَن كَفَرَ ولَمْ يَمْتَثِلْ أمْرَ مَن أُرْسِلَ إلَيْهِ، وقالَ أبُو السُّعُودِ: هَذا تَفْسِيرٌ لِما يُنْبِئُ عَنْهُ عَدَمُ سَبْقِهِمْ بِطَرِيقِ الإبْهامِ وما بَعْدَهُ تَفْصِيلٌ لِلْأخْذِ، وفي القَلْبِ مِنهُ شَيْءٌ. وكَأنَّهُ اعْتَبَرَ رُجُوعَ ضَمِيرِ- كانُوا- إلى المُهْلَكِينَ، وقَدْ عُلِمَتْ حالُهُ وتَقْدِيمُ المَفْعُولِ لِلِاهْتِمامِ بِأمْرِ الِاسْتِيعابِ والِاسْتِغْراقِ، وقالَ الفاضِلُ: المَذْكُورُ لِلْحَصْرِ أيْ كُلُّ واحِدٍ مِنَ المَذْكُورِينَ عاقَبْناهُ بِجِنايَتِهِ لا بَعْضًا دُونَ بَعْضٍ، وبَحَثَ فِيهِ بِأنَّ (كُلًّا) مُتَكَفِّلَةٌ بِهَذا المَعْنى قُدِّمَتْ أوْ أُخِّرَتْ، وأُجِيبُ بِأنّا لا نُسَلِّمُ أنَّهُ يَفْهَمُ مِنها لا بَعْضًا إذا أخَّرَتْ وإنَّما يَفْهَمُ مِنها بِواسِطَةِ التَّقْدِيمِ فَتَأمَّلْ، والكَلامُ في مَرْجِعِ ضَمِيرٍ بِذَنْبِهِ سُؤالًا وجَوابًا لا يَخْفى عَلى مَن أحاطَ عِلْمًا بِما قِيلَ في قَوْلِهِمْ: كُلُّ رَجُلٍ وضَيْعَتُهُ. وقَوْلُهُمْ: التَّرْتِيبُ جَعْلُ كُلِّ شَيْءٍ في مَرْتَبَتِهِ، وهو شَهِيرٌ بَيْنَ الطَّلَبَةِ ﴿فَمِنهم مَن أرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِبًا﴾ أيْ رِيحًا عاصِفًا فِيها حَصْباءُ، وقِيلَ:
مَلَكًا رَماهم بِالحَصْباءِ وهم قَوْمُ لُوطٍ.
وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُشْبِهُ أنْ يَدْخُلَ عادٌ في ذَلِكَ لِأنَّ ما أُهْلِكُوا بِهِ مِنَ الرِّيحِ كانَتْ شَدِيدَةً وهي لا تَخْلُو عَنِ الحَصَبِ بِأُمُورٍ مُؤْذِيَةٍ، والحاصِبُ هو العارِضُ مِن رِيحٍ أوْ سَحابٍ إذا رُمِيَ بِشَيْءٍ ﴿ومِنهم مَن أخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ﴾ هم مَدْيَنُ وثَمُودُ ولَمْ يَقُلْ أخَذْناهُ بِالصَّيْحَةِ لِيُوافِقَ ما قَبْلَهُ وما بَعْدَهُ في إسْنادِ الفِعْلِ إلَيْهِ تَعالى الأوْفَقِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَكُلا أخَذْنا بِذَنْبِهِ﴾ دَفْعًا لِتَوَهُّمِ أنْ يَكُونَ سُبْحانَهُ هو الصّائِحَ ﴿ومِنهم مَن خَسَفْنا بِهِ الأرْضَ﴾ وهو قارُونُ ﴿ومِنهم مَن أغْرَقْنا﴾ وهو فِرْعَوْنُ ومَن مَعَهُ، وذَكَرَ بَعْضُهم قَوْمَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ أيْضًا. واعْتُرِضَ بِأنَّهم لَيْسُوا مِنَ المَذْكُورِينَ، وتُعُقِّبَ بِأنَّهم أوَّلُ المَذْكُورِينَ في هَذِهِ السُّورَةِ مِنَ الأُمَمِ السّالِفَةِ ولَعَلَّ المُعْتَرِضَ أرادَ بِالمَذْكُورِينَ المَذْكُورِينَ مُتَناسِقِينَ أيْ بِلا فَصْلٍ بِأُمَّةٍ لَمْ تُفِدْ قِصَّتُها إهْلاكَها، وقَوْمُ نُوحٍ وإنْ ذُكِرُوا أوَّلًا لَكِنْ فَصَلَ بَيْنَهم وبَيْنَ نَظائِرِهِمْ مِنَ المُهْلَكِينَ بِقِصَّةِ قَوْمِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ وهي لَمْ تُفِدْ أنَّهم أُهْلِكُوا، وذَكَرَ النَّيْسابُورِيُّ أنَّهُ سُبْحانَهُ قَرَّرَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَكُلا﴾ إلَخْ أمْرَ المُذْنِبِينَ بِإجْمالٍ آخَرَ يُفِيدُ أنَّهم عُذِّبُوا بِالعَناصِرِ الأرْبَعَةِ فَجَعَلَ ما مِنهُ تَرْكِيبُهم سَبَبًا لِعَدَمِهِمْ وما مِنهُ بَقاؤُهم سَبَبًا لِفَنائِهِمْ، فالحاصِبُ وهو حِجارَةٌ مُحْماةٌ تَقَعُ عَلى كُلِّ واحِدٍ مِنهم فَتَنْفُذُ مِنَ الجانِبِ الآخَرِ إشارَةً إلى التَّعْذِيبِ بِعُنْصُرِ النّارِ، والصَّيْحَةُ وهي تَمَوُّجٌ شَدِيدٌ في الهَواءِ إشارَةٌ إلى التَّعْذِيبِ بِعُنْصُرِ الهَواءِ، والخَسْفُ إشارَةٌ إلى التَّعْذِيبِ بِعُنْصُرِ التُّرابِ، والغَرَقُ إشارَةٌ إلى التَّعْذِيبِ بِعُنْصُرِ الماءِ اهـ ولا يَخْفى ما فِيهِ ﴿وما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ﴾ أيْ ما كانَ سُبْحانَهُ مُرِيدًا لِظُلْمِهِمْ وذَلِكَ بِأنْ يُعاقِبَهم مِن غَيْرِ جُرْمٍ لِأنَّهُ خِلافُ ما تَقْتَضِيهِ الحِكْمَةُ. وفي أنْوارِ التَّنْزِيلِ أيْ ما كانَ سُبْحانَهُ لِيُعامِلَهم مُعامَلَةَ الظّالِمِ فَيُعاقِبَهم بِغَيْرِ جُرْمٍ إذْ لَيْسَ ذَلِكَ مِن سُنَّتِهِ عَزَّ وجَلَّ، ويُفِيدُ ذَلِكَ أنَّهُ لَوْ وقَعَ مِنهُ تَعالى تَعْذِيبُهم مِن غَيْرِ جُرْمٍ لا يَكُونُ ظُلْمًا لِأنَّهُ تَعالى مالِكُ المُلْكِ يَتَصَرَّفُ بِهِ كَما يَشاءُ فَلَهُ أنْ يُثِيبَ العاصِيَ ويُعَذِّبَ المُطِيعَ، وهَذا أمْرٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ الأشاعِرَةِ والكَلامُ في تَحْقِيقِهِ يُطْلَبُ مِن عِلْمِ الكَلامِ. وقَدْ أسْلَفْنا في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لا يُسْألُ عَمّا يَفْعَلُ وهم يُسْألُونَ﴾ [الأنْبِياءِ: 23] ما يَنْفَعُكَ في هَذا المَقامِ تَذَكُّرُهُ فَتَذَكَّرْ ﴿ولَكِنْ كانُوا أنْفُسَهم يَظْلِمُونَ﴾ بِالِاسْتِمْرارِ عَلى مُباشَرَةِ ما يُوجِبُ ذَلِكَ مِنَ الكُفْرِ والمَعاصِي بِاخْتِيارِهِمْ، وقالَ مَوْلانا الشَّيْخُ إبْراهِيمُ الكُورانِيُّ ما حاصِلُهُ: إنَّ ظُلْمَ الكَفَرَةِ أنْفُسَهم (p-160)إنَّما هو لِسُوءِ اسْتِعْدادِهِمُ الَّذِي هم عَلَيْهِ في نَفْسِ الأمْرِ مِن غَيْرِ مَدْخَلٍ لِلْجَعْلِ فِيهِ وبِلِسانِ ذَلِكَ الِاسْتِعْدادِ طَلَبُوا مِنَ الجَوادِ المُطْلَقِ جَلَّ وعَلا ما صارَ سَبَبًا لِظُهُورِ شَقائِهِمْ اهـ، والبَحْثُ في ذَلِكَ طَوِيلُ الذَّيْلِ فَلْيُطْلَبْ مِن مَحَلِّهِ، وتَقْدِيمُ المَعْمُولِ لِرِعايَةِ رُؤُوسِ الآيِ
{"ayah":"فَكُلًّا أَخَذۡنَا بِذَنۢبِهِۦۖ فَمِنۡهُم مَّنۡ أَرۡسَلۡنَا عَلَیۡهِ حَاصِبࣰا وَمِنۡهُم مَّنۡ أَخَذَتۡهُ ٱلصَّیۡحَةُ وَمِنۡهُم مَّنۡ خَسَفۡنَا بِهِ ٱلۡأَرۡضَ وَمِنۡهُم مَّنۡ أَغۡرَقۡنَاۚ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِیَظۡلِمَهُمۡ وَلَـٰكِن كَانُوۤا۟ أَنفُسَهُمۡ یَظۡلِمُونَ"}