الباحث القرآني

﴿ولا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ﴾ أيْ ولا تَعْبُدْ مَعَهُ تَعالى غَيْرَهُ عَزَّ وجَلَّ، وهَذا وما قَبْلَهُ لِلتَّهْيِيجِ والإلْهابِ وقَطْعِ أطْماعِ المُشْرِكِينَ عَنْ مُساعَدَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إيّاهم وإظْهارِ أنَّ المَنهِيَّ عَنْهُ في القُبْحِ والشَّرْيَةِ بِحَيْثُ يَنْهى عَنْهُ مَن لا يُتَصَوَّرُ وُقُوعُهُ مِنهُ أصْلًا، ورَوى مُحْيِي السُّنَّةِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما أنَّهُ قالَ: الخِطابُ في الظّاهِرِ لِلنَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، والمُرادُ بِهِ أهْلُ دِينِهِ وهو في مَعْنى ما حَكى عَنْهُ الطَّبَرْسِيُّ أنَّ هَذا وأمْثالَهُ مِن بابِ: إيّاكِ أعْنِي واسْمَعِي يا جارَةُ. لا ﴿إلَهَ إلا هُوَ﴾ وحْدَهُ ﴿كُلُّ شَيْءٍ﴾ أيُّ مَوْجُودٍ مُطْلَقًا ﴿هالِكٌ﴾ أيْ مَعْدُومٌ مَحْضٌ، والمُرادُ كَوْنُهُ كالمَعْدُومِ وفي حُكْمِهِ ﴿إلا وجْهَهُ﴾ أيْ إلّا ذاتَهُ عَزَّ وجَلَّ وذَلِكَ لِأنَّ وُجُودَ ما سِواهُ سُبْحانَهُ لِكَوْنِهِ لَيْسَ ذاتِيًّا بَلْ هو مُسْتَنِدٌ إلى الواجِبِ تَعالى في كُلِّ آنٍ قابِلٌ لِلْعَدَمِ وعُرْضَةٌ لَهُ فَهو كَلا وُجُودٍ وهَذا ما اخْتارَهُ غَيْرُ واحِدٍ مِنَ الأجِلَّةِ، والكَلامُ عَلَيْهِ مِن قَبِيلِ التَّشْبِيهِ البَلِيغِ، والوَجْهُ بِمَعْنى الذّاتِ مَجازٌ مُرْسَلٌ وهو مَجازٌ شائِعٌ وقَدْ يَخْتَصُّ بِما شَرُفَ مِنَ الذَّواتِ، وقَدْ يُعْتَبَرُ ذَلِكَ هُنا، ويَجْعَلُ نُكْتَةً لِلْعُدُولِ عَنْ إلّا إيّاهُ إلى ما في النَّظْمِ الجَلِيلِ. وفِي الآيَةِ بِناءً عَلى ما هو الأصْلُ مِنِ اتِّصالِ الِاسْتِثْناءِ دَلِيلٌ عَلى صِحَّةِ إطْلاقِ الشَّيْءِ عَلَيْهِ جَلَّ وعَلا. (p-131)وقَرِيبٌ مِن هَذا ما قِيلَ: المَعْنى كُلُّ ما يُطْلَقُ عَلَيْهِ المَوْجُودُ مَعْدُومٌ في حَدِّ ذاتِهِ إلّا ذاتَهُ تَعالى، وقِيلَ: الوَجْهُ بِمَعْنى الذّاتِ إلّا أنَّ المُرادَ ذاتُ الشَّيْءِ، وإضافَتُهُ إلى ضَمِيرِهِ تَعالى بِاعْتِبارِ أنَّهُ مَخْلُوقٌ لَهُ سُبْحانَهُ نَظِيرُ ما قِيلَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿تَعْلَمُ ما في نَفْسِي ولا أعْلَمُ ما في نَفْسِكَ﴾ [المائِدَةِ: 116] مِن أنَّ المُرادَ بِالنَّفْسِ الثّانِي نَفْسُ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ وإضافَتُهُ إلَيْهِ تَعالى بِاعْتِبارِ أنَّهُ مَخْلُوقٌ لَهُ جَلَّ وعَلا، والمَعْنى كُلُّ شَيْءٍ قابِلٌ لِلْهَلاكِ والعَدَمِ إلّا الذّاتَ مِن حَيْثُ اسْتِقْبالُها لِرَبِّها ووُقُوفُها في مِحْرابِ قُرْبِها فَإنَّها مِن تِلْكَ الحَيْثِيَّةِ لا تَقْبَلُ العَدَمَ، وقِيلَ: الوَجْهُ بِمَعْنى الجِهَةِ الَّتِي تُقْصَدُ ويُتَوَجَّهُ إلَيْها، والمَعْنى كُلُّ شَيْءٍ مَعْدُومٌ في حَدِّ ذاتِهِ إلّا الجِهَةَ المَنسُوبَةَ إلَيْهِ تَعالى وهو الوُجُودُ الَّذِي صارَ بِهِ مَوْجُودًا، وحاصِلُهُ أنَّ كُلَّ جِهاتِ المَوْجُودِ مِن ذاتِهِ وصِفاتِهِ وأحْوالِهِ هالِكَةٌ مَعْدُومَةٌ في حَدِّ ذاتِها إلّا الوُجُودَ الَّذِي هو النُّورُ الإلَهِيُّ، ومِنَ النّاسِ مَن جَعَلَ ضَمِيرَ وجْهِهِ لِلشَّيْءِ وفَسَّرَ الشَّيْءَ بِالمَوْجُودِ بِمَعْنى ما لَهُ نِسْبَةٌ إلى حَضْرَةِ الوُجُودِ الحَقِيقِيِّ القائِمِ بِذاتِهِ وهو عَيْنُ الواجِبِ سُبْحانَهُ، وفَسَّرَ الوَجْهَ بِهَذا الوُجُودِ لِأنَّ المَوْجُودَ يَتَوَجَّهُ إلَيْهِ ويُنْسَبُ، والمَعْنى كُلُّ مَنسُوبٍ إلى الوُجُودِ مَعْدُومٌ إلّا وجْهَهُ الَّذِي قَصَدَهُ وتَوَجَّهَ إلَيْهِ وهو الوُجُودُ الحَقِيقِيُّ القائِمُ بِذاتِهِ الَّذِي هو عَيْنُ الواجِبِ جَلَّ وعَلا، ولا يَخْفى الغَثُّ والسَّمِينُ مِن هَذِهِ الأقْوالِ، وعَلَيْها كُلُّها يَدْخُلُ العَرْشُ والكُرْسِيُّ والسَّماواتُ والأرْضُ والجَنَّةُ والنّارُ، ونَحْوُ ذَلِكَ في العُمُومِ. وقالَ غَيْرُ واحِدٍ: المُرادُ بِالهَلاكِ خُرُوجُ الشَّيْءِ عَنِ الِانْتِفاعِ بِهِ المَقْصُودِ مِنهُ إمّا بِتَفَرُّقِ أجْزائِهِ أوْ نَحْوِهِ، والمَعْنى كُلُّ شَيْءٍ سَيَهْلَكُ ويَخْرُجُ عَنِ الِانْتِفاعِ بِهِ المَقْصُودِ مِنهُ إلّا ذاتَهُ عَزَّ وجَلَّ، والظّاهِرُ أنَّهُ أرادَ بِالشَّيْءِ المَوْجُودِ المُطْلَقَ لا المَوْجُودَ وقْتَ النُّزُولِ فَقَطْ فَيُؤَوَّلُ المَعْنى إلى قَوْلِنا: كُلُّ مَوْجُودٍ في وقْتٍ مِنَ الأوْقاتِ سَيَهْلَكُ بَعْدَ وُجُودِهِ إلّا ذاتَهُ تَعالى، فَيَدُلُّ ظاهِرُ الآيَةِ عَلى هَلاكِ العَرْشِ والجَنَّةِ والنّارِ والَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ عَدَمُ هَلاكِ الأخِيرَيْنِ. وجاءَ في الخَبَرِ «أنَّ الجَنَّةَ سَقْفُها عَرْشُ الرَّحْمَنِ،» ولِهَذا اعْتُرِضَ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى القائِلِينَ بِوُجُودِ الجَنَّةِ والنّارِ الآنَ والمُنْكِرِينَ لَهُ القائِلِينَ بِأنَّهُما سَيُوجَدانِ يَوْمَ الجَزاءِ ويَسْتَمِرّانِ أبَدَ الآبادِ، واخْتَلَفُوا في الجَوابِ عَنْ ذَلِكَ فَمِنهم مَن قالَ: إنَّ كُلًّا لَيْسَتْ لِلْإحاطَةِ بَلْ لِلتَّكْثِيرِ كَما في قَوْلِكَ: كُلُّ النّاسِ جاءَ إلّا زَيْدًا إذا جاءَ أكْثَرُهم دُونَ زَيْدٍ، وأُيِّدَ بِما رُوِيَ عَنِ الضَّحّاكِ أنَّهُ قالَ في الآيَةِ: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إلّا اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ والعَرْشَ والجَنَّةَ والنّارَ، ومِنهم مَن قالَ: إنَّ المُرادَ بِالهَلاكِ المَوْتُ والعُمُومُ بِاعْتِبارِ الأحْياءِ المَوْجُودِينَ في الدُّنْيا، وأُيِّدَ بِما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قالَ في تَفْسِيرِ الآيَةِ: كُلُّ حَيٍّ مَيِّتٌ إلّا وجْهَهُ. وأخْرَجَ عَنْهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ أنَّهُ قالَ: «لَمّا نَزَلَتْ (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ المَوْتِ) [آلِ عِمْرانَ: 185، الأنْبِياءِ: 35، العَنْكَبُوتِ: 57] قِيلَ: يا رَسُولَ اللَّهِ فَما بالُ المَلائِكَةِ؟ فَنَزَلَتْ ﴿كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إلا وجْهَهُ﴾» فَبَيَّنَ في هَذِهِ الآيَةِ فَناءَ المَلائِكَةِ والثَّقَلَيْنِ مِنَ الجِنِّ والإنْسِ وسائِرِ عالَمِ اللَّهِ تَعالى وبَرِّيَّتِهِ مِنَ الطَّيْرِ والوُحُوشِ والسِّباعِ والأنْعامِ وكُلِّ ذِي رُوحٍ أنَّهُ هالِكٌ مَيِّتٌ، وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّ تَخْصِيصَ الشَّيْءِ بِالحَيِّ المَوْجُودِ في الدُّنْيا لا بُدَّ لَهُ مِن قَرِينَةٍ فَإنِ اعْتُبِرَ كَوْنُهُ مَحْكُومًا عَلَيْهِ بِالهَلاكِ حَيْثُ شاعَ اسْتِعْمالُهُ في المَوْتِ وهو إنَّما يَكُونُ في الدُّنْيا قَرِينَةً فَذاكَ وإلّا فَهو كَما تَرى، ومِنَ النّاسِ مَنِ التَزَمَ ما يَقْتَضِيهِ ظاهِرُ العُمُومِ مِن أنَّهُ كُلُّ ما يُوجَدُ في وقْتٍ مِنَ الأوْقاتِ في الدُّنْيا والأُخْرى يَصِيرُ هالِكًا بَعْدَ وُجُودِهِ بِناءً عَلى تَجَدُّدِ الجَواهِرِ وعَدَمِ بَقاءِ شَيْءٍ مِنها زَمانَيْنِ كالإعْراضِ عِنْدَ الأشْعَرِيِّ، ولا يَخْفى بُطْلانُهُ، وإنْ ذَهَبَ إلى ذَلِكَ بَعْضُ أكابِرِ الصُّوفِيَّةِ قُدِّسَتْ أسْرارُهم. (p-132)وقالَ سُفْيانُ الثَّوْرِيُّ: وجْهُهُ تَعالى العَمَلُ الصّالِحُ الَّذِي تُوُجِّهَ بِهِ إلَيْهِ عَزَّ وجَلَّ، فَقِيلَ: في تَوْجِيهِ الِاسْتِثْناءِ إنَّ العَمَلَ المَذْكُورَ قَدْ كانَ في حَيِّزِ العَدَمِ فَلَمّا فَعَلَهُ العَبْدُ مُمْتَثِلًا أمْرَهُ تَعالى أبْقاهُ جَلَّ شَأْنُهُ لَهُ إلى أنْ يُجازِيَهُ عَلَيْهِ أوْ أنَّهُ بِالقَبُولِ صارَ غَيْرَ قابِلٍ لِلْفَناءِ لِما أنَّ الجَزاءَ عَلَيْهِ قامَ مَقامَهُ وهو باقٍ، ورُوِيَ عَنْ أبِي عَبْدِ اللَّهِ الرِّضا رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ أنَّهُ ارْتَضى نَحْوَ ذَلِكَ، وقالَ المَعْنى كُلُّ شَيْءٍ مِن أعْمالِ العِبادِ هالِكٌ وباطِلٌ إلّا ما أُرِيدَ بِهِ وجْهُهُ تَعالى، وزَعَمَ الخَفاجِيُّ أنَّ هَذا كَلامٌ ظاهِرِيٌّ. وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: المُرادُ بِالوَجْهِ جاهُهُ تَعالى الَّذِي جَعَلَهُ في النّاسِ وهو كَما تَرى لا وجْهَ لَهُ، والسَّلَفُ يَقُولُونَ: الوَجْهُ صِفَةٌ نُثْبِتُها لِلَّهِ تَعالى ولا نَشْتَغِلُ بِكَيْفِيَّتِها ولا بِتَأْوِيلِها بَعْدَ تَنْزِيهِهِ عَزَّ وجَلَّ عَنِ الجارِحَةِ ﴿لَهُ الحُكْمُ﴾ أيِ القَضاءُ النّافِذُ في الخَلْقِ ﴿وإلَيْهِ﴾ عَزَّ وجَلَّ ﴿تُرْجَعُونَ﴾ عِنْدَ البَعْثِ لِلْجَزاءِ بِالحَقِّ والعَدْلِ لا إلى غَيْرِهِ تَعالى ورُجُوعُ العِبادِ إلَيْهِ تَعالى عِنْدَ الصُّوفِيَّةِ أهْلِ الوَحْدَةِ بِمَعْنى ما وراءَ طَوْرِ العَقْلِ. وقِيلَ: ضَمِيرُ إلَيْهِ لِلْحُكْمِ، وقَرَأ عِيسى «تَرْجِعُونَ» مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ، هَذا والكَلامُ مِن بابِ الإشارَةِ في آياتِ هَذِهِ السُّورَةِ أكْثَرُهُ فِيما وقَفْنا عَلَيْهِ مِن بابِ تَطْبِيقِ ما في الآفاقِ عَلى ما في الأنْفُسِ ولَعَلَّهُ يُعْلَمُ بِأدْنى تَأمُّلٍ فِيما مَرَّ بِنا في نَظائِرِها فَتَأمَّلْ واللَّهِ تَعالى الهادِي إلى سَواءِ السَّبِيلِ وهو جَلَّ وعَلا حَسَبُنا ونِعْمَ الوَكِيلُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب