الباحث القرآني

﴿قالَ﴾ مُجِيبًا لِمَن نَصَحَهُ ﴿إنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي﴾ كَأنَّهُ يُرِيدُ الرَّدَّ عَلى قَوْلِهِمْ: كَما أحْسَنَ اللَّهُ إلَيْكَ لِإنْبائِهِ عَنْ أنَّهُ تَعالى أنْعَمَ عَلَيْهِ بِتِلْكَ الأمْوالِ والذَّخائِرِ مِن غَيْرِ سَبَبٍ واسْتِحْقاقٍ مِن قِبَلِهِ، وحاصِلُهُ دَعْوى اسْتِحْقاقِهِ لِما أُوتِيَهُ لِما هو عَلَيْهِ مِنَ العِلْمِ، وقَوْلُهُ ﴿عَلى عِلْمٍ﴾ عِنْدَ أكْثَرِ المُعْرِبِينَ في مَوْضِعِ الحالِ مِن مَرْفُوعِ أُوتِيتُهُ قُيِّدَ بِهِ العامِلُ إشارَةً إلى عِلَّةِ الإيتاءِ ووَجْهِ اسْتِحْقاقِهِ لَهُ أيْ إنَّما أُوتِيتُهُ كائِنًا عَلى عِلْمٍ، وجُوِّزَ كَوْنُ عَلى تَعْلِيلِيَّةً والجارُّ والمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِـ أُوتِيتُ عَلى أنَّهُ ظَرْفُ لَغْوٍ كَأنَّهُ قِيلَ أُوتِيتُهُ لِأجْلِ عِلْمٍ، (وعِنْدِي) في مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِعِلْمٍ والمُرادُ لِعِلْمٍ مُخْتَصٍّ بِي دُونَكُمْ، وجُوِّزَ كَوْنُهُ مُتَعَلِّقًا بِـ أُوتِيتُ، ومَعْناهُ في ظَنِّي ورَأْيِي كَما في قَوْلِكَ: حُكْمُ كَذا الحَلِّ عِنْدَ أبِي حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ، وفي الكَشّافِ ما هو ظاهِرٌ في أنَّ عِنْدِي إذا كانَ بِمَعْنى في ظَنِّي ورَأْيِي كانَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أيْ هو في ظَنِّي ورَأْيِي هَكَذا، والجُمْلَةُ عَلَيْهِ مُسْتَأْنِفَةٌ تُقَرِّرُ أنَّ ما ذَكَرَهُ رَأْيٌ مُسْتَقِرٌّ هو عَلَيْهِ، قالَ في الكَشْفِ: وهَذا هو الوَجْهُ، والمُرادُ بِهَذا العِلْمِ قِيلَ عِلْمُ التَّوْراةِ فَإنَّهُ كانَ أعْلَمَ بَنِي إسْرائِيلَ بِها، وقالَ أبُو سُلَيْمانَ الدّارانِيُّ: عِلْمُ التِّجارَةِ ووُجُوهُ المَكاسِبِ، وقالَ ابْنُ المُسَيَّبِ: عِلْمُ الكِيمْياءِ، وكانَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ يَعْلَمُ ذَلِكَ فَأفادَ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ ثُلُثَهُ وكالَبُ بْنُ يُوفِنا ثُلُثَهُ وقارُونُ ثُلُثَهُ فَخَدَعَهُما قارُونُ حَتّى أضافَ عِلْمَهُما إلى عِلْمِهِ فَكانَ يَأْخُذُ الرَّصاصَ والنُّحاسَ فَيَجْعَلُهُما ذَهَبًا، وقِيلَ: عَلَّمَ اللَّهُ تَعالى مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ عِلْمَ الكِيمْياءِ فَعَلَّمَهُ مُوسى أُخْتَهُ فَعَلَّمَتْهُ أُخْتُهُ قارُونَ، ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ تَخْصِيصُهُ بِعِلْمِ صَنْعَةِ الذَّهَبِ، وقِيلَ: عِلْمُ اسْتِخْراجِ الكُنُوزِ والدَّفائِنِ، وعَنِ ابْنِ زَيْدٍ أنَّ المُرادَ بِالعِلْمِ عِلْمُ اللَّهِ تَعالى وأنَّ المَعْنى أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ مِنَ اللَّهِ تَعالى وتَخْصِيصٍ مِن لَدُنْهُ سُبْحانَهُ قَصَدَنِي بِهِ، (وعِنْدِي) عَلَيْهِ بِمَعْنى في ظَنِّي ورَأْيِي، وقِيلَ: العِلْمُ بِمَعْنى المَعْلُومِ مِثْلُهُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِن عِلْمِهِ﴾ [البَقَرَةِ: 255] وإلى ذَلِكَ يُشِيرُ ما رُوِيَ عَنْ مُقاتِلٍ أنَّهُ قالَ: أيْ عَلى خَيْرٍ عَلَّمَهُ اللَّهُ تَعالى عِنْدِي وتَفْسِيرُهُ بِعِلْمِ الكِيمْياءِ شائِعٌ فِيما بَيْنَ أهْلِها، وفي مَجْمَعِ البَيانِ حِكايَتُهُ عَنِ الكَلْبِيِّ أيْضًا، وأنْكَرَهُ الزَّجّاجُ وقالَ: إنَّهُ لا يَصِحُّ لِأنَّ عِلْمَ الكِيمْياءِ باطِلٌ لا حَقِيقَةَ لَهُ، وتَعَقَّبَهُ الطَّيِّبِيُّ بِأنَّهُ لَعَلَّهُ كانَ مِن قَبِيلِ المُعْجِزِ، وتُعُقِّبَ بِأنَّهُ لَيْسَ بِسَدِيدٍ وإلّا لَما تَمَكَّنَ قارُونُ مِنهُ، وإنْكارُ الكِيمْياءِ وهو لَفْظٌ يُونانِيٌّ مَعْناهُ الحِيلَةُ أوْ عِبْرانِيٌّ وأصْلُهُ كِيمْ يَهْ بِمَعْنى أنَّهُ مِنَ اللَّهِ تَعالى أوْ فارِسِيٌّ وأصْلُهُ كِي مِيا بِمَعْنى مَتى يَجِيءُ عَلى سَبِيلِ الِاسْتِبْعادِ غَلَبَ عَلى تَحْصِيلِ النَّقْدَيْنِ (p-114)بِطَرِيقٍ مَخْصُوصٍ مِمّا لَمْ يَخْتَصَّ بِالزَّجّاجِ بَلْ أنْكَرَها جَماعَةٌ أجِلَّةٌ وقالُوا بِعَدَمِ إمْكانِها، وذَهَبَ آخَرُونَ إلى خِلافِ ذَلِكَ. وإذا أرَدْتَ نُبْذَةً مِنَ الكَلامِ في ذَلِكَ فاسْتَمِعْ لِما يُتْلى عَلَيْكَ. ذَكَرَ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ أنَّ مَبْنى الكَلامِ في هَذِهِ الصِّناعَةِ عِنْدَ الحُكَماءِ عَلى حالِ المَعادِنِ السَّبْعَةِ المُنْطَرِقَةِ وهي الذَّهَبُ والفِضَّةُ والرَّصاصُ والقَزْدِيرُ والنُّحاسُ والحَدِيدُ والخارْصِينِيُّ هَلْ هي مُخْتَلِفاتٌ بِالفُصُولِ فَيَكُونُ كُلٌّ مِنها نَوْعًا غَيْرَ النَّوْعِ الآخَرِ أوْ هي مُخْتَلِفاتٌ بِالخَواصِّ والكَيْفِيّاتِ فَقَطْ فَتَكُونُ كُلُّها أصْنافًا لِنَوْعٍ واحِدٍ فالَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ المُعَلِّمُ أبُو نَصْرٍ الفارابِيُّ وتابَعُهُ عَلَيْهِ حُكَماءُ الأنْدَلُسِ أنَّها نَوْعٌ واحِدٌ وأنَّ اخْتِلافَها بِالكَيْفِيّاتِ مِنَ الرُّطُوبَةِ واليُبُوسَةِ واللِّينِ والصَّلابَةِ والألْوانِ نَحْوَ الصُّفْرَةِ والبَياضِ والسَّوادِ وهي كُلُّها أصْنافٌ لِذَلِكَ النَّوْعِ الواحِدِ وبُنِيَ عَلى ذَلِكَ إمْكانُ انْقِلابِ بَعْضِها إلى بَعْضٍ بِتَبَدُّلِ الأعْراضِ بِفِعْلِ الطَّبِيعَةِ أوْ بِالصَّنْعَةِ. وقَدْ حَكى أبُو بَكْرِ بْنُ الصّائِغِ المَعْرُوفُ بِابْنِ باجَةَ في بَعْضِ تَصانِيفِهِ عَنِ المُعَلِّمِ المَذْكُورِ أنَّهُ قالَ: قَدْ بَيَّنَ أرِسْطُو في كُتُبِهِ في المَعادِنِ أنَّ صِناعَةَ الكِيمْياءِ داخِلَةٌ تَحْتَ الإمْكانِ إلّا أنَّها مِنَ المُمْكِنِ الَّذِي يَعْسُرُ وجُودُهُ بِالفِعْلِ اللَّهُمَّ إلّا أنْ يَتَّفِقَ قَرائِنُ يَسْهُلُ بِها الوُجُودُ وذَلِكَ أنَّهُ فَحَصَ عَنْها أوَّلًا عَلى طَرِيقِ الجَدَلِ فَأثْبَتَها بِقِياسٍ وأبْطَلَها بِقِياسٍ عَلى عادَتِهِ فِيما يَكْثُرُ عِنادُهُ مِنَ الأوْضاعِ ثُمَّ أثْبَتَها أخِيرًا بِقِياسٍ ألَّفَهُ مِن مُقَدِّمَتَيْنِ بَيْنَهُما في أوَّلِ الكِتابِ، الأُولى أنَّ الفِلِزّاتِ واحِدَةٌ بِالنَّوْعِ والِاخْتِلافَ الَّذِي بَيْنَها لَيْسَ في ماهِيّاتِها وإنَّما هو في أعْراضِها فَبَعْضُهُ في أعْراضِها الذّاتِيَّةِ وبَعْضُهُ في أعْراضِها العَرَضِيَّةِ، والثّانِيَةُ أنَّ كُلَّ شَيْئَيْنِ تَحْتَ نَوْعٍ واحِدٍ اخْتَلَفا بِعَرَضٍ فَإنَّهُ يُمْكِنُ انْتِقالُ كُلٍّ مِنهُما إلى الآخَرِ فَإنْ كانَ العَرَضُ ذاتِيًّا عَسُرَ الِانْتِقالُ وإنْ كانَ مُفارِقًا سَهُلَ الِانْتِقالُ والعُسْرُ في هَذِهِ الصِّناعَةِ إنَّما هو لِاخْتِلافِ أكْثَرِ هَذِهِ الجَواهِرِ في أعْراضِها الذّاتِيَّةِ ويُشْبِهُ أنْ يَكُونَ الِاخْتِلافُ الَّذِي بَيْنَ الذَّهَبِ والفِضَّةِ يَسِيرًا جِدًّا اهـ، والَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ الشَّيْخُ أبُو عَلِيِّ بْنُ سِينا وتابَعُهُ عَلَيْهِ حُكَماءُ المَشْرِقِ أنَّها مُخْتَلِفَةٌ بِالفُصُولِ وأنَّها أنْواعٌ مُتَبايِنَةٌ وبَنى عَلى ذَلِكَ إنْكارَ هَذِهِ الصِّناعَةِ واسْتِحالَةَ وُجُودِها لِأنَّ الفَصْلَ لا سَبِيلَ بِالصِّناعَةِ إلَيْهِ وإنَّما يَخْلُقُهُ خالِقُ الأشْياءِ ومُقَدِّرُها وهو اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ، وهَذا ما حَكاهُ ابْنُ خَلْدُونٍ عَنْهُ، وقالَ الإمامُ في المَباحِثِ المَشْرِقِيَّةِ في الفَصْلِ الثّامِنِ مِنَ القِسْمِ الرّابِعِ مِنها: الشَّيْخُ سَلَّمَ إمْكانَ أنْ يُصْبَغَ النُّحاسُ بِصَبْغِ الفِضَّةِ والفِضَّةُ بِصَبْغِ الذَّهَبِ وأنْ يُزالَ عَنِ الرَّصاصِ أكْثَرُ ما فِيهِ مِنَ النَّقْصِ، فَإمّا أنْ يَكُونَ الفَصْلُ المُنَوَّعُ يُسْلَبُ أوْ يُكْسى، قالَ: فَلَمْ يَظْهَرْ لِي إمْكانُهُ بَعْدُ، إذْ هَذِهِ الأُمُورُ المَحْسُوسَةُ تُشْبِهُ أنْ لا تَكُونَ الفُصُولَ الَّتِي بِها تَصِيرُ هَذِهِ الأجْسادُ أنْواعًا بَلْ هي أعْراضٌ ولَوازِمُ وفُصُولُها مَجْهُولَةٌ وإذا كانَ الشَّيْءُ مَجْهُولًا كَيْفَ يُمْكِنُ قَصْدُ إيجادِهِ وإفْنائِهِ اهـ. وغَلَّطَهُ الطُّغْرائِيُّ وهو مِن أكابِرِ أهْلِ هَذِهِ الصِّناعَةِ ولَهُ فِيها عِدَّةُ كُتُبٍ ورَدَّ عَلَيْهِ بِأنَّ التَّدْبِيرَ والعِلاجَ لَيْسَ في تَخْلِيقِ الفَصْلِ وإبْداعِهِ وإنَّما هو في إعْدادِ المادَّةِ لِقَبُولِ خاصَّةٍ والفَصْلُ يَأْتِي مِن بَعْدِ الإعْدادِ مِن لَدُنْ خالِقِهِ وبارِئِهِ جَلَّ شَأْنُهُ وعَظُمَتْ قُدْرَتُهُ كَما يَفِيضُ سُبْحانَهُ النُّورَ عَلى الأجْسامِ بِالصَّقْلِ ولا حاجَةَ بِنا في ذَلِكَ إلى تَصَوُّرِهِ ومَعْرِفَتِهِ، وإذا كُنّا قَدْ عَثَرْنا عَلى تَخْلِيقِ بَعْضِ الحَيَواناتِ مِثْلَ العَقْرَبِ مِنِ التُّرابِ والتِّبْنِ، والحَيَّةِ مِنَ الشَّعْرِ وغَيْرِ ذَلِكَ فَما المانِعُ مِنَ العُثُورِ عَلى مِثْلِ ذَلِكَ في المَعادِنِ وهَذا كُلُّهُ بِالصِّناعَةِ وهي إنَّما مَوْضُوعُها المادَّةُ فَيُعِدُّها التَّدْبِيرُ (p-115)والعِلاجُ إلى قَبُولِ تِلْكَ الفُصُولِ لا أكْثَرَ، فَنَحْنُ نُحاوِلُ مِثْلَ ذَلِكَ في الذَّهَبِ والفِضَّةِ فَنَتَّخِذُ مادَّةً نَصِفُها لِلتَّدْبِيرِ بَعْدَ أنْ يَكُونَ فِيها اسْتِعْدادٌ أوَّلُ لِقَبُولِ صُورَةِ الذَّهَبِ والفِضَّةِ ثُمَّ نُحاوِلُها بِالعِلاجِ إلى أنْ يَتِمَّ فِيها الِاسْتِعْدادُ لِقَبُولِ فَصِلْهِما اهـ بِمَعْناهُ وهو رَدٌّ صَحِيحٌ فِيما يَظْهَرُ، وقالَ الإمامُ بَعْدَ ذِكْرِهِ ما سَمِعْتَ مِن كَلامِ الشَّيْخِ: هو لَيْسَ بِقَوِيٍّ لِأنّا نُشاهِدُ مِنَ التِّرْياقِ آثارًا وأفْعالًا مَخْصُوصَةً فَإمّا أنْ لا نُثْبِتَ لَهُ صُورَةً تِرْياقِيَّةً بَلْ نَقُولُ إنَّ الأفْعالَ التِّرْياقِيَّةَ حاصِلَةٌ مِن ذَلِكَ المِزاجِ لا مِن صُورَةٍ أُخْرى جازَ أيْضًا أنْ يُقالَ: صُفْرَةُ الذَّهَبِ ورَزانَتُهُ حاصِلَتانِ مِمّا فِيهِ مِنَ المِزاجِ لا مِن صُورَةٍ مُقَوَّمَةٍ فَحِينَئِذٍ لا يَكُونُ لِلذَّهَبِ فَصْلٌ مُنَوَّعٌ إلّا مُجَرَّدَ الصُّفْرَةِ والرَّزانَةِ ولَكِنَّهُما مَعْلُومَتانِ فَأمْكَنَ أنْ تَقْصِدَ إزالَتَهُما واتِّخاذَهُما فَبَطَلَ ما قالَهُ الشَّيْخُ. وأمّا إذا أثْبَتْنا صُورَةً مُقَوَّمَةً لَهُ فَنَقُولُ: لا شَكَّ بِأنّا لا نَعْقِلُ مِن تِلْكَ الصُّورَةِ إلّا أنَّها حَقِيقَةٌ تَقْتَضِي الأفْعالَ المَخْصُوصَةَ الصّادِرَةَ عَنِ التِّرْياقِ فَإمّا أنْ يَكُونَ هَذا القَدْرُ مِنَ العِلْمُ يَكْفِي في قَصْدِ الإيجادِ والإبْطالِ أوْ لا يَكْفِي فَإنْ لَمْ يَكْفِ وجَبَ أنْ لا يُمْكِنَنا اتِّخاذُ التِّرْياقِ وإنْ كَفى فَهو في مَسْألَتِنا أيْضًا حاصِلٌ لِأنّا نَعْلَمُ مِنَ الصُّورَةِ الذَّهَبِيَّةِ أنَّها ماهِيَّةٌ تَقْتَضِي الذَّوْبَ والصُّفْرَةَ والرَّزانَةَ ويُجابُ أيْضًا بِأنّا وإنْ كُنّا لا نَعْلَمُ الصُّورَةَ المُقَوَّمَةَ عَلى التَّفْصِيلِ إلّا أنا نَعْلَمُ الأعْراضَ الَّتِي تُلائِمُها والَّتِي لا تُلائِمُها ونَعْلَمُ أنَّ العَرْضَ الغَيْرُ المُلائِمِ إذا اشْتَدَّ في المادَّةِ بَطَلَتِ الصُّورَةُ مِثْلَ الصُّورَةِ المائِيَّةِ فَإنّا نَعْلَمُ أنَّ الحَرارَةَ لا تُلائِمُها وإنْ كُنّا لا نَعْلَمُ ماهِيَّتَها عَلى التَّفْصِيلِ فَلِذَلِكَ يُمْكِنُنا أنْ نُبْطِلَ الصُّورَةَ المائِيَّةَ وأنْ نَكْسِبَها، أمّا الإبْطالُ فَبِتَسْخِينِ الماءِ وأمّا الِاكْتِسابُ فَبِتَبْرِيدِ الهَواءِ فَكَذَلِكَ في مَسْألَتِنا واحْتَجَّ قَوْمٌ مِنَ الفَلاسِفَةِ عَلى امْتِناعِها بِأُمُورٍ: أوَّلُها، أنَّ الطَّبِيعَةَ إنَّما تَعْمَلُ هَذِهِ الأجْسادُ مِن عَناصِرَ مَجْهُولَةٍ عِنْدَنا ولِتِلْكَ العَناصِرِ مَقادِيرُ مُعَيَّنَةٌ مَجْهُولَةٌ عِنْدَنا أيْضًا ولِكَيْفِيّاتِ تِلْكَ العَناصِرِ مَراتِبُ مَعْلُومَةٌ وهي مَجْهُولَةٌ عِنْدَنا ولِتَمامِ الفِعْلِ والِانْفِعالِ زَمانٌ مُعَيَّنٌ مَجْهُولٌ عِنْدَنا، ومَعَ الجَهْلِ بِكُلِّ ذَلِكَ كَيْفَ يُمْكِنُنا عَمَلُ هَذِهِ الأجْسادِ، وثانِيها: أنَّ الجَوْهَرَ الصّابِغَ إمّا أنْ يَكُونَ أصْبَرَ عَلى النّارِ مِنَ المَصْبُوغِ أوْ يَكُونَ المَصْبُوغُ أصْبَرَ أوْ يَتَساوَيانِ فَإنْ كانَ الصّابِغُ أصْبَرَ وجَبَ أنْ يَفْنى المَصْبُوغُ ويَبْقى الصّابِغُ بَعْدَ فِنائِهِ وإنْ كانَ المَصْبُوغُ أصْبَرَ وجَبَ أنْ يَبْقى بَعْدَ فَناءِ الصّابِغِ وإنْ تَساوَيا في الصَّبْرِ عَلى النّارِ فَهُما مِن نَوْعٍ واحِدٍ لِاسْتِوائِهِما في الصَّبْرِ عَلى النّارِ فَلَيْسَ أحَدُهُما بِالصّابِغِيَّةِ والآخَرُ بِالمَصْبُوغِيَّةِ أوْلى مِنَ العَكْسِ، وثالِثُها: أنَّهُ لَوْ كانَ بِالصِّناعَةِ مَثَلًا لَما كانَ بِالطَّبِيعَةِ لَكِنَّ التّالِيَ باطِلٌ، أمّا أوَّلًا: فَلِأنّا لَمْ نَجِدْ لَهُ شَبِيهًا، وأمّا ثانِيًا: فَلِأنَّهُ لَوْ جازَ أنْ يُوجَدَ بِالصِّناعَةِ ما يَحْصُلُ بِالطَّبِيعَةِ لَجازَ أنْ يَحْصُلَ بِالطَّبِيعَةِ ما يَحْصُلُ بِالصِّناعَةِ حَتّى يُوجَدَ سَيْفٌ أوْ سَرِيرٌ بِالطَّبِيعَةِ، ولَمّا ثَبَتَ امْتِناعُ التّالِي ثَبَتَ امْتِناعُ المُقَدَّمِ، ورابِعُها: أنَّ لِهَذِهِ الأجْسادِ أماكِنَ طَبِيعِيَّةً هي مَعادِنُها وهي لَها بِمَنزِلَةِ الأرْحامِ لِلْحَيَوانِ فَمَن جَوَّزَ تَوَلُّدَها في غَيْرِ تِلْكَ المَعادِنِ كانَ كَمَن جَوَّزَ تَوَلُّدَ الحَيَواناتِ في غَيْرِ الأرْحامِ. وأجابَ الإمامُ عَنِ الأوَّلِ بِأنَّهُ مَنقُوضٌ بِصِناعَةِ الطِّبِّ. وعَنِ الثّانِي بِأنَّهُ لا يَلْزَمُ مِنِ اسْتِواءِ الصّابِغِ والمَصْبُوغِ في الصَّبْرِ عَلى النّارِ اسْتِواؤُهُما في الماهِيَّةِ لِأنَّ المُخْتَلِفَيْنِ قَدْ يَشْتَرِكانِ في بَعْضِ الصِّفاتِ، وعَنِ الثّالِثِ بِأنَّهُ قَدْ يُوجَدُ بِالصِّناعَةِ مِثْلَ ما يُوجَدُ بِالطَّبِيعَةِ مِثْلَ النّارِ الحاصِلَةِ بِالقَدَحِ، والنُّوشادِرُ قَدْ يُتَّخَذُ مِنَ الشَّعِيرِ وكَذَلِكَ كَثِيرٌ مِنَ الزّاجّاتِ ثُمَّ بِتَقْدِيرِ أنْ لا نَجِدَ لَهُ مِثالًا لا يَلْزَمُ الجَزْمُ بِنَفْيهِ ولا يَلْزَمُ مِن إمْكانِ حُصُولِ الأمْرِ الطَّبِيعِيِّ بِالصِّناعَةِ إمْكانُ عَكْسِهِ بَلِ الأمْرُ فِيهِ مَوْقُوفٌ عَلى الدَّلِيلِ. وعَنِ الرّابِعِ بِأنَّ مَن أرادَ أنْ يَقْلِبَ النُّحاسَ فِضَّةً فَهو لا يَكُونُ كالمُحْدِثِ لِلشَّيْءِ بَلْ كالمُعالِجِ لِلْمَرِيضِ، فَإنَّ (p-116)النُّحاسَ مِن جَوْهَرِ الفِضَّةِ إلّا أنَّ فِيهِ عِلَلًا وأمْراضًا وكَما يُمْكِنُ المُعالَجَةُ لا في مَوْضِعِ التَّكَوُّنِ فَكَذَلِكَ في هَذا المَوْضِعِ، عَلى أنَّ حاصِلَ الدَّلِيلِ أنَّ الَّذِي يَتَكَوَّنُ في الجِبالِ لا يُمْكِنُ تَكَوُّنُهُ بِالصِّناعَةِ، وفِيهِ وقَعَ النِّزاعُ، وابْنُ خَلْدُونٍ بَعْدَ أنْ ذَكَرَ كَلامَ ابْنِ سِينا ورَدَّ الطُّغْرائِيُّ عَلَيْهِ قالَ: لَنا في الرَّدِّ عَلى أهْلِ هَذِهِ الصِّناعَةِ مَأْخَذٌ آخَرُ يَتَبَيَّنُ مِنهُ اسْتِحالَةُ وجُودِها وبُطْلانُ زَعْمِهِمْ أجْمَعِينَ، وذَلِكَ أنَّ حاصِلَ عِلاجِهِمْ أنَّهم بَعْدَ الوُقُوفِ عَلى المادَّةِ المُسْتَعِدَّةِ بِالِاسْتِعْدادِ الأوَّلِ يَجْعَلُونَها مَوْضُوعًا ويُحاذُونَ في تَدْبِيرِها وعِلاجِها تَدْبِيرَ الطَّبِيعَةِ لِلْجِسْمِ في المَعْدِنِ حَتّى أحالَتْهُ ذَهَبًا أوْ فِضَّةً ويُضاعِفُونَ القُوى الفاعِلَةَ والمُنْفَعِلَةَ لِيَتِمَّ في زَمانٍ أقْصَرَ لِأنَّهُ تَبَيَّنَ في مَوْضِعِهِ أنَّ مُضاعَفَةَ قُوَّةِ الفاعِلِ تَنْقُصُ مِن زَمَنِ فِعْلِهِ وتَبَيَّنَ أنَّ الذَّهَبَ إنَّما يَتِمُّ كَوْنُهُ في مَعْدِنِهِ بَعْدَ ألْفٍ وثَمانِينَ مِنَ السِّنِينَ دَوْرَةَ الشَّمْسِ الكُبْرى فَإذا تَضاعَفَتِ القُوى والكَيْفِيّاتُ في العِلاجِ كانَ زَمانُ كَوْنِهِ أقْصَرَ مِن ذَلِكَ ضَرُورَةً عَلى ما قُلْناهُ أوْ يَتَحَرَّوْنَ بِعِلاجِهِمْ ذَلِكَ حُصُولَ صُورَةٍ مِزاجِيَّةٍ لِتِلْكَ المادَّةِ تُصَيِّرُها كالخَمِيرَةِ لِلْخُبْزِ تَقْلِبُ العَجِينَ إلى ذاتِها وتَعْمَلُ فِيهِ ما حَصَلَ لَها مِنَ الِانْتِفاشِ والهَشاشَةِ لِيَحْسُنَ هَضْمُهُ في المَعِدَةِ ويَسْتَحِيلَ سَرِيعًا إلى الغِذاءِ فَتَفْعَلَ تِلْكَ الصُّورَةُ الأفاعِيلَ المَطْلُوبَةَ، وذَلِكَ هو الإكْسِيرُ، واعْلَمْ أنَّ كُلَّ مُتَكَوِّنٍ مِنَ المُوَلِّداتِ العُنْصُرِيَّةِ لا بُدَّ فِيهِ مِنِ اجْتِماعِ العَناصِرِ الأرْبَعَةِ عَلى نِسْبَةٍ مُتَفاوِتَةٍ إذْ لَوْ كانَتْ مُتَكافِئَةً في النِّسْبَةِ لَما حَصَلَ امْتِزاجُها فَلا بُدَّ مِنَ الجُزْءِ الغالِبِ عَلى الكُلِّ، ولا بُدَّ في كُلِّ مُمْتَزِجٍ مِنَ المُوَلِّداتِ مِن حَرارَةٍ غَرِيزِيَّةٍ هي الفاعِلَةُ لِكَوْنِها الحافِظَةَ لِصُورَتِهِ ثُمَّ كُلُّ مُتَكَوِّنٍ في زَمانٍ لا بُدَّ مِنِ اخْتِلافِ أطْوارِهِ وانْتِقالِهِ في زَمَنِ التَّكْوِينِ مِن طَوْرٍ إلى طَوْرٍ حَتّى يَنْتَهِيَ إلى غايَتِهِ، وانْظُرْ شَأْنَ الإنْسانِ في تَطَوُّرِهِ نُطْفَةً ثُمَّ عَلَقَةً ثُمَّ وثُمَّ إلى نِهايَتِهِ ونِسَبُ الأجْزاءِ في كُلِّ طَوْرٍ مُخْتَلِفٌ مَقادِيرُها وكَيْفِيّاتُها وإلّا لَكانَ الطَّوْرُ الأوَّلُ بِعَيْنِهِ هو الآخَرَ، وكَذا الحَرارَةُ المُقَدَّرَةُ الغَرِيزِيَّةُ في كُلِّ طَوْرٍ مُخالِفَةٌ لِما في الطَّوْرِ الآخَرِ، فانْظُرْ إلى الذَّهَبِ ما يَكُونُ في مَعْدِنِهِ مِنَ الأطْوارِ مُنْذُ ألْفِ سَنَةٍ وثَمانِينَ، وما يَنْتَقِلُ فِيهِ مِنَ الأحْوالِ فَيَحْتاجُ صاحِبُ الكِيمْياءِ أنْ يُساوِقَ فِعْلَ الطَّبِيعَةِ في المَعْدِنِ ويُحاذِيهِ بِتَدْبِيرِهِ وعِلاجِهِ إلى أنْ يَتِمَّ، ومِن شَرْطِ الصِّناعَةِ مُطْلَقًا تَصَوُّرُ ما يُقْصَدُ إلَيْهِ بِها، فَمِنَ الأمْثالِ السّائِرَةِ في ذَلِكَ لِلْحُكَماءِ أوَّلُ العَمَلِ آخِرُ الفِكْرَةِ وآخِرُ الفِكْرَةِ أوَّلُ العَمَلِ فَلا بُدَّ مِن تَصَوُّرِ هَذِهِ الحالاتِ لِلذَّهَبِ في أحْوالِهِ المُتَعَدِّدَةِ ونِسَبِها المُتَفاوِتَةِ في كُلِّ طَوْرٍ وما يَنُوبُ عَنْهُ مِن مِقْدارِ القُوى المُتَضاعِفَةِ ويَقُومُ مَقامَهُ حَتّى يُحاذِيَ بِذَلِكَ فِعْلَ الطَّبِيعَةِ في المَعْدِنِ أوْ يُعِدَّ لِبَعْضِ المَوادِّ صُورَةً مِزاجِيَّةً تَكُونُ كَصُورَةِ الخَمِيرَةِ لِلْخُبْزِ وتَفْعَلُ في هَذِهِ المادَّةِ بِالمُناسِبَةِ لِقُواها ومَقادِيرِها. وهَذِهِ كُلُّها إنَّما يَحْصُرُها العِلْمُ المُحِيطُ وهو عِلْمُهُ عَزَّ وجَلَّ، والعُلُومُ البَشَرِيَّةُ قاصِرَةٌ عَنْ ذَلِكَ، وإنَّما حالُ مَن يَدَّعِي حُصُولَهُ عَلى الذَّهَبِ بِهَذِهِ الصِّناعَةِ بِمَثابَةِ مَن يَدَّعِي صَنْعَةَ تَخْلِيقِ الإنْسانِ مِنَ المَنِيِّ ونَحْنُ إذا سَلَّمْنا الإحاطَةَ بِأجْزائِهِ ونِسَبِهِ وأطْوارِهِ وكَيْفِيَّةِ تَخْلِيقِهِ في رَحِمِهِ وعُلِمَ ذَلِكَ عِلْمًا مُحَصِّلًا لِتَفاصِيلِهِ حَتّى لا يَشِذَّ مِن ذَلِكَ شَيْءٌ عَنْ عِلْمِهِ سَلَّمْنا لَهُ تَخْلِيقَ هَذا الإنْسانِ وأنّى لَهُ ذَلِكَ. والحاصِلُ أنَّ الفِعْلَ الصِّناعِيَّ عَلى ما يَقْتَضِيهِ كَلامُهم مَسْبُوقٌ بِتَصَوُّراتِ أحْوالِ الطَّبِيعَةِ المَعْدِنِيَّةِ الَّتِي تُقْصَدُ مُساواتُها ومُحاذاتُها، وفِعْلُ المادَّةِ ذاتِ القُوى فِيها عَلى التَّفْصِيلِ وتِلْكَ الأحْوالُ لا نِهايَةَ لَها والعِلْمُ البَشَرِيُّ عاجِزٌ عَمّا دُونَها، فَقَصْدُ تَصْيِيرِ النُّحاسِ ذَهَبًا كَقَصْدِ تَخْلِيقِ إنْسانٍ أوْ حَيَوانٍ أوْ نَباتٍ، وهَذا أوْثَقُ ما عَلِمْتُهُ مِنَ البَراهِينِ الدّالَّةِ عَلى الِاسْتِحالَةِ، ولَيْسَتِ (p-117)الِاسْتِحالَةُ فِيهِ مِن جِهَةِ الفُصُولِ ولا مِن جِهَةِ الطَّبِيعَةِ وإنَّما هي مِن تَعَذُّرِ الإحاطَةِ وقُصُورِ البَشَرِ عَنْها، وما ذَكَرَهُ ابْنُ سِينا بِمَعْزِلٍ عَنْ ذَلِكَ، ولِذَلِكَ وجْهٌ آخَرُ في الِاسْتِحالَةِ مِن جِهَةِ غايَتِهِ وهو أنَّ حِكْمَةَ اللَّهِ تَعالى في الحَجَرَيْنِ ونُدْرَتَهُما أنَّهُما عُمْدَتا مَكاسِبِ النّاسِ ومُتَمَوِّلاتِهِمْ فَلَوْ حَصَلَ عَلَيْها بِالصَّنْعَةِ لَبَطَلَتْ حِكْمَةُ اللَّهِ تَعالى في ذَلِكَ إذْ يَكْثُرُ وُجُودُهُما حَتّى لا يَحْصُلَ أحَدٌ مِنِ اقْتِنائِهِما عَلى شَيْءٍ، وآخَرُ أيْضًا وهو أنَّ الطَّبِيعَةَ لا تَتْرُكُ أقْرَبَ الطُّرُقِ في أفْعالِها وتَرْتَكِبُ الأبْعَدَ فَلَوْ كانَ هَذا الطَّرِيقَ الصِّناعِيَّ الَّذِي يَزْعُمُونَ صِحَّتَهُ وأنَّهُ أقْرَبُ مِن طَرِيقِ الطَّبِيعَةِ في مَعْدِنِها وأقَلُّ زَمانًا صَحِيحًا لَما تَرَكَتْهُ الطَّبِيعَةُ إلى طَرِيقِها الَّذِي سَلَكَتْهُ في تَكْوِينِ الذَّهَبِ والفِضَّةِ وتَخْلِيصِهِما، وأمّا تَشْبِيهُ الطُّغْرائِيِّ هَذا التَّدْبِيرَ بِما عَثَرَ عَلَيْهِ مِن مُفْرَداتٍ لِأمْثالِهِ في الطَّبِيعَةِ كالعَقْرَبِ والحَيَّةِ وتَخْلِيقِهِما فَأمْرٌ صَحِيحٌ في ذَلِكَ أدّى عَلَيْهِ العُثُورُ كَما زَعَمَ، وأمّا الكِيمْياءُ فَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أحَدٍ مِن أهْلِ العِلْمِ أنَّهُ عَثَرَ عَلَيْها ولا عَلى طَرِيقِها وما زالَ مُنْتَحِلُوها يَخْبِطُونَ فِيها خَبْطَ عَشْواءَ ولا يَظْفَرُونَ إلّا بِالحِكاياتِ الكاذِبَةِ ولَوْ صَحَّ ذَلِكَ لِأحَدٍ مِنهم لَحَفِظَهُ عَنْهُ ولَدُهُ أوْ تِلْمِيذُهُ وأصْحابُهُ وتُنُوقِلَ في الأصْدِقاءِ وضَمِنَ تَصْدِيقُهُ صِحَّةَ العَمَلِ بَعْدَهُ إلى أنْ يَنْتَشِرَ ويَبْلُغَ إلَيْنا أوْ إلى غَيْرِنا، وأمّا قَوْلُهُمْ: إنَّ الإكْسِيرَ بِمَثابَةِ الخَمِيرَةِ وإنَّهُ مُرَكَّبٌ يُحِيلُ ما حَصَلَ فِيهِ ويُقَلِّبُهُ إلى ذاتِهِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأنَّ الخَمِيرَةَ إنَّما تَقْلِبُ العَجِينَ وتُعِدُّهُ لِلْهَضْمِ وهو فَسادٌ والفَسادُ في المَوادِّ سَهْلٌ يَقَعُ بِأيْسَرِ شَيْءٍ مِنَ الأفْعالِ والطَّبائِعِ، والمَطْلُوبُ مِنَ الإكْسِيرِ قَلْبُ المَعْدِنِ إلى ما هو أشْرَفُ مِنهُ وأعْلى فَهو تَكْوِينٌ والتَّكْوِينُ أصْعَبُ مِنَ الفَسادِ فَلا يُقاسُ الإكْسِيرُ عَلى الخَمِيرَةِ ثُمَّ قالَ: وتَحْقِيقُ الأمْرِ في ذَلِكَ أنَّ الكِيمْياءَ إنْ صَحَّ وُجُودُها كَما يَزْعُمُ الحُكَماءُ المُتَكَلِّمُونَ فِيها فَلَيْسَ مِن بابِ الصَّنائِعِ الطَّبِيعِيَّةِ ولا يَتِمُّ بِأمْرٍ صِناعِيٍّ ولَيْسَ كَلامُهم فِيها مِن مَنحى الطَّبِيعِيّاتِ إنَّما هو مِن مَنحى كَلامِهِمْ في الأُمُورِ السِّحْرِيَّةِ وسائِرِ الخَوارِقِ، وقَدْ ذَكَرَ مَسْلَمَةُ المَجْرِيطِيُّ في كِتابِهِ (الغايَةُ) ما يُشْبِهُ ذَلِكَ وكَلامُهُ فِيها في كِتابِ رُتْبَةِ الحَكِيمِ مِن هَذا المَنحى، وكَذا كَلامُ جابِرٍ في رَسائِلِهِ. وبِالجُمْلَةِ أنَّ نَيْلَها إنْ كانَ صَحِيحًا فَهو واقِعٌ مِمّا وراءَ الصَّنائِعِ والطَّبائِعِ فَهي إنَّما تَكُونُ بِتَأْثِيراتِ النَّفْسِ وخَوارِقِ العادَةِ كالمَشْيِ عَلى الماءِ وتَخْلِيقِ الطَّيْرِ فَلَيْسَتْ إلّا مُعْجِزَةً أوْ كَرامَةً أوْ سِحْرًا، ولِهَذا كانَ كَلامُ الحُكَماءِ فِيها ألْغازًا لا يَظْفَرُ بِتَحْقِيقِهِ إلّا مَن خاضَ لُجَّةً مِن عُلُومِ السِّحْرِ واطَّلَعَ عَلى تَصَرُّفاتِ النَّفْسِ في عالَمِ الطَّبِيعَةِ، وأُمُورُ خَرْقِ العادَةِ غَيْرُ مُنْحَصِرَةٍ ولا يَقْصِدُ أحَدٌ إلى تَحْصِيلِها اهـ. وإلى إمْكانِها ذَهَبَ الإمامُ الرّازِيُّ فَقالَ: الحَقُّ إمْكانُها لِأنَّ الأجْسادَ السَّبْعَةَ مُشْتَرِكَةٌ في أنَّها أجْسادٌ ذائِبَةٌ صابِرَةٌ عَلى النّارِ مُنْطَرِقَةٌ وأنَّ الذَّهَبَ لَمْ يَتَمَيَّزْ عَنْ غَيْرِهِ إلّا بِالصُّفْرَةِ والرَّزانَةِ أوِ الصُّورَةِ الذَّهَبِيَّةِ المُفِيدَةِ لِهَذَيْنِ العَرَضَيْنِ إنْ ثَبَتَ ذَلِكَ، وما بِهِ الِاخْتِلافُ لا يَكُونُ لازِمًا لِما بِهِ الِاشْتِراكُ، فَإذَنْ يُمْكِنُ أنْ تَتَّصِفَ جِسْمِيَّةُ النُّحاسِ بِصُفْرَةِ الذَّهَبِ ورَزانَتِهِ وذَلِكَ هو المَطْلُوبُ، والحَقُّ أنَّ الكِيمْياءَ مُمْكِنَةٌ وأنَّها مِنَ الصَّنائِعِ الطَّبِيعِيَّةِ لَكِنَّ العِلْمَ بِها مِن أقاصِي العُلُومِ الصَّعْبَةِ الَّتِي لا يَطَّلِعُ عَلَيْها إلّا مَن أهَّلَهُ اللَّهُ تَعالى لَها واخْتَصَّهُ سُبْحانَهُ مِن عِبادِهِ وأوْلِيائِهِ بِها وهو عِلْمٌ تاهَتْ في طَلَبِهِ العُقُولُ وطاشَتِ الأحْلامُ، وأصْلُهُ مِنَ الوَحْيِ الإلَهِيِّ وحَصَلَ لِبَعْضٍ بِالتَّصْفِيَةِ وكَثْرَةِ النَّظَرِ مَعَ التَّجْرِبَةِ ووَصَلَ إلى مَن لَيْسَ أهْلًا لِلْوَحْيِ ولَمْ يَتَعاطَ ما تَعاطاهُ البَعْضُ بِالتَّعَلُّمِ مِمَّنْ مَنَّ اللَّهُ تَعالى بِهِ عَلَيْهِ، وقالَ أرْسٌ: وهو مِن أجِلَّةِ أهْلِ هَذا العِلْمِ كانَ أوَّلُهُ وحْيًا مِنَ اللَّهِ تَعالى ثُمَّ دَرَسَ وبادَ فاسْتَخْرَجَهُ مَنِ اسْتَخْرَجَهُ مِنَ الكُتُبِ وقَدْ جَرَتْ سُنَّةُ اللَّهِ تَعالى فِيمَن ظَفِرَ بِهِ بِكَتْمِهِ إلّا عَلى مَن شاءَ اللَّهُ تَعالى وتَواصَتِ الحُكَماءُ عَلى كَتْمِهِ عَنْ غَيْرِ أهْلِهِ بَلْ قِيلَ: إنَّ اللَّهَ تَعالى أخَذَ عَلى العُقُولِ في فِطْرَتِها المَواثِيقَ (p-118)بِكِتْمانِهِ وصِيانَتِهِ والِاحْتِراسِ مِن إذاعَتِهِ وإضاعَتِهِ ولِذا تَرى الحُكَماءَ قَدْ ألْغَزُوهُ نِهايَةَ الألْغازِ وأغْمَضُوهُ غايَةَ الإغْماضِ حَتّى عَدَّ كَلامَهم مَن لَمْ يَعْرِفْ مَرامَهم حَدِيثَ خُرافَةٍ وحَكَمَ عَلى قائِلِهِ بِالسَّفَهِ والسَّخافَةِ وبِهَذا الكَتْمِ حَفِظَتْ حِكْمَةُ اللَّهِ تَعالى الَّتِي زَعَمَها ابْنُ خَلْدُونٍ في النَّقْدَيْنِ وسَقَطَ اسْتِدْلالُهُ الَّذِي سَمِعْتَهُ فِيما مَرَّ. وقَدْ نَصَّ جابِرُ بْنُ حَيّانَ وهو إمامٌ في هَذِهِ الصَّنْعَةِ وإنْكارُ أنَّهُ كانَ مَوْجُودًا حُمْقٌ في كِتابِهِ سِرُّ الأسْرارِ عَلى ما قُلْنا حَيْثُ قالَ: كُلُّ حَكِيمٍ وضَعَ رَمْزَهُ وكِتابَهُ عَلى مَعْنًى مُبْهَمٍ مِن وضْعِ الحَلِّ والإصْعادِ والغَسْلِ عَلى أرْبَعِ طَبائِعَ وسَمّاها الأجْسادَ الثِّقالَ ووَصَفَ التَّدابِيرَ عَلى لَفْظٍ ومَعْنًى مُشْتَبِهٍ، فَهو عِنْدَ الحَكِيمِ مَفْتُوحٌ، وعِنْدَ الجَهَلَةِ مُغْلَقٌ، ورُبَّما تَعَدَّوْا إلى أخْذِ تِلْكَ الأجْسادِ بِعَيْنِها واخْتَبَرُوها ولَمْ يَنْتَفِعُوا بِها، وشَتَمُوا الحُكَماءَ عَلى كِتْمانِهِمْ هَذا العَمَلَ وإنَّما عِمارَةُ الدُّنْيا بِالدَّراهِمِ والدَّنانِيرِ وإنَّ النّاسَ الصُّنّاعَ والمُقاتِلَةَ لا يَعْمَلُونَ إلّا لِرَغْبَةٍ أوْ رَهْبَةٍ فَعَلِمُوا أنَّهم إنْ أفْشَوْا هَذا السِّرَّ حَتّى يَعْلَمَهُ كُلُّ أحَدٍ لَمْ يَتِمَّ أمْرُ الدُّنْيا وخَرِبَتْ، ولَمْ يَعْمَلْ أحَدٌ لِأحَدٍ فَخَرَجُوا مِن ذَلِكَ وكَتَمُوهُ اهـ. ثُمَّ لا يَخْفى أنَّ ما ذَكَّرَهُ ابْنُ خَلْدُونٍ أوَّلًا مِن أنَّ الِاسْتِحالَةَ لِعَدَمِ الإحاطَةِ إذا ثَبَتَ أنَّها كانَتْ عَنْ وحْيٍ لَيْسَ بِشَيْءٍ عَلى أنَّ فِيهِ ما فِيهِ وإنْ لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ، ومِثْلُ ذَلِكَ ما ذَكَرَهُ مِن أنَّ الطَّبِيعَةَ لا تَتْرُكُ أقْرَبَ الطُّرُقِ في أفْعالِها وتَرْتَكِبُ الأبْعَدَ، لِأنّا نَقُولُ ما يَحْصُلُ مِنَ الطَّبائِعِ أيْضًا، فَيَكُونُ لَها طَرِيقانِ بِعِيدٌ اقْتَضَتِ الحِكْمَةُ أنْ تَسْلُكَهُ غالِبًا وقَرِيبٌ اقْتَضَتِ الحِكْمَةُ أيْضًا أنْ تَسْلُكَهُ نادِرًا بِواسِطَةِ مَن شاءَ اللَّهُ تَعالى مِن عِبادِهِ، وكَوْنُ المُنْتَحِلِينَ لَمْ يَزالُوا يَخْبِطُونَ خَبْطَ عَشْواءَ إنْ أرادَ بِهِمْ أئِمَّةُ هَذِهِ الصِّناعَةَ كَهُرْمُسَ وسُقْراطَ وأفْلاطُونَ وأغارِيمُونَ وفِيثاغُورْسَ، وهِرَقْلَ، وفَرْفُورِيُوسَ، ومارِيَةَ، وذُوسِيمُوسَ، وأرْسٍ، وذُو مِقْراطَ، وسَفِيدُوسَ، وبَلِيناسَ، ومَهْرارِيسَ، وجابِرِ بْنِ حَيّانَ، والمَجْرِيطِيِّ، وأبُو بَكْرِ بْنُ وحْشِيَّةَ، ومُحَمَّدِ بْنِ زَكَرِيّا الرّازِيِّ وغَيْرِهِمْ مِمَّنْ لا يُحْصَوْنَ كَثْرَةً فَهم لَمْ يَخْبِطُوا، ودُونَ إثْباتِ خَبْطِهِمْ خَرْطَ القَتادِ، وإلْغازِهِمْ لِنُكْتَةٍ صَرَّحُوا بِها لا يَدُلُّ عَلى خَبْطِهِمْ، وإنْ أرادَ بِهِمْ مَن يَتَعاطاها مِنَ المَشّاقِينَ في عَصْرِهِ وفي هَذِهِ الأعْصارِ فَما ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ في أكْثَرِهِمْ وهو لا يَطْعَنُ في إمْكانِها. وقَدْ ذَمَّ الطُّغْرائِيُّ هَذا الصِّنْفَ مِنَ النّاسِ فَقالَ في كِتابِهِ تَراكِيبُ الأنْوارِ: إنَّ المُعَلِّمَ النّاصِحَ مَوْجُودٌ في كُلِّ صَنْعَةٍ إلّا في هَذا الفَنِّ، وكَيْفَ يُرْجى النُّصْحُ عِنْدَ قَوْمٍ يُسَمَّوْنَ فِيما بَيْنَهم بِالحَسَدَةِ وتَحالَفُوا فِيما بَيْنَهم أنْ لا يُوَضِّحُوا هَذِهِ السَّرائِرَ أبَدًا لا سِيَّما في هَذا الزَّمانِ الَّذِي قَدْ بادَ فِيهِ هَذا العِلْمُ جُمْلَةً وصارَ المُتَعَرِّضُ لَهُ والباحِثُ عَنْهُ عِنْدَ النّاسِ مَسْخَرَةً وقَدْ عُنِيتُ بُرْهَةً مِنَ الزَّمانِ أبْحَثُ عَنْ كُلِّ مَن يَظُنُّ أنَّ عِنْدَهُ طَرَفًا مِن هَذا العِلْمِ فَما وجَدْتُ أحَدًا شُمَّ لَهُ رائِحَةٌ ولا عُرِفَ مِنهُ شَطْرُ كَلِمَةٍ، ووَجَدْتُ مُنْتَحِلِي هَذِهِ الصَّنْعَةِ الشَّرِيفَةِ بَيْنَ خادِعٍ يَبِيعُ دِينَهُ ومُرُوءَتُهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيا قَلِيلٍ ويُتْلِفُ أمْوالَ النّاسِ بِالتَّجارِبِ الصّادِرَةِ عَنِ الجَهْلِ، وبَيْنَ مَخْدُوعٍ مَأْخُوذٍ عَنْ رُشْدِهِ بِالأمَلِ الخائِبِ والطَّمَعِ الكاذِبِ والتَّشاغُلِ بِالباطِلِ عَنْ طَلَبِ المَعاشِ الجَمِيلِ والتَّعْوِيلِ عَلى الأمانِيِّ والأكاذِيبِ. قُصارى أحَدِهِمْ أنْ يَنْظُرَ في كُتُبِ جابِرٍ وأضْرابِهِ فَيَأْخُذُ بِظَواهِرِ كَلامِهِمْ، ويَغْتَرُّ بِجَلايا دَعاوِيهِمْ دُونَ حَقائِقِ مَعانِيهِمْ وهم وجَمِيعُ مَن مَضى مِن حُكَماءِ هَذِهِ الصَّنْعَةِ يُحَذِّرُونَ النّاسَ مِنَ الِاغْتِرارِ بِظَواهِرِ كُتُبِهِمْ، ويُنادُونَ عَلى أنْفُسِهِمْ بِأنَّهم يَرْمُزُونَ ويُلْغِزُونَ ولا يُلْتَفَتُ إلى قَوْلِهِمْ ولا يُصَدَّقُونَ إلى آخِرِ ما قالَ. وقَدْ تَفاقَمَ الأمْرُ في زَمانِنا إلى ما لا تَتَّسِعُ العِبارَةُ لِشَرْحِهِ، وكَوْنُ الكِيمْياءِ مِن تَأْثِيراتِ النُّفُوسِ وخَوارِقِ العاداتِ فَلا تَكُونُ إلّا مُعْجِزَةً أوْ (p-119)كَرامَةً أوْ سِحْرًا لَيْسَ بِشَيْءٍ بَلْ هي بِأسْبابٍ عادِيَّةٍ لَكِنَّها خَفِيَّةٌ عَلى أكْثَرِ النّاسِ لا دَخْلَ لِتَأْثِيرِ النُّفُوسِ فِيها أصْلًا. نَعَمْ قَدْ يَكُونُ مِنَ النَّبِيِّ أوِ الوَلِيِّ ما يَكُونُ مِنَ الكِيماوِيِّ مِن غَيْرِ مُعاطاةِ تِلْكَ الأسْبابِ فَيَكُونُ ذَلِكَ كَرامَةً أوْ مُعْجِزَةً، وكَوْنُ مَنحى كَلامِ بَعْضِ الحُكَماءِ فِيها مَنحى كَلامِهِمْ في الأُمُورِ السِّحْرِيَّةِ لا يَدُلُّ عَلى أنَّها مِن أنْواعِ السِّحْرِ أوْ تَوابِعِهِ فَإنَّ ذَلِكَ مِن إلْغازِهِمْ لِأمْرِها، وقَدْ تَفَنَّنُوا في الإلْغازِ لَها وسَلَكُوا في ذَلِكَ كُلَّ مَسْلَكٍ، فَوَضَعَ بَلِيناسُ كِتابَهُ فِيها عَلى الأفْلاكِ والكَواكِبِ، ومِنهم مَن تَكَلَّمَ عَلَيْها بِالأمْثالِ ومِنهم مَن تَكَلَّمَ عَلَيْها بِالحِكاياتِ الَّتِي هي أشْبَهُ شَيْءٍ بِالخُرافاتِ إلى غَيْرِ ذَلِكَ. وبِالجُمْلَةِ هي صَنْعَةٌ قَلَّ مَن يَعْرِفُها جِدًّا، وأعَدَّ الِاشْتِغالَ بِها والتَّصَدِّيَ لِمَعْرِفَتِها مَن كَتَبَها مِن غَيْرِ حَكِيمٍ عارِفٍ بِرُمُوزِها كَما يَفْعَلُهُ جَهَلَةُ المُنْتَحِلِينَ لَها اليَوْمَ مَحْضُ جُنُونٍ، وكَوْنُ أصْلِها الوَحْيَ الإلَهِيَّ أوْ نَحْوَ ذَلِكَ هو الَّذِي يَغْلِبُ عَلى الظَّنِّ، وقَدْ أوْرَدَ الطُّغْرائِيُّ في كُتُبِهِ كَجامِعِ الأسْرارِ وغَيْرِهِ ما يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ، فَذَكَرَ أنَّهُ رُوِيَ عَنْ هُرْمُسَ أنَّهُ قالَ: إنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ أوْحى إلى شَيْثِ بْنِ آدَمَ عَلَيْهِما السَّلامُ أنِ ازْرَعِ الذَّهَبَ في الأرْضِ البَيْضاءِ النَّقِيَّةِ واسْقِهِ ماءَ الحَياةِ، وقالَتْ مارِيَةُ: إنِّي لَسْتُ أقُولُ لَكم مِن تِلْقاءِ نَفْسِي، ولَكِنِّي أقُولُ لَكم ما أمَرَ اللَّهُ تَعالى بِهِ نَبِيَّهُ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ وأعْلَمَهُ أنَّ الحَجَرَ النَّسْطَرِيسَ هو الَّذِي يُمْسِكُ الصَّبْغَ وقالَ بِنِسْبَتِها إلى مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ ذُوسِيمُوسُ وأرْسٌ، وذَكَرَ أرْسٌ أنَّ العَمَلَ بِها كانَ طَوْعَ اليَهُودِ بِمِصْرَ، وكانَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلامُ وهو أوَّلُ مَن دَخَلَ مِصْرَ مِن بَنِي إسْرائِيلَ يَعْرِفُ ذَلِكَ فَأكْرَمَهُ فِرْعَوْنُ لِحِكْمَتِهِ الَّتِي آتاهُ اللَّهُ تَعالى إيّاها، وذَكَرَ أيْضًا فَصْلًا مَرْمُوزًا فِيها نَسَبَهُ إلى سُلَيْمانَ عَلَيْهِ السَّلامُ. وقالَ الطَّرَسُوسِيُّ في كِتابِهِ: إنَّ اللَّهَ تَعالى لَمّا أهْبَطَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ مِنَ الجَنَّةِ عَوَّضَهُ عِلْمَ كُلِّ شَيْءٍ وكانَ عِلْمُ الصَّنْعَةِ مِمّا عَلَّمَهُ، وانْتَقَلَ مِن قَوْمٍ إلى قَوْمٍ كَما انْتَقَلَتِ العُلُومُ الأُخَرُ إلى أيّامِ هُرْمُسَ الأوَّلِ، وقالَ أيْضًا: حَدَّثُونا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ بِإسْنادٍ لَهُ مُتَّصِلٍ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ قالَ: ««زُوِيَتْ لِي الأرْضُ فَأُرِيتُ مَشارِقَها ومَغارِبَها وأُعْطِيتُ الكِبْرِيتُ الأبْيَضُ والأحْمَرُ»». ورَوى جابِرٌ عَنْ جَعْفَرٍ الصّادِقِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ في ذَلِكَ رِواياتٍ كَثِيرَةً حَتّى أنَّهُ أسْنَدَ إلَيْهِ عِدَّةً مَن كُتُبِهِ ولا أُحَقِّقُ قَوْلَهُ ولا أُكَذِّبُهُ وأُجِلُّهُ لِمَوْضِعِهِ مِنَ العِلْمِ والعَمَلِ عَنِ الِافْتِراءِ عَلى الأئِمَّةِ، ورُوِيَ عَنْ أمِيرِ المُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ أنَّهُ سُئِلَ فَقِيلَ لَهُ: ما تَقُولُ فِيما خاضَ النّاسُ فِيهِ مِن عِلْمِ الكِيمْياءِ؟ فَأطْرَقَ مَلِيًّا ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ ثُمَّ قالَ: سَألْتُمُونِي عَنْ أُخْتِ النُّبُوَّةِ وتَوْأمِ المُرُوَّةِ لَقَدْ كانَ وإنَّهُ لَكائِنٌ وما مِن شَجَرَةٍ ولا مَدَرَةٍ ولا شَيْءٍ إلّا وفِيهِ أصْلٌ وفَرْعٌ أوْ أصْلٌ أوْ فَرْعٌ قِيلَ: يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ أما تَعْلَمُهُ؟ قالَ: واللَّهِ تَعالى أنا أعْلَمُ بِهِ مِنَ العالِمِينَ لَهُ لِأنَّهم يَتَكَلَّمُونَ بِالعِلْمِ عَلى ظاهِرِهِ دُونَ باطِنِهِ وأنا أعْلَمُ العِلْمَ ظاهِرَهُ وباطِنَهُ، قِيلَ: فاذْكُرْ لَنا مِنهُ شَيْئًا نَأْخُذْهُ مِنكَ، قالَ: واللَّهِ تَعالى لَوْلا أنَّ النَّفْسَ أمّارَةٌ بِالسُّوءِ لَقُلْتُ: قِيلَ: فَما كانَ تَقُولُ؟ قالَ: إنِّي أعْلَمُ أنَّ في الزِّئْبَقِ الرَّجْراجِ والذَّهَبِ الوَهّاجِ والحَدِيدِ المُزَعْفَرِ وزِنْجارِ النُّحاسِ الأخْضَرِ لَكُنُوزًا لا يُؤْتى عَلى آخِرِها يُلَقَّحُ بَعْضُها بِبَعْضٍ فَتَفْتَرُّ عَنْ ذَهَبٍ كامِنٍ، قِيلَ: يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ ما نَعْلَمُ هَذا، قالَ: هو ماءٌ جامِدٌ وهَواءٌ راكِدٌ ونارٌ حائِلَةٌ وأرْضٌ سائِلَةٌ قالُوا: ما نَفْقَهُ هَذا، قالَ: لَوْ حَلَّ لِلْمُؤْمِنِينَ مِن أهْلِ الحِكْمَةِ أنْ يُكَلِّمُوا النّاسَ عَلى غَيْرِ هَذا لَعَلِمَهُ الصِّبْيانُ في المَكاتِبِ اهـ كَلامُ الطُّغْرائِيِّ بِاخْتِصارٍ. (p-120)وذَكَرَ في كِتابِهِ مَفاتِيحُ الرَّحْمَةِ ومَصابِيحُ الحِكْمَةِ عَنْ سِتِّينَ نَبِيًّا وحَكِيمًا أنَّهم قالُوا بِحَقِّيَّةِ هَذا العِلْمِ، وفي القَلْبِ مِن صِحَّةِ هَذِهِ الأخْبارِ شَيْءٌ، والأغْلَبُ عَلى الظَّنِّ أنَّهُ لَوْ كانَ في الكِيمْياءِ خَبَرٌ مَقْبُولٌ عِنْدَ المُحْدَثِينَ لَشاعَ ولَمّا أنْكَرَها مَن هو مِن أجِلَّتِهِمْ كَشَيْخِ الإسْلامِ تَقِيِّ الدِّينِ أحْمَدَ بْنِ تَيْمِيَّةَ فَإنَّهُ كانَ يُنْكِرُ ثُبُوتَها وألَّفَ رِسالَةً في إنْكارِها، ولَعَلَّ رَدَّ الشَّيْخِ نَجْمِ الدِّينِ ابْنِ أبِي الذَّرِّ البَغْدادِيِّ وتَزْيِيفَهُ ما قالَهُ فِيها كَما زَعَمَ الصَّفَدِيُّ إنَّما كانَ فِيما هو مِن بابِ الِاسْتِدْلالاتِ العَقْلِيَّةِ فَإنَّ الرَّجُلَ في بابِ النَّقْلِيّاتِ مِمّا لا يُجارِيهِ نَجْمُ الدِّينِ المَذْكُورُ وأمْثالُهُ وهو في بابِ العَقْلِيّاتِ وإنْ كانَ جَلِيلًا أيْضًا إلّا أنَّهُ دُونَهُ في النَّقْلِيّاتِ، والمَطْلَبُ دَقِيقٌ حَتّى أنَّ بَعْضَ مَن تُعْقَدُ عَلَيْهِ الخَناصِرُ اضْطَرَبَ في أمْرِها فَأنْكَرَها تارَةً وأقَرَّ بِها أُخْرى، فَهَذا شَيْخُ الحُكَماءِ ورَئِيسُهم أبُو عَلِيِّ بْنُ سِينا سَمِعْتَ ما نُقِلَ عَنْهُ أوَّلًا، وحُكِيَ عَنْهُ الرُّجُوعُ عَنْهُ، وعَلى جَوْدَةِ ذِهْنِهِ وعُلُوِّ كَعْبِهِ في الحِكْمَةِ بِأقْسامِها لَمْ يَقِفْ عَلى حَقِيقَةِ عَمَلِها حَتّى قالَ الطُّغْرائِيُّ في تَراكِيبُ الأنْوارِ ما يَنْقَضِي عَجَبِي مِن أبِي عَلِيِّ بْنِ سِينا كَيْفَ اسْتَجازَ وضْعَ رِسالَةٍ في هَذا الفَنِّ فَضَحَ بِها نَفْسَهُ وخالَفَ الأُصُولَ الَّتِي عِنْدَهُ وقَصَّرَ فِيها عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الحَشْوِيَّةِ الطَّغامِ المُظْلِمَةِ الأذْهانِ الكَلِيلَةِ الأفْهامِ. وقالَ في جامِعِ الأسْرارِ: إنَّ الشَّيْخَ أبا عَلِيِّ بْنَ سِينا لِفَرْطِ شَغَفِهِ بِهَذا العِلْمِ وحَدْسِهِ القَوِيِّ بِأنَّهُ حَقٌّ صَنَّفَ رِسالَةً فِيهِ فَأحْسَنَ فِيما يَتَعَلَّقُ بِأُصُولِ الطَّبِيعِيّاتِ ولِخَفاءِ طَرِيقِ القَوْمِ واسْتِعْمائِها دُونَهُ لَمْ يَذْكُرْ في التَّدابِيرِ المُخْتَصَّةِ بِعِلْمِنا لَفْظَةً صَحِيحَةً ولا أشارَ إلى ذِكْرِ المِزاجِ الحَقِّ والأوْزانِ والتَّراكِيبِ المَكْتُومَةِ والنَّيِّرانِ وطَبَقاتِها والآلَةِ الَّتِي لا يَتِمُّ العَمَلُ إلّا بِها وهي أحَدُ الشَّرائِطِ العَشَرَةِ، ولَمْ يَتَجاوَزْ ما عِنْدَ الحَشْوِيَّةِ مِن تَدابِيرِ الزَّوابِقِ والكَبارِيتِ والدَّفْنِ في زَبْلِ الخَيْلِ والتَّشاغُلِ بِهَذِهِ القاذُوراتِ ولَوْلا آفَةُ الإعْجابِ وحُسْنُ ظَنِّ الإنْسانِ بِعِلْمِهِ وحِرْصُهُ عَلى أنْ لا يَشِذَّ عَنْهُ شَيْءٌ مِنَ المَعارِفِ لَكانَ مِنَ الواجِبِ عَلى مِثْلِهِ مَعَ غَزارَةِ عِلْمِهِ وعُلُوِّ طَبَقَتِهِ في الأبْحاثِ الحَقِيقِيَّةِ أنْ يَكْتَفِيَ بِما عِنْدَهُ، ولا يَتَعَرَّضَ لِما لا يَعْلَمُهُ، وقَدْ تَأدّى إلَيْنا مِن تَدابِيرِهِ عَنْ أصْحابِهِ الَّذِينَ شاهَدُوها أنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ حَقِيقَةَ عِلْمِنا، وقَدْ رَأيْنا بِخَطِّهِ مِنِ التَّعالِيقِ المُلْتَقَطَةِ مِن كَلامِ جابِرِ بْنِ حَيّانَ، وخالِدِ بْنِ يَزِيدَ ما يَدُلُّ أيْضًا عَلى ذَلِكَ اهـ مُلَخَّصًا، والكَلامُ في هَذا المَطْلَبِ طَوِيلٌ وفِيما ذَكَرْنا كِفايَةٌ لِمَن أحَبَّ الِاطِّلاعَ عَلى شَيْءٍ مِمّا قِيلَ في ذَلِكَ، واللَّهُ تَعالى المُوَفِّقُ، ثُمَّ إنَّ القَوْلَ بِأنَّ المُرادَ بِالعِلْمِ في الآيَةِ عِلْمُ اسْتِخْراجِ الكُنُوزِ والدَّفائِنِ يَسْتَدْعِي ثُبُوتَ هَذا العِلْمِ، وأهْلُ عِلْمِ الحِرَفِ وعِلْمِ الطَّلْسَماتِ يَقُولُونَ بِهِ ولَهم في ذَلِكَ كَلامٌ طَوِيلٌ والعَقْلُ يُجَوِّزُ ثُبُوتَهُ، واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ بِثُبُوتِهِ في نَفْسِ الأمْرِ. ﴿أوَلَمْ يَعْلَمْ أنَّ اللَّهَ قَدْ أهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِن القُرُونِ مِن هو أشَدُّ مِنهُ قُوَّةً وأكْثَرُ جَمْعًا﴾ تَقْرِيرٌ لِعِلْمِهِ ذَلِكَ وتَنْبِيهٌ عَلى خَطَئِهِ في اغْتِرارِهِ وعِلْمِهِ بِذَلِكَ مِنَ التَّوْراةِ أوْ مِن مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ أوْ مِن كُتُبِ التَّوارِيخِ أوْ مِن (القُصّاصِ)، والقُوَّةُ تَحْتَمِلُ القُوَّةَ الحِسِّيَّةَ والمَعْنَوِيَّةَ، والجَمْعُ يَحْتَمِلُ جَمْعَ المالِ وجَمْعَ الرِّجالِ، والمَعْنى ألَمْ يَقِفْ عَلى ما يُفِيدُهُ العِلْمَ ولَمْ يَعْلَمْ ما فَعَلَ اللَّهُ تَعالى بِمَن هو أشَدُّ مِنهُ قُوَّةً حِسًّا أوْ مَعْنًى وأكْثَرَ مالًا أوْ جَماعَةً يَحُوطُونَهُ ويَخْدُمُونَهُ حَتّى لا يَغْتَرَّ بِما اغْتَرَّ بِهِ، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ الهَمْزَةُ لِلْإنْكارِ داخِلَةً عَلى مُقَدَّرٍ، وجُمْلَةُ أوَلَمْ يَعْلَمْ حالِيَّةٌ مُقَرِّرَةٌ لِلْإنْكارِ ودالَّةٌ عَلى انْتِفاءِ ما دَخَلَتْ عَلَيْهِ كَما في قَوْلِكَ: أتَدَّعِي الفِقْهَ وأنْتَ لا تَعْرِفُ شُرُوطَ الصَّلاةِ، والمُرادُ رَدُّ ادِّعائِهِ العِلْمَ والتَّعَظُّمُ بِهِ بِنَفْيِ هَذا العِلْمِ عَنْهُ أيْ أعَلِمَ ما ادَّعاهُ ولَمْ يَعْلَمْ هَذا حَتّى يَقِيَ بِهِ نَفْسَهُ مَصارِعَ الهالِكِينَ، وقِيلَ: إنَّ (لَمْ (p-121)يَعْلَمْ) عَطْفٌ عَلى ذَلِكَ المُقَدَّرِ ونَفْيُ العِلْمِ عَنْهُ لِعَدَمِ جَرْيِهِ عَلى مُوجِبِهِ ﴿ولا يُسْألُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ المُجْرِمُونَ﴾ الظّاهِرُ أنَّ هَذا في الآخِرَةِ وأنَّ ضَمِيرَ ذُنُوبِهِمْ لِلْمُجْرِمِينَ، وفاعِلُ السُّؤالِ إمّا اللَّهُ تَعالى أوِ المَلائِكَةُ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، والمُرادُ بِالسُّؤالِ المَنفِيِّ هُنا، وكَذا في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْألُ عَنْ ذَنْبِهِ إنْسٌ ولا جانٌّ﴾ [الرَّحْمَنِ: 39] عَلى ما قِيلَ: سُؤالُ الِاسْتِعْلامِ، ونَفْيُ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ عَزَّ وجَلَّ ظاهِرٌ، وبِالنِّسْبَةِ إلى المَلائِكَةِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ لِأنَّهم مُطَّلِعُونَ عَلى صَحائِفِهِمْ أوْ عارِفُونَ إيّاهم بِسِيماهم كَما قالَ سُبْحانَهُ: ﴿يُعْرَفُ المُجْرِمُونَ بِسِيماهم فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي والأقْدامِ﴾ [الرَّحْمَنِ: 41]. والمُرادُ بِالسُّؤالِ المُثْبَتِ في قَوْلِهِ عَزَّ وجَلَّ: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْألَنَّهم أجْمَعِينَ﴾ [الحِجْرِ: 92] سُؤالُ التَّوْبِيخِ والتَّقْرِيعِ فَلا تَناقُضَ بَيْنَ الآيَتَيْنِ، وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ السُّؤالُ في المَوْضِعَيْنِ بِمَعْنًى والنَّفْيُ والإثْباتُ بِاعْتِبارِ مَوْضِعَيْنِ أوْ زَمانَيْنِ، والمَواقِفُ يَوْمَ القِيامَةِ كَثِيرَةٌ واليَوْمُ طَوِيلٌ فَلا تَناقُضَ أيْضًا، والظّاهِرُ أنَّ الجُمْلَةَ غَيْرُ داخِلَةٍ في حَيِّزِ العِلْمِ، ولَعَلَّ وجْهَ اتِّصالِها بِما قَبْلَها أنَّهُ تَعالى لَمّا هَدَّدَ قارُونَ بِذِكْرِ إهْلاكِ مَن قَبْلَهُ مِن أضْرابِهِ في الدُّنْيا أرْدَفَ ذَلِكَ بِما فِيهِ تَهْدِيدُ كافَّةِ المُجْرِمِينَ بِما هو أشْنَعُ وأشْنَعُ مِن عَذابِ الآخِرَةِ فَإنَّ عَدَمَ سُؤالِ المُذْنِبِ مَعَ شِدَّةِ الغَضَبِ عَلَيْهِ يُؤْذِنُ بِالإيقاعِ بِهِ لا مَحالَةَ، وجَعْلَ الزَّمَخْشَرِيُّ الجُمْلَةَ تَذْيِيلًا لِما قَبْلَها، وقِيلَ: إنَّ ذَلِكَ في الدُّنْيا. والمُرادُ أنَّهُ تَعالى أهْلَكَ مَن أهْلَكَ مِنَ القُرُونِ عَنْ عِلْمٍ مِنهُ سُبْحانَهُ بِذُنُوبِهِمْ فَلَمْ يَحْتَجْ عَزَّ وجَلَّ إلى مَسْألَتِهِمْ عَنْها، وقِيلَ: إنَّ ضَمِيرَ ذُنُوبِهِمْ لِمَن هو أشَدُّ قُوَّةً وهو المُهْلَكُ مِنَ القُرُونِ، والإفْرادُ والجَمْعُ بِاعْتِبارِ اللَّفْظِ والمَعْنى، والمَعْنى ولا يُسْألُ عَنْ ذُنُوبِ أُولَئِكَ المُهْلَكِينَ غَيْرُهم مِمَّنْ أجْرَمَ، ويُعْلَمُ أنَّهُ لا يُسْألُ عَنْ ذُنُوبِهِمْ مَن لَمْ يُجْرِمْ بِالأُولى لِما بَيْنَ الصِّنْفَيْنِ مِنَ العَداوَةِ فَمَآلُ المَعْنى لا يُسْألُ عَنْ ذُنُوبِ المُهْلَكِينَ غَيْرُهم مِمَّنْ أجْرَمَ ومِمَّنْ لَمْ يُجْرِمْ، بَلْ كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ، وكِلا القَوْلَيْنِ كَما تَرى، ورُبَّما يَخْتَلِجُ في ذِهْنِكَ عَطْفُ هَذِهِ الجُمْلَةِ عَلى جُمْلَةِ الِاسْتِفْهامِ أوْ جَعْلُها حالًا مِن فاعِلِ أهْلَكَ أوْ مِن مَفْعُولِهِ لَكِنْ إذا تَأمَّلْتَ أدْنى تَأمُّلٍ أخْرَجْتَهُ مِن ذِهْنِكَ وأبَيْتَ حَمْلَ كَلامِ اللَّهِ تَعالى الجَلِيلَ عَلى ذَلِكَ. وقَرَأ أبُو جَعْفَرٍ في رِوايَةٍ «ولا تَسْألْ» بِتاءِ الخِطابِ والجَزْمِ «المُجْرِمِينَ» بِالنَّصْبِ، وقَرَأ أبُو العالِيَةِ وابْنُ سِيرِينَ (ولا تَسْئَلْ) كَذَلِكَ ولَمْ نَدْرِ أنَصَبا المُجْرِمِينَ كَأبِي جَعْفَرٍ أمْ رَفَعاهُ كَما هو في قِراءَةِ الجُمْهُورِ، والظّاهِرُ الأوَّلُ، وجَوَّزَ صاحِبُ اللَّوامِحِ الثّانِيَ، وذَكَرَ لَهُ وجْهَيْنِ: الأوَّلُ أنْ يَكُونَ ضَمِيرُ ذُنُوبِهِمْ لِلْمُهْلَكِينَ مِنَ القُرُونِ وارْتِفاعُ المُجْرِمِينَ بِإضْمارِ المُبْتَدَأِ أيْ هُمُ المُجْرِمُونَ، والثّانِي أنْ يَكُونَ المُجْرِمُونَ بَدَلًا مِن ضَمِيرِ ذُنُوبِهِمْ بِاعْتِبارِ أنَّ أصْلَهُ الرَّفْعُ لِأنَّ إضافَةَ ذُنُوبِ إلَيْهِ بِمَنزِلَةِ إضافَةِ المَصْدَرِ إلى اسْمِ الفاعِلِ وأوْرَدَ عَلى هَذا أنَّ ذُنُوبَ جَمْعٌ فَإنْ كانَ جَمْعٌ مَصْدَرٌ فَفي إعْمالِهِ خِلافٌ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب