الباحث القرآني

﴿وما كُنْتَ بِجانِبِ الغَرْبِيِّ﴾ شُرُوعٌ في بَيانِ أنَّ إنْزالَ القُرْآنِ الكَرِيمِ أيْضًا واقِعٌ زَمانَ مِساسِ الحاجَةِ إلَيْهِ واقْتِضاءِ الحِكْمَةِ لَهُ البَتَّةَ مُتَضَمِّنًا تَحْقِيقَ كَوْنِهِ وحْيًا صادِقًا مِن عِنْدِ اللَّهِ تَعالى بِبَيانِ أنَّ الوُقُوفَ عَلى ما فُصِّلَ مِنَ الأحْوالِ لا يَتَسَنّى إلّا بِالمُشاهَدَةِ أوِ التَّعَلُّمِ مِمَّنْ شاهَدَها وحَيْثُ انْتَفى كِلاهُما تَبَيَّنَ أنَّهُ بِوَحْيٍ مِن عَلّامِ الغُيُوبِ لا مَحالَةَ كَذا قِيلَ: ولا يَخْفى أنْ تَعَيُّنَ كَوْنِهِ بِوَحْيٍ لا يَتِمُّ إلّا بِنَفْيِ كَوْنِهِ بِالِاسْتِفاضَةِ وكَوْنِهِ بِالتَّعَلُّمِ مِن بَعْضِ أهْلِ الكِتابِ المُعاصِرِينَ لَهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ (وسَلَّمَ) كَما قالَ المُشْرِكُونَ: ﴿إنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ﴾ [النَّحْلِ: 103] ولَعَلَّهُ إنَّما لَمْ يَتَعَرَّضْ لِنَفْيِ ذَلِكَ وتَعَرَّضَ لِنَفْيِ ما هو أظْهَرُ انْتِفاءً مِنهُ لِلْإشارَةِ إلى ظُهُورِ انْتِفاءِ ذَلِكَ والمُبالَغَةِ في دَعْوى ذَلِكَ حَيْثُ آذَنَ بِأنَّ المُحْتاجَ إلى الإخْبارِ بِانْتِفائِهِ ذانِكَ الأمْرانِ دُونَهُ عَلى أنَّهُ عَزَّ وجَلَّ قَدْ نَفى في (p-86)مَوْضِعٍ آخَرَ كَوْنَهُ بِالتَّعَلُّمِ مِن بَعْضِ أهْلِ الكِتابِ ولَعَلَّهُ يُعْلَمُ مِنهُ انْتِفاءُ كَوْنِهِ بِالِاسْتِفاضَةِ وإنْ قُلْنا: إنَّهُ لا يُعْلَمُ فَدَلِيلُهُ ظاهِرٌ جِدًّا، ولِذا لَمْ يَتَشَبَّثُ بِكَوْنِ الوُقُوفِ بِها أحَدٌ مِنَ المُشْرِكِينَ فَتَدَبَّرْ، والمَعْنى عَلى ما ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُهم وما كُنْتَ حاضِرًا بِجانِبِ الجَبَلِ الغَرْبِيِّ أوِ المَكانِ الغَرْبِيِّ الَّذِي وقَعَ فِيهِ المِيقاتُ وأعْطى اللَّهُ تَعالى فِيهِ ألْواحَ التَّوْراةِ لِمُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ، والكَلامُ عَلى هَذا مِن بابِ حَذْفِ المَوْصُوفِ وإقامَةِ صِفَتِهِ مَقامَهُ وهو عِنْدُ قَوْمٍ مِن بابِ إضافَةِ المَوْصُوفِ إلى الصِّفَةِ الَّتِي جَوَّزَها الكُوفِيُّونَ كَما في مَسْجِدِ الجامِعِ، والأصْلُ في الجانِبِ الغَرْبِيِّ فَيَتَّحِدُ الجانِبُ والغَرْبِيُّ عَلى هَذا الوَجْهِ وهو بَعْضٌ مِنَ الغَرْبِيِّ عَلى الوَجْهِ الأوَّلِ. ﴿إذْ قَضَيْنا إلى مُوسى الأمْرَ﴾ أيْ عَهْدِنا إلَيْهِ وأحْكَمْنا أمْرَ نُبُوَّتِهِ بِالوَحْيِ وإيتاءِ التَّوْراةِ. ﴿وما كُنْتَ مِنَ الشّاهِدِينَ﴾ أيْ مِن جُمْلَةِ الحاضِرِينَ لِلْوَحْيِ إلَيْهِ أوِ الشّاهِدِينَ عَلى الوَحْيِ إلَيْهِ عَلَيْهِ السَّلامُ وهُمُ السَّبْعُونَ المُخْتارُونَ لِلْمِيقاتِ حَتّى تُشاهِدَ ما جَرى مِن أمْرِ مُوسى في مِيقاتِهِ فَتُخْبِرَ بِهِ النّاسَ، فالشّاهِدُ مِنَ الشَّهادَةِ إمّا بِمَعْنى الحُضُورِ أوْ بِمَعْناها المَعْرُوفِ واسْتَشْكَلَ إرادَةُ المَعْنى الأوَّلِ بِلُزُومِ التَّكْرارِ فَإنَّهُ قَدْ نَفى الحُضُورَ أوَّلًا في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما كُنْتَ بِجانِبِ الغَرْبِيِّ﴾ وكَذا إرادَةُ المَعْنى الثّانِي بِلُزُومِ نَحْوَ ذَلِكَ لِما أنَّ نَفْيَ الحُضُورِ يَسْتَدْعِي نَفْيَ كَوْنِهِ مِنَ الشّاهِدِينَ بِذَلِكَ المَعْنى، ومِن هُنا قِيلَ: المُرادُ مِنَ الأوَّلِ نَفْيُ كَوْنِهِ ﷺ حاضِرًا بِنَفْسِهِ لِغَرَضٍ مِنَ الأغْراضِ، ومِنَ الثّانِي نَفْيُ كَوْنِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مِن جَماعَةٍ جِيءَ بِهِمْ لِيَحْضُرُوا فَيَطَّلِعُوا عَلى ما يَقَعُ هُناكَ لِمُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ لِأنَّ المُرادَ بِالشّاهِدِينَ جَماعَةٌ مَعْهُودُونَ كانَ حالُهم ذَلِكَ. وقِيلَ: المُرادُ بِالشّاهِدِينَ المَلائِكَةُ عَلَيْهِمُ السَّلامُ فَقَدْ جاءَ الشّاهِدُ اسْمًا لِلْمَلَكِ كَما في القامُوسِ فَكَأنَّهُ قِيلَ: ما كُنْتَ حاضِرًا بِجانِبِ الغَرْبِيِّ إذْ قَضَيْنا إلى مُوسى أمْرَ نُبُوَّتِهِ بِالوَحْيِ وما كُنْتَ مِنَ المَلائِكَةِ الَّذِينَ يَنْزِلُونَ ويَصْعَدُونَ بِأمْرِ اللَّهِ تَعالى ووَحْيِهِ إلى أنْبِيائِهِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ ولَهم مِنَ الِاطِّلاعِ عَلى الحَوادِثِ ما لَيْسَ لِغَيْرِهِمْ مِنَ البَشَرِ حَتّى يَكُونَ لَكَ عِلْمٌ بِما وقَعَ لِمُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ فَتُخْبِرَ بِهِ النّاسَ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ كَما في التَّفْسِيرِ الكَبِيرِ والبَحْرِ: التَّقْدِيرُ لَمْ تَحْضُرْ ذَلِكَ المَوْضِعَ ولَوْ حَضَرَتْ لَما شاهَدْتَ تِلْكَ الوَقائِعَ فَإنَّهُ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ هُناكَ ولا يَشْهَدُ ولا يَرى، وقِيلَ: وهو مُخْتارُ أبِي حَيّانَ إنَّ المَعْنى وما كُنْتَ مِنَ الشّاهِدَيْنِ بِجَمِيعِ ما أعْلَمْناكَ بِهِ فَهو نَفْيٌ لِشَهادَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ جَمِيعَ ما جَرى لِمُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ فَكانَ عُمُومًا بَعْدَ خُصُوصٍ، وقِيلَ: المُرادُ وما كُنْتَ مِنَ الشّاهِدِينَ ذَلِكَ الزَّمانَ فَيَكُونُ نَفْيًا لِحُضُورِهِ، ومُشاهَدَتُهُ ذَلِكَ الزَّمانَ أعَمُّ مِن أنْ يَكُونَ بِجانِبِ الغَرْبِيِّ أوْ بِغَيْرِهِ، وحاصِلُهُ نَفْيُ الوُجُودِ العَيْنِيِّ إذْ ذاكَ فَيَكُونُ تَرَقِّيًا في النَّفْيِ. وقِيلَ: المُرادُ ﴿وما كُنْتَ﴾ إذْ ذاكَ مُنْتَظِمًا في سِلْكِ مَن يَتَّصِفُ بِالشَّهادَةِ وهُمُ المَوْجُودُونَ بِالوُجُودِ العَيْنِيِّ أيْنَما كانُوا ومَآلُهُ كَمَآلِ ما قَبْلَهُ وإنِ اخْتَلَفا في طَرِيقِ الإرادَةِ وتَعَيَّنَ كَوْنُ الشَّهادَةِ فِيما قَبْلَهُ بِمَعْنى الحُضُورِ، ولَعَلَّ ما قَبْلَهُ أظْهَرُ مِنهُ بَلْ إذا ادَّعى مُدَّعٍ كَوْنَهُ أظْهَرَ مِن جَمِيعِ ما قِيلَ لَمْ يَبْعُدْ هَذا ولا يَخْفى عَلَيْكَ حالُ تِلْكَ الأقْوالِ وما فِيها مِنَ القِيلِ والقالِ، وفي القَلْبِ مِن صِحَّةِ نِسْبَةِ ما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما إلَيْهِ ما فِيهِ فَتَدَبَّرْ جَمِيعَ ذاكَ، واللَّهُ تَعالى يَتَوَلّى هُداكَ
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب