الباحث القرآني
﴿قالَتْ إحْداهُما﴾ وهي الَّتِي اسْتَدْعَتْهُ إلى أبِيها وهي الَّتِي زَوَّجَها مِن مُوسى عَلَيْهِما السَّلامُ يا ﴿أبَتِ اسْتَأْجِرْهُ﴾ أيْ لِرَعْيِ الأغْنامِ والقِيامِ بِأمْرِها، وأصْلُ الِاسْتِئْجارِ كَما قالَ الرّاغِبُ طَلَبُ الشَّيْءِ بِالأُجْرَةِ ثُمَّ عَبَّرَ بِهِ عَنْ تَناوُلِهِ بِها وهو المُرادُ هُنا. وكَذا في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿إنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ القَوِيُّ الأمِينُ﴾ وهو تَعْلِيلٌ جارٍ مَجْرى الدَّلِيلِ عَلى أنَّهُ عَلَيْهِ (p-66)السَّلامُ حَقِيقٌ بِالِاسْتِئْجارِ المَفْهُومِ مِن طَلَبِ اسْتِئْجارِهِ، وبَعْضُهم رَتَّبَ مِنَ الآيَةِ قِياسًا مِنَ الشَّكْلِ الأوَّلِ هَكَذا هو قَوِيٌّ أمِينٌ وكُلُّ قَوِيٍّ أمِينٍ لائِقٌ بِالِاسْتِئْجارِ يَنْتِجُ هو لائِقٌ بِالِاسْتِئْجارِ وهو المُدَّعى المَفْهُومُ مِنَ الطَّلَبِ، وتُعُقِّبَ بِأنَّ هَذا ظاهِرٌ لَوْ كانَ خَيْرٌ خَبَرًا ولَيْسَ هو كَذَلِكَ، وأُجِيبُ بِأنَّ المَعْنى عَلى ذَلِكَ إلّا أنَّهُ جُعِلَ اسْمًا لِلِاهْتِمامِ بِأمْرِ الخَيْرِيَّةِ لِأنَّها أُمُّ الكَمالِ المَبْنِيِّ عَلَيْها غَيْرُها. وفي الكَشّافِ فَإنْ قِيلَ: كَيْفَ جُعِلَ خَيْرُ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ اسْمًا لَإنَّ والقَوِيُّ الأمِينُ خَبَرًا؟ قُلْتُ: هو مِثْلُ قَوْلِهِ:
؎ألا إنَّ خَيْرَ النّاسِ (حَيًّا) وهالِكًا أسِيرُ ثَقِيفٍ عِنْدَهم في السَّلاسِلِ
فِي أنَّ العِنايَةَ هي سَبَبُ التَّقْدِيمِ وقَدْ صَدَقَتْ حَتّى جُعِلَ لَها ما هو أحَقُّ أنْ يَكُونَ خَبَرًا اسْمًا وأرادَ بِذَلِكَ عَلى ما قِيلَ: أحَقِّيَّةَ كَوْنِ خَيْرَ خَبَرًا مِن حَيْثُ الصِّناعَةُ، ووُجِّهَ بِأنَّ خَيْرًا مُضافٌ إلى مَن وهي نَكِرَةٌ فَكَذا هو والإخْبارُ عَنِ النَّكِرَةِ بِالمَعْرِفَةِ خِلافُ الظّاهِرِ، وإنْ جَوَّزُوهُ في اسْمِي التَّفْضِيلِ والِاسْتِفْهامِ، ولَوْ جُعِلَتْ مَوْصُولَةً فَإضافَةُ أفْعَلُ التَّفْضِيلِ لَفْظِيَّةً لا تُفِيدُ تَعْرِيفًا كَما هو أحَدُ قَوْلَيْنِ لِلنُّحاةِ فِيها، وعَلى القَوْلِ بِإفادَتِها التَّعْرِيفَ يُقالُ: المُعَرَّفُ بِاللّامِ أعْرَفُ مِنَ المَوْصُولِ وما أُضِيفَ إلَيْهِ. وتُعُقِّبَ بِأنَّ تَعْرِيفَ القَوِيِّ الأمِينِ لِلْجِنْسِ وما فِيهِ تَعْرِيفُ الجِنْسِ قَدْ يَنْزِلُ مَنزِلَةَ النَّكِرَةِ، وأُجِيبُ بِأنَّ المَوْصُولَ إذا أُرِيدَ بِهِ الجِنْسُ كَذَلِكَ وهُنا تَصِحُّ هَذِهِ الإرادَةُ لِيَجِيءَ التَّعَدُّدُ الَّذِي يَقْتَضِيهِ (خَيْرَ)، وحَيْثُ كانَ المُضافُ إلى شَيْءٍ دُونَهُ يَكُونُ القَوِيُّ الأمِينُ أحَقَّ بِالِاسْمِيَّةِ وخَيْرُ أحَقَّ بِالخَبَرِيَّةِ. وإذْ قُلْتَ بِأنَّ أحَقِّيَّةَ الخَبَرِيَّةِ لِأنَّ سَوْقَ التَّعْلِيلِ يَقْتَضِيها إلّا أنَّهُ عَدَلَ إلى الِاسْمِيَّةِ لِلِاهْتِمامِ خَلُصْتُ مِن كَثِيرٍ مِنَ المُناقَشاتِ. وقالَ لِي الشَّيْخُ خَلِيلُ أفَنْدِيٍّ الآمِدِيُّ يَوْمَ اجْتَمَعْتُ بِهِ وأنا شابٌّ عِنْدَ وُرُودِهِ إلى بَغْدادَ فَجَرى بَحْثٌ في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: إنَّ القِياسَ المَأْخُوذَ مِنها مِنَ الشَّكْلِ الثّانِي هَكَذا مُوسى القَوِيُّ الأمِينُ وخَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ القَوِيُّ الأمِينُ يَنْتِجُ مُوسى خَيْرُ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ. فَقُلْتُ: أظْهَرَ ما يَرُدُّ عَلى هَذا أنَّ شَرْطَ إنْتاجِ الشَّكْلِ الثّانِي بِحَسَبِ الكَيْفِيَّةِ اخْتِلافُ مُقَدِّمَتَيْهِ بِالإيجابِ والسَّلْبِ بِأنْ تَكُونَ إحْداهُما مُوجَبَةً والأُخْرى سالِبَةً وهو مُنْتَفٍ فِيما ذَكَرْتُ فَسَكَتَ وأعْرَضَ عَنِ البَحْثِ حَذَرًا مِنَ الفَضِيحَةِ.
وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّ أدِلَّةَ القُرْآنِ لا يَلْزَمُ فِيها التَّرْتِيبُ الَّذِي وضَعَهُ المَنطِقِيُّونَ فَذَلِكَ صِناعَةُ أغْنى اللَّهُ تَعالى العَرَبَ عَنْها، وما ذَكَرَ مِن أنَّ جَعْلَ (خَيْرَ) اسْمًا لِلِاهْتِمامِ هو ما اخْتارَهُ غَيْرُ واحِدٍ، وجَوَّزَ الطَّيِّبِيُّ أنْ يَكُونَ تَقْدِيمُهُ وجَعْلُهُ اسْمًا مِن بابِ القَلْبِ لِلْمُبالَغَةِ، والظّاهِرُ أنَّ ألْ في القَوِيِّ الأمِينِ لِلْجِنْسِ فَيَنْدَرِجُ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ وهو وجْهُ الِاسْتِدْلالِ. وذَكَرَ الِاسْتِئْجارَ بِلَفْظِ الماضِي مَعَ أنَّ الظّاهِرَ ذِكْرُهُ بِلَفْظِ المُضارِعِ لِلدَّلالَةِ عَلى أنَّهُ أمْرٌ قَدْ جُرِّبَ وعُرِفَ. وجَوَّزَ الطَّيِّبِيُّ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِالقَوِيِّ الأمِينِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ فَكَأنَّها قالَتْ: إنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ مُوسى، والأوَّلُ أوْلى. ثُمَّ إنَّ كَلامَها هَذا كَلامٌ حَكِيمٌ جامِعٌ لا يُزادُ عَلَيْهِ لِأنَّهُ إذا اجْتَمَعَتِ الخَصْلَتانِ أعْنِي الكِفايَةَ والأمانَةَ في القائِمِ بِأمْرِكَ فَقَدْ فَرَغَ بالُكَ وتَمَّ مُرادُكَ. وقَدِ اسْتَغْنَتْ بِإرْسالِ هَذا الكَلامِ الَّذِي سِياقُهُ سِياقُ المَثَلِ والحِكْمَةِ أنْ تَقُولَ: اسْتَأْجِرْهُ لِقُوَّتِهِ وأمانَتِهِ، ولَعَمْرِي إنَّ مِثْلَ هَذا المَدْحِ مِنَ المَرْأةِ لِلرَّجُلِ أجْمَلُ مِنَ المَدْحِ الخاصِّ وأبْقى لِلْحِشْمَةِ وخُصُوصًا إنْ كانَتْ فَهِمَتْ أنَّ غَرَضَ أبِيها أنْ يُزَوِّجَها مِنهُ، ومَعْرِفَتُها قُوَّتَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ لِما رَأتْ مِن دَفْعِهِ النّاسَ عَنِ الماءِ وحْدَهُ حَتّى سَقى لَهُما، ومَعْرِفَتُها أمانَتَهُ مِن عَدَمِ تَعَرُّضِهِ لَها بِقَبِيحٍ ما مَعَ وحْدَتِها وضَعْفِها.
ورُوِيَ أنَّها لَمّا قالَتْ ما قالَتْ قالَ لَها أبُوها: ما أعْلَمَكِ بِقُوَّتِهِ؟
(p-67)فَذَكَرَتْ لَهُ أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ أقَلَّ صَخْرَةً عَلى البِئْرِ لا يُقِلُّها كَذا وكَذا وقَدْ مَرَّ في حَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ أنَّهُ لا يُطِيقُ رَفْعَها إلّا عَشَرَةُ رِجالٍ والنَّقْلُ في عَدَدِ مَن يُقِلُّها مُضْطَرِبٌ فَأقَلُّ ما قالُوا فِيهِ سَبْعَةٌ وأكْثَرُهُ مِائَةٌ، وقَدْ مَرَّ ما يُعْلَمُ مِنهُ حالُ الخَبَرِ في أصْلِ الإقْلالِ، وذَكَرَتْ أنَّهُ نَزَعَ وحْدَهُ بِدَلْوٍ لا يَنْزِعُ بِها إلّا أرْبَعُونَ. وقالَ: ما أعْلَمَكِ بِأمانَتِهِ؟ فَذَكَرَتْ ما كانَ مِن أمْرِهِ إيّاها بِالمَشْيِ وراءَهُ وأنَّهُ صَوَّبَ رَأْسَهُ حَتّى بَلَّغَتْهُ الرِّسالَةَ، وقَدَّمَتْ وصْفَ القُوَّةِ مَعَ أنَّ أمانَةَ الأجِيرِ لِحِفْظِ المالِ أهَمُّ في نَظَرِ المُسْتَأْجِرِ لِتَقَدُّمِ عِلْمِها بِقُوَّتِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ عَلى عِلْمِها بِأمانَتِهِ أوْ لِيَكُونَ ذِكْرُ وصْفِ الأمانَةِ بَعْدَهُ مِن بابِ التَّرَقِّي مِنَ المُهِمِّ إلى الأهَمِّ، واسْتُدِلَّ بِقَوْلِها اسْتَأْجِرْهُ عَلى مَشْرُوعِيَّةِ الإجارَةِ عِنْدَهم وكَذا كانَتْ في كُلِّ مِلَّةٍ وهي مِن ضَرُورِيّاتِ النّاسِ ومَصْلَحَةِ الخُلْطَةِ خِلافًا لِابْنِ عَلِيَّةَ والأصَمِّ حَيْثُ كانا لا يُجِيزانِها وهَذا ما انْعَقَدَ عَلَيْهِ الإجْماعُ وخِلافُهُما خَرْقٌ لَهُ فَلا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ وهَذا لَعَمْرِي غَرِيبٌ مِنهُما إنْ كانا لا يُجِيزانِ الإجارَةَ مُطْلَقًا، ورَأيْتُ في الإكْلِيلِ أنَّ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أُرِيدُ أنْ أُنْكِحَكَ إحْدى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أنْ تَأْجُرَنِي﴾ إلَخْ رَدًّا عَلى مَن مَنَعَ الإجارَةَ المُتَعَلِّقَةَ بِالحَيَوانِ عَشْرَ سِنِينَ لِأنَّهُ يَتَغَيَّرُ غالِبًا فَلَعَلَّ الإجارَةَ الَّتِي لا يُجِيزانِها نَحْوَ هَذِهِ الإجارَةِ والأمْرُ في ذَلِكَ أهْوَنُ مِن عَدَمِ إجارَةِ الإجارَةِ مُطْلَقًا كَما لا يَخْفى.
{"ayah":"قَالَتۡ إِحۡدَىٰهُمَا یَـٰۤأَبَتِ ٱسۡتَـٔۡجِرۡهُۖ إِنَّ خَیۡرَ مَنِ ٱسۡتَـٔۡجَرۡتَ ٱلۡقَوِیُّ ٱلۡأَمِینُ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق