الباحث القرآني

﴿فَجاءَتْهُ إحْداهُما﴾ قِيلَ هي الكُبْرى مِنهُما وقِيلَ الصُّغْرى وكانَتا عَلى ما في بَعْضِ الرِّواياتِ تَوْأمَتَيْنِ وُلِدَتْ إحْداهُما قَبْلَ الأُخْرى بِنِصْفِ نَهارٍ. وقَرَأ ابْنُ مُحَيْصَنٍ «حِداهُما» بِحَذْفِ الهَمْزَةِ تَخْفِيفًا عَلى غَيْرِ قِياسٍ مِثْلَ: ويْلُمِّهِ في ويْلِ أُمِّهِ ﴿تَمْشِي﴾ حالٌ مِن فاعِلِ جاءَتْ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿عَلى اسْتِحْياءٍ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ هو حالٌ مِن ضَمِيرِ تَمْشِي أيْ جاءَتْهُ ماشِيَةً كائِنَةً عَلى اسْتِحْياءٍ فَمَعْناهُ أنَّها كانَتْ عَلى اسْتِحْياءٍ حالَتَيِ المَشْيِ والمَجِيءِ مَعًا لا عِنْدَ المَجِيءِ فَقَطْ، وتَنْكِيرُ اسْتِحْياءٍ لِلتَّفْخِيمِ. ومِن هُنا قِيلَ جاءَتْ مُتَخَفِّرَةً أيْ شَدِيدَةَ الحَياءِ. وأخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ مِن طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي الهُذَيْلِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ أنَّهُ قالَ جاءَتْ مُسْتَتِرَةً بِكُمِّ دِرْعِها عَلى وجْهِها وأخْرَجَهُ ابْنُ المُنْذِرِ عَنْ أبِي الهُذَيْلِ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وفي رَفْعِهِ إلى عُمَرَ رِوايَةً أُخْرى صَحَّحَها الحاكِمُ بِلَفْظِ ”واضِعَةً ثَوْبَها عَلى وجْهِها“ ﴿قالَتْ﴾ اسْتِئْنافٌ مَبْنِيٌّ عَلى سُؤالٍ نَشَأ مِن حِكايَةِ مَجِيئِها إيّاهُ عَلَيْهِ السَّلامُ كَأنَّهُ قِيلَ: فَماذا قالَتْ لَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ؟ (p-65)فَقِيلَ: قالَتْ: ﴿إنَّ أبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا﴾ أيْ جَزاءَ سَقْيِكَ عَلى أنَّ ما مَصْدَرِيَّةٌ ولا يَجُوزُ أنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً لِأنَّ ما يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ الأجْرُ فِعْلُهُ لا ما سَقاهُ إذْ هو الماءُ المُباحُ وأسْنَدَتِ الدَّعْوَةُ إلى أبِيها وعَلَّلَتْها بِالجَزاءِ لِئَلّا يُوهِمَ كَلامُها رِيبَةً. وفِيهِ مِنَ الدَّلالَةِ عَلى كَمالِ العَقْلِ والحَياءِ والعِفَّةِ ما لا يَخْفى. رُوِيَ أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ أجابَها فَقامَ مَعَها فَقالَ لَها: امْشِي خَلْفِي وانْعُتِي لِي الطَّرِيقَ فَإنِّي أكْرَهُ أنْ تُصِيبَ الرِّيحُ ثِيابَكِ فَتَصِفَ لِي جَسَدَكِ فَفَعَلَتْ. وفِي رِوايَةٍ أنْ قالَ لَها: كُونِي ورائِي فَإنِّي رَجُلٌ لا أنْظُرُ إلى أدْبارِ النِّساءِ ودُلِّينِي عَلى الطَّرِيقِ يَمِينًا أوْ يَسارًا. ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وقَتادَةَ وابْنِ زَيْدٍ وغَيْرِهِمْ أنَّها مَشَتْ أوَّلًا أمامَهُ فَألْزَقَتِ الرِّيحُ ثَوْبَها بِجَسَدِها فَوَصَفَتْهُ فَقالَ لَها: امْشِي خَلْفِي وانْعُتِي لِي الطَّرِيقَ فَفَعَلَتْ حَتّى أتَيا دارَ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلامُ. ﴿فَلَمّا جاءَهُ وقَصَّ عَلَيْهِ القَصَصَ﴾ أيْ ما جَرى عَلَيْهِ مِنَ الخَبَرِ المَقْصُوصِ، فَإنَّهُ مَصْدَرٌ سُمِّيَ بِهِ المَفْعُولُ كالعِلَلِ ﴿قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ القَوْمِ الظّالِمِينَ﴾ يُرِيدُ فِرْعَوْنَ وقَوْمَهُ، وقالَ ذَلِكَ لِما أنَّهُ لا سُلْطانَ لِفِرْعَوْنَ بِأرْضِهِ، ويُحْتَمَلُ أنَّهُ قالَهُ عَنْ إلْهامٍ أوْ نَحْوِهِ، واخْتُلِفَ في الدّاعِي لَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ إلى الإجابَةِ فَقِيلَ الَّذِي يَلُوحُ مِن ظاهِرِ النَّظْمِ الكَرِيمِ أنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ إنَّما أجابَ المُسْتَدْعِيَةَ مِن غَيْرِ تَلَعْثُمٍ لِيَتَبَرَّكَ بِرُؤْيَةِ الشَّيْخِ ويَسْتَظْهِرَ بِرَأْيِهِ لا طَمَعًا بِما صَرَّحَتْ بِهِ مِنَ الأجْرِ، ألا تَرى إلى ما أخْرَجَ ابْنُ عَساكِرَ عَنْ أبِي حازِمٍ قالَ: لَمّا دَخَلَ مُوسى عَلى شُعَيْبٍ عَلَيْهِما السَّلامُ إذا هو بِالعَشاءِ فَقالَ لَهُ شُعَيْبٌ: كُلْ. قالَ مُوسى. أعُوذُ بِاللَّهِ تَعالى. قالَ: ولِمَ ألَسْتَ بِجائِعٍ؟ قالَ: بَلى، ولَكِنْ أخافُ أنْ يَكُونَ هَذا عِوَضًا لِما سَقَيْتُ لَهُما وإنّا مِن أهْلِ بَيْتٍ لا نَبِيعُ شَيْئًا مِن عَمَلِ الآخِرَةِ بِمِلْءِ الأرْضِ ذَهَبًا قالَ: لا واللَّهِ، ولَكِنَّها عادَتِي وعادَةُ آبائِي نَقْرِي الضَّيْفَ ونُطْعِمُ الطَّعامَ فَجَلَسَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ فَأكَلَ، وقِيلَ: الدّاعِي لَهُ ما بِهِ مِنَ الحاجَةِ ولَيْسَ بِمُسْتَنْكَرٍ مِنهُ عَلَيْهِ السَّلامُ أنْ يَقْبَلَ الأجْرَ لِإضْرارِ الفَقْرِ والفاقَةِ. فَقَدْ أخْرَجَ الإمامُ أحْمَدُ عَنْ مِطْرَفِ بْنِ الشَّخِيرِ قالَ: أما واللَّهِ لَوْ كانَ عِنْدَ نَبِيِّ اللَّهِ تَعالى شَيْءٌ ما تَبِعَ مَذْقَتَها ولَكِنْ حَمَلَهُ عَلى ذَلِكَ الجَهْدُ، واسْتَدَلَّ بَعْضُهم عَلى أنَّ ذَهابَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ رَغْبَةٌ بِالجَزاءِ بِما رُوِيَ عَنْ عَطاءِ بْنِ السّائِبِ أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ رَفَعَ صَوْتَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿رَبِّ إنِّي لِما أنْزَلْتَ إلَيَّ مِن خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾ لِيَسْمَعَهُما، ولِذَلِكَ قِيلَ لَهُ لِيَجْزِيَكَ إلَخْ، وأُجِيبُ بِأنَّهُ لَيْسَ بِنَصٍّ لِاحْتِمالِ أنَّهُ إنَّما فَعَلَهُ لِيَكُونَ ذَرِيعَةً إلى اسْتِدْعائِهِ لا إلى اسْتِيفاءِ الأجْرِ، ولا ضَيْرَ فِيما أرى أنْ يَكُونَ عَلَيْهِ السَّلامُ قَدْ ذَهَبَ رَغْبَةً في سَدِّ جَوْعَتِهِ وفي الِاسْتِظْهارِ بِرَأْيِ الشَّيْخِ ومَعْرِفَتِهِ، ولا أقُولُ إنَّ الرَّغْبَةَ في سَدِّ الجَوْعَةِ رَغْبَةٌ في اسْتِيفاءِ الأجْرِ عَلى عَمَلِ الآخِرَةِ أوْ مُسْتَلْزِمَةٌ لَها، ودَعْوى أنَّ الَّذِي يَلُوحُ مِن ظاهِرِ النَّظْمِ الكَرِيمِ أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ إنَّما أجابَ لِلتَّبَرُّكِ والِاسْتِظْهارِ بِالرَّأْيِ لا تَخْلُو عَنْ خَفاءٍ، وعَمَلُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ بِقَوْلِ امْرَأةٍ لِأنَّهُ مِن بابِ الرِّوايَةِ، ويَعْمَلُ بِقَوْلِ الواحِدِ حُرًّا كانَ أوْ عَبْدًا ذَكَرًا كانَ أوْ أُنْثى إذا كانَ كَذَلِكَ، ومُماشاتُهُ امْرَأةً أجْنَبِيَّةً مِمّا لا بَأْسَ بِهِ في نَظائِرِ تِلْكَ الحالِ مَعَ ذَلِكَ الِاحْتِياطِ والتَّوَرُّعِ
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب