﴿وقُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ﴾ أيْ عَلى ما أفاضَ عَلَيَّ مِن نَعْمائِهِ الَّتِي مِن أجَلِّها نِعْمَةُ النُّبُوَّةِ المُسْتَتْبَعَةُ لِفُنُونِ النِّعَمِ الدِّينِيَّةِ والدُّنْيَوِيَّةِ ووَفَّقَنِي لِتَحَمُّلِ أعْبائِها وتَبْلِيغِ أحْكامِها بِالآياتِ البَيِّنَةِ والبَراهِينِ النَّيِّرَةِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿سَيُرِيكم آياتِهِ﴾ مِن جُمْلَةِ الكَلامِ المَأْمُورِ بِهِ أيْ قُلْ سَيُرِيكم آياتِهِ سُبْحانَهُ: ﴿فَتَعْرِفُونَها﴾ أيْ فَتَعْرِفُونَ أنَّها آياتُ اللَّهِ تَعالى حَيْثُ لا تَنْفَعُكُمُ المَعْرِفَةُ، وقِيلَ: أيْ سَيُرِيكم في الدُّنْيا والمُرادُ بِالآياتِ الدُّخانُ وما حَلَّ بِهِمْ مِن نَقَماتِ اللَّهِ تَعالى وعَدَّ مِنها قَتْلَ يَوْمِ بَدْرٍ واعْتِرافِ المَقْتُولِينَ بِذَلِكَ بِالفِعْلِ واعْتِرافِ غَيْرِهِمْ بِالقُوَّةِ، وقِيلَ: هي خُرُوجُ الدّابَّةِ وسائِرُ أشْراطِ السّاعَةِ والخِطابُ لِجِنْسِ النّاسِ لا لِمَن في عَهْدِ النُّبُوَّةِ.
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ وجَماعَةٌ عَنْ مُجاهِدٍ أنَّ المُرادَ بِالآياتِ الأنْفُسِيَّةُ والآفاقِيَّةُ فالآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آياتِنا في الآفاقِ وفي أنْفُسِهِمْ﴾، وقِيلَ: المُرادُ بِها مُعْجِزاتُ الرَّسُولِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ وإضافَتُها إلى ضَمِيرِهِ تَعالى لِأنَّها فِعْلُهُ عَزَّ وجَلَّ أظْهَرَها عَلى يَدِ رَسُولِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لِلتَّصْدِيقِ، والمُرادُ بِالمَعْرِفَةِ ما يُجامِعُ الجُحُودَ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ﴾ كَلامٌ مَسُوقٌ مِن جِهَتِهِ سُبْحانَهُ بِطَرِيقِ التَّذْيِيلِ مُقَرِّرٌ لِما قَبْلَهُ مُتَضَمِّنٌ لِلْوَعْدِ والوَعِيدِ كَما يُنْبِئُ عَنْهُ إضافَةُ الرَّبِّ إلى ضَمِيرِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ وتَخْصِيصُ الخِطابِ أوَّلًا بِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وتَعْمِيمُهُ ثانِيًا لِلْكَفَرَةِ تَغْلِيبًا أيْ وما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُ أنْتَ مِنَ الحَسَناتِ وما تَعْمَلُونَ أنْتُمْ أيُّها الكَفَرَةُ مِنَ السَّيِّئاتِ فَيُجازِي كُلًّا مِنكم بِعَمَلِهِ لا مَحالَةَ، وقَرَأ الأكْثَرُ يَعْمَلُونَ بِياءِ الغَيْبَةِ فَهو وعِيدٌ مَحْضٌ والمَعْنى وما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَنْ أعْمالِهِمْ فَسَيُعَذِّبُهُمُ البَتَّةَ فَلا يَحْسَبُوا أنَّ تَأْخِيرَ عَذابِهِمْ لِغَفْلَتِهِ سُبْحانَهُ عَنْ أعْمالِهِمُ المُوجِبَةِ لَهُ ومَن تَأمَّلَ في الآياتِ ظَهَرَ لَهُ أنَّ هَذِهِ الخاتِمَةَ مِمّا تُدْهِشُ العُقُولَ وتُحَيِّرُ الأفْهامَ ولِلَّهِ تَعالى دَرُّ التَّنْزِيلِ وماذا عَسى يُقالُ في كَلامِ المَلِكِ العَلّامِ.
* * *
ومِن بابِ الإشارَةِ في الآياتِ ما قِيلَ وأُنْزِلَ مِنَ السَّماءِ أيْ سَماءِ القَلْبِ ماءٌ هو ماءُ نَظَرِ الرَّحْمَةِ فَأنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ مِنَ العُلُومِ والمَعانِي والأسْرارِ والحِكَمِ البالِغَةِ، ما كانَ لَكم أنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أيْ أُصُولَها لِما أنَّ العُلُومَ الإلَهِيَّةَ غَيْرُ اخْتِيارِيَّةٍ بَلْ كُلُّ عِلْمٍ لَيْسَ بِاخْتِيارِيٍّ في نَفْسِهِ وإلّا لَزِمَ تَقَدُّمُ الشَّيْءِ عَلى نَفْسِهِ نَعَمْ هو اخْتِيارِيٌّ بِاعْتِبارِ الأسْبابِ ﴿أمَّنْ جَعَلَ الأرْضَ﴾ أيْ أرْضَ النَّفَسِ قَرارًا في الجَسَدِ ﴿وجَعَلَ خِلالَها أنْهارًا﴾ مِن (p-41)دَواعِي البَشَرِيَّةِ ﴿وجَعَلَ لَها رَواسِيَ﴾ مِن قُوى البَشَرِيَّةِ والحَواسِّ ﴿وجَعَلَ بَيْنَ البَحْرَيْنِ﴾ بَحْرِ الرُّوحِ وبَحْرِ النَّفْسِ ﴿حاجِزًا﴾ وهو القَلْبُ ﴿أمَّنْ يُجِيبُ المُضْطَرَّ﴾ وهو المُسْتَعِدُّ لِشَيْءٍ مِنَ الأشْياءِ ﴿إذا دَعاهُ﴾ بِلِسانِ الِاسْتِعْدادِ وطَلَبٍ مِنهُ تَعالى ما اسْتَعَدَّ لَهُ، وقالَ بَعْضُهُمُ: المُضْطَرُّ المُسْتَغْرِقُ في بِحارِ شَوْقِهِ تَعالى: ﴿وإذا وقَعَ القَوْلُ عَلَيْهِمْ أخْرَجْنا لَهم دابَّةً﴾ وهي النَّفْسُ النّاطِقَةُ والرُّوحُ الإنْسانِيُّ ﴿مِنَ الأرْضِ﴾ أيْ أرْضِ البَشَرِيَّةِ وعَلى هَذا النَّمَطِ تَكَلَّمُوا في سائِرِ الآياتِ وساقَ الشَّيْخُ الأكْبَرُ قُدِّسَ سِرُّهُ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿وتَرى الجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وهي تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ﴾ دَلِيلًا عَلى ما يَدَّعِيهِ مِن تَجَدُّدِ الجَواهِرِ كالأعْراضِ عِنْدَ الأشْعَرِيِّ وعَدَمِ بَقائِها زَمانَيْنِ، ومَبْنى ذَلِكَ عِنْدَهُ القَوْلُ بِوَحْدَةِ الوُجُودِ وأنَّهُ سُبْحانَهُ كُلَّ يَوْمٍ هو في شَأْنٍ، والكَلامُ في صِحَّةِ هَذا المَبْنى واسْتِلْزامِهِ لِلْمُدَّعى لا يَخْفى عَلى العارِفِ، وأمّا الِاسْتِدْلالُ بِهَذِهِ الآيَةِ لِهَذا المَطْلَبِ فَمِن أُمَّهاتِ العَجائِبِ وأغْرَبِ الغَرائِبِ واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ.
{"ayah":"وَقُلِ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ سَیُرِیكُمۡ ءَایَـٰتِهِۦ فَتَعۡرِفُونَهَاۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَـٰفِلٍ عَمَّا تَعۡمَلُونَ"}