الباحث القرآني

وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿يا مُوسى إنَّهُ أنا اللَّهُ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ فَإنَّهُ مُتَّصِلُ مَعْنًى بِذَلِكَ، والضَّمِيرُ لِلشَّأْنِ، وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿أنا اللَّهُ﴾ مُبْتَدَأٌ وخَبَرٌ والعَزِيزُ الحَكِيمُ نَعْتانِ لِلِاسْمِ الجَلِيلِ مُمَهِّدَتانِ لِما أُرِيدَ إظْهارُهُ عَلى يَدِهِ مِنَ المُعْجِزَةِ، أيْ: أنا اللَّهُ القَوِيُّ القادِرُ عَلى ما لا تَنالُهُ الأوْهامُ مِنَ الأُمُورِ العِظامِ، الَّتِي مِن جُمْلَتِها أمْرُ العَصا واليَدِ، الفاعِلُ كُلَّ ما أفْعَلُهُ بِحِكْمَةٍ بالِغَةٍ وتَدْبِيرٍ رَصِينٍ، والجُمْلَةُ خَبَرُ (إنَّ) مُفَسِّرَةٌ لِضَمِيرِ الشَّأْنِ. وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ راجِعًا إلى ما دَلَّ عَلَيْهِ الكَلامُ وهو المُكَلِّمُ المُنادِي و(أنا) خَبَرٌ، أيْ: إنَّ مُكَلِّمَكَ المُنادِي لَكَ أنا، والِاسْمُ الجَلِيلُ عَطْفُ بَيانٍ لِـ(أنا) وتَجُوزُ البَدَلِيَّةُ عِنْدَ مَن جَوَّزَ إبْدالَ الظّاهِرِ مِن ضَمِيرِ المُتَكَلِّمِ بَدَلَ كُلٍّ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ (أنا) تَوْكِيدًا لِلضَّمِيرِ و(اللَّهُ) الخَبَرُ. وتَعَقَّبَ أبُو حَيّانَ إرْجاعَ الضَّمِيرِ لِلْمُكَلِّمِ المُنادِي بِأنَّهُ إذا حُذِفَ الفاعِلُ وبُنِيَ فِعْلُهُ لِلْمَفْعُولِ لا يَجُوزُ عَوْدُ ضَمِيرٍ عَلى ذَلِكَ المَحْذُوفِ؛ لِأنَّهُ نَقْضٌ لِلْغَرَضِ مِن حَذْفِهِ، والعَزْمُ عَلى أنْ لا يَكُونَ مُحَدَّثًا عَنْهُ، وفِيهِ أنَّهُ لَمْ يَقُلْ أحَدٌ إنَّهُ عائِدٌ عَلى الفاعِلِ المَحْذُوفِ، بَلْ عَلى ما دَلَّ عَلَيْهِ الكَلامُ، ولَوْ سُلِّمَ فَلا امْتِناعَ في ذَلِكَ إذا كانَ في جُمْلَةٍ أُخْرى. وأيْضًا قَوْلُهُ: والعَزْمُ عَلى أنْ لا يَكُونَ مُحَدَّثًا عَنْهُ غَيْرَ صَحِيحٍ؛ لِأنَّهُ قَدْ يَكُونُ مُحَدَّثًا عَنْهُ ويُحْذَفُ لِلْعِلْمِ بِهِ وعَدَمِ الحاجَةِ إلى ذِكْرِهِ، ثُمَّ إنَّ الحَمْلَ مُفِيدٌ مِن غَيْرِ رُؤْيَةٍ؛ لِأنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - عَلِمَهُ سُبْحانَهُ عِلْمَ اليَقِينِ بِما وقَرَ في قَلْبِهِ، فَكَأنَّهُ رَآهُ عَزَّ وجَلَّ. هَذا، وفي قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أنْ بُورِكَ مَن في النّارِ﴾ إلَخْ أقْوالٌ أُخَرُ: الأوَّلُ أنَّ المُرادَ بِمَن في النّارِ نُورُ اللَّهِ تَعالى، وبِمَن حَوْلَها المَلائِكَةُ - عَلَيْهِمُ السَّلامُ - ورُوِيَ ذَلِكَ عَنْ قَتادَةَ والزَّجّاجِ. والثّانِي أنَّ المُرادَ بِمَن في النّارِ الشَّجَرَةُ الَّتِي جَعَلَها اللَّهُ مَحَلًّا لِلْكَلامِ، وبِمَن حَوْلَها المَلائِكَةُ - عَلَيْهِمُ السَّلامُ – أيْضًا، ونُقِلَ هَذا عَنِ الجُبّائِيِّ، وفي ما ذُكِرَ إطْلاقُ (مَن) عَلى غَيْرِ العالِمِ. والثّالِثُ ما أخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وابْنُ مَرْدُويَهْ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أنْ بُورِكَ مَن في النّارِ﴾ يَعْنِي تَبارَكَ وتَعالى نَفْسَهُ، كَأنَّ نُورَ رَبِّ العالَمِينَ في الشَّجَرَةِ، ومَن حَوْلَها يَعْنِي المَلائِكَةَ - عَلَيْهِمُ السَّلامُ - واشْتُهِرَ عَنْهُ كَوْنُ المُرادِ بِمَن في النّارِ نَفْسَهُ تَعالى، وهو مَرْوِيٌّ أيْضًا عَنِ الحَسَنِ وابْنِ جُبَيْرٍ وغَيْرِهِما، كَما في البَحْرِ، وتَعَقَّبَ ذَلِكَ الإمامُ بِأنّا نَقْطَعُ بِأنَّ هَذِهِ الرِّوايَةَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ مَوْضُوعَةٌ مُخْتَلَقَةٌ. وقالَ أبُو حَيّانَ: إذا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ومَن ذُكِرَ أُوِّلَ عَلى حَذْفٍ، أيْ: بُورِكَ مَن قُدْرَتُهُ وسُلْطانُهُ في النّارِ، وذَهَبَ الشَّيْخُ إبْراهِيمُ الكُورانِيُّ في رِسالَتِهِ (تَنْبِيهِ العُقُولِ عَلى تَنْزِيهِ الصُّوفِيَّةِ عَنِ اعْتِقادِ التَّجْسِيمِ والعَيْنِيَّةِ والِاتِّحادِ والحُلُولِ) (p-162)إلى صِحَّةِ الخَبَرِ عَنِ الحَبْرِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ - وعَدَمِ احْتِياجِهِ إلى التَّأْوِيلِ المَذْكُورِ؛ فَإنَّ الَّذِي دَعا المُؤَوِّلِينَ أوِ الحاكِمِينَ بِالوَضْعِ إلى التَّأْوِيلِ أوِ الحُكْمِ بِالوَضْعِ ظَنُّ دَلالَتِهِ عَلى الحُلُولِ المُسْتَحِيلِ عَلَيْهِ تَعالى، ولَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ ما يَدُلُّ عَلَيْهِ هو ظُهُورُهُ سُبْحانَهُ في النّارِ وتَجَلِّيهِ فِيها، ولَيْسَ ذَلِكَ مِنَ الحُلُولِ في شَيْءٍ، فَإنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ مُجَلًّى لِشَيْءٍ لَيْسَ كَوْنَهُ مُحِلًّا لَهُ، فَإنَّ الظّاهِرَ في المِرْآةِ مَثَلًا خارِجٌ عَنِ المِرْآةِ بِذاتِهِ قَطْعًا بِخِلافِ الحالِّ في مَحَلٍّ فَإنَّهُ حاصِلٌ فِيهِ، ثُمَّ إنَّ تَجَلِّيَهُ تَعالى وظُهُورَهُ في المَظاهِرِ يُجامِعُ التَّنْزِيهَ. ومَعْنى الآيَةِ عِنْدَهُ: فَلَمّا جاءَها نُودِيَ أنْ بُورِكَ - أيْ: قُدِّسَ أوْ نَحْوُ ذَلِكَ - مَن تَجَلّى وظَهَرَ في صُورَةِ النّارِ لِما اقْتَضَتْهُ الحِكْمَةُ لِكَوْنِها مَطْلُوبَةً لِمُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - ومَن حَوْلَها مِنَ المَلائِكَةِ، أوْ مِنهم ومِن مُوسى عَلَيْهِمُ السَّلامُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وسُبْحانَ اللَّهِ﴾ دَفْعٌ لِما يَتَوَهَّمُهُ التَّجَلِّي في مَظْهَرِ النّارِ مِنَ التَّشْبِيهِ، أيْ: وسُبْحانَ اللَّهِ عَنِ التَّقَيُّدِ بِالصُّورَةِ والمَكانِ والجِهَةِ - وإنْ ظَهَرَ فِيها بِمُقْتَضى الحِكْمَةِ - لِكَوْنِهِ مَوْصُوفًا بِصِفَةِ رَبِّ العالَمِينَ الواسِعِ القُدُّوسِ الغَنِيِّ عَنِ العالَمِينَ، ومَن هو كَذَلِكَ لا يَتَقَيَّدُ بِشَيْءٍ مِن صِفاتِ المُحْدَثاتِ، بَلْ هو - جَلَّ وعَلا - باقٍ عَلى إطْلاقِهِ حَتّى عَنْ قَيْدِ الإطْلاقِ في حالِ تَجَلِّيهِ وظُهُورِهِ فِيما شاءَ مِنَ المَظاهِرِ. ولِهَذا ورَدَ في الحَدِيثِ الصَّحِيحِ ««سُبْحانَكَ حَيْثُ كُنْتَ»» فَأثْبَتَ لَهُ تَعالى التَّجَلِّي في الحَيْثِ ونَزَّهَهُ عَنْ أنْ يَتَقَيَّدَ بِذَلِكَ «يا مُوسى» إنَّهُ: أيِ المُنادِي المُتَجَلِّي في النّارِ ﴿أنا اللَّهُ العَزِيزُ﴾ فَلا أتَقَيَّدُ بِمَظْهَرٍ لِلْعِزَّةِ الذّاتِيَّةِ لَكِنِّي الحَكِيمُ ومُقْتَضى الحِكْمَةِ الظُّهُورُ في صُورَةِ مَطْلُوبِكَ، وذُكِرَ أنَّ تَقْدِيرَ المُضافِ - كَما فَعَلَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ - عُدُولٌ عَنِ الظّاهِرِ لِظَنِّ المَحْذُورِ فِيهِ، وقَدْ تَبَيَّنَ أنْ لا مَحْذُورَ فَلا حاجَةَ إلى العُدُولِ، انْتَهى. وكَأنِّي بِكَ تَقُولُ: هَذا طَوْرُ ما وراءِ طَوْرِ العُقُولِ، ثُمَّ إنَّهُ لا مانِعَ عَلى أُصُولِ الصُّوفِيَّةِ أنْ يُرِيدُوا بِمَن حَوْلَها اللَّهَ - عَزَّ وجَلَّ – أيْضًا؛ إذْ لَيْسَ في الدّارِ عِنْدَهم غَيْرُهُ سُبْحانَهُ دَيّارٌ، ولا بُعْدَ في أنْ تَكُونَ الآيَةُ عِنْدَ ابْنِ عَبّاسٍ - إنْ صَحَّ عَنْهُ ما ذُكِرَ - مِنَ المُتَشابَهِ، والمَذاهِبُ فِيهِ مَعْلُومَةٌ عِنْدَكَ، والأوْفَقُ بِالعامَّةِ التَّأْوِيلُ بِأنْ يُقالَ: المُرادُ: أنْ بُورِكَ مَن ظَهَرَ نُورُهُ في النّارِ، ولَعَلَّ في خَبَرِ الحَبْرِ السّابِقِ ما يُشِيرُ إلَيْهِ. وإضافَةُ النُّورِ إلَيْهِ تَعالى لِتَشْرِيفِ المُضافِ، وهو نُورٌ خاصٌّ كانَ مَظْهَرًا لِعَظِيمِ قُدْرَتِهِ تَعالى وعَظَمَتِهِ، وسَمِعْتُ مِن بَعْضِ أجِلَّةِ المَشايِخِ يَقُولُ: إنَّ هَذا النُّورَ لَمْ يَكُنْ عَيْنًا ولا غَيْرًا، عَلى نَحْوِ قَوْلِ الأشْعَرِيِّ في صِفاتِهِ - عَزَّ وجَلَّ – الذّاتِيَّةِ، وهو أيْضًا مَنزَعٌ صُوفِيٌّ يَرْجِعُ بِالآخِرَةِ إلى حَدِيثِ التَّجَلِّي والظُّهُورِ كَما لا يَخْفى، فَتَأمَّلْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب