﴿قُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ وسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى﴾ إثْرَ ما قَصَّ سُبْحانَهُ وتَعالى عَلى رَسُولِهِ ﷺ قِصَصَ الأنْبِياءِ المَذْكُورِينَ وأخْبارَهُمُ النّاطِقَةَ بِكَمالِ قُدْرَتِهِ تَعالى وعِظَمِ شَأْنِهِ سُبْحانَهُ وبِما خَصَّهم بِهِ مِنَ الآياتِ القاهِرَةِ والمُعْجِزاتِ الباهِرَةِ الدّالَّةِ عَلى جَلالَةِ أقْدارِهِمْ وصِحَّةِ أخْبارِهِمْ، وقَدْ بَيَّنَ عَلى ألْسِنَتِهِمْ صِحَّةَ الإسْلامِ والتَّوْحِيدِ وبُطْلانَ الكُفْرِ والإشْراكِ وأنَّ مَنِ اقْتَدى بِهِمْ فَقَدِ اهْتَدى، ومَن أعْرَضَ عَنْهم فَقَدْ تَرَدّى في مُهاوِي الرَّدى، وشَرَحَ صَدْرَهُ الشَّرِيفَ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ بِما في تَضاعِيفِ تِلْكَ القِصَصَ مِن فُنُونِ المَعارِفِ الرَّبّانِيَّةِ، ونُورِ قَلْبِهِ بِأنْوارِ المَلَكاتِ السُّبْحانِيَّةِ الفائِضَةِ مِن عالَمِ القُدْسِ، وقَرَّرَ بِذَلِكَ فَحْوى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإنَّكَ لَتُلَقّى القُرْآنَ مِن لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ﴾ .
أُمِرَ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ أنْ يَحْمَدَهُ بِأتَمِّ وجْهٍ عَلى تِلْكَ النِّعَمِ ويُسَلِّمَ عَلى كافَّةِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ الَّذِينَ مِن جُمْلَتِهِمْ مَن قُصَّتْ أخْبارُهم وشُرِحَتْ آثارُهم عِرْفانًا لِفَضْلِهِمْ وأداءً لِحَقِّ تَقَدُّمِهِمْ واجْتِهادِهِمْ في الدِّينِ، فالمُرادُ بِالعِبادِ المُصْطَفِينَ الأنْبِياءُ عَلَيْهِمُ السَّلامُ لِدَلالَةِ المَقامِ، وقَوْلِهِ تَعالى في آيَةٍ أُخْرى:﴿وسَلامٌ عَلى المُرْسَلِينَ﴾، وقِيلَ: هَذا أمْرٌ لَهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ بِحَمْدِهِ تَعالى عَلى هَلاكِ الهالِكِينَ مِن كُفّارِ الأُمَمِ، والسَّلامِ عَلى الأنْبِياءِ وأتْباعِهِمُ النّاجِينَ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِمْ وسَلَّمَ، والسَّلامُ عَلى غَيْرِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ إذا لَمْ يَكُنِ اسْتِقْلالًا مِمّا لا خِلافَ في جَوازِهِ، ولَعَلَّ المُنْصِفَ لا يَرْتابُ في جَوازِهِ عَلى عِبادِ اللَّهِ تَعالى المُؤْمِنِينَ مُطْلَقًا، وقِيلَ: أمْرٌ (p-3)لَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بِالحَمْدِ عَلى ما خَصَّهُ جَلَّ وعَلا بِهِ مِن رَفْعِ عَذابِ الِاسْتِئْصالِ عَنْ أُمَّتِهِ ومُخالَفَتِهِمْ لِمَن قَبْلَهم مِمَّنْ ذُكِرَتْ قِصَّتُهُ مِنَ الأُمَمِ المُسْتَأْصَلَةِ بِالعَذابِ، وبِالسَّلامِ عَلى الأنْبِياءِ الَّذِينَ صَبَرُوا عَلى مَشاقِّ الرِّسالَةِ.
فالمُرادُ بِالمُصْطَفَيْنَ الأنْبِياءُ خاصَّةً، وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ والبَزّارُ وابْنُ جَرِيرٍ وغَيْرُهم عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قالَ فِيهِمْ:
هم أصْحابُ مُحَمَّدٍ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ اصْطَفاهُمُ اللَّهُ تَعالى لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ.
وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ عَنْ سُفْيانَ الثَّوْرِيِّ أنَّهُ قالَ في ﴿وسَلامٌ﴾ إلَخْ: نَزَلَتْ في أصْحابِ مُحَمَّدٍ ﷺ خاصَّةً. وهَذا ظاهِرٌ في القَوْلِ بِجَوازِ السَّلامِ عَلى غَيْرِ الأنْبِياءِ اسْتِقْلالًا كَما هو مَذْهَبُ الحَنابِلَةِ وغَيْرِهِمْ، والكَلامُ عَلى جَمِيعِ هَذِهِ الأقْوالِ مُتَّصِلٌ بِما قَبْلَهُ، وجَعَلَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِن بابِ الِاقْتِضابِ كَأنَّهُ خُطْبَةٌ مُبْتَدَأةٌ حَيْثُ قالَ: أمَرَ رَسُولَهُ ﷺ أنْ يَتْلُوَ هَذِهِ الآياتِ النّاطِقَةَ بِالبَراهِينِ عَلى وحْدانِيَّتِهِ تَعالى وقُدْرَتِهِ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وحِكْمَتِهِ أعْنِي قَوْلَهُ سُبْحانَهُ:
﴿آللَّهُ﴾ إلَخْ، وأنْ يَسْتَفْتِحَ بِتَحْمِيدِهِ والسَّلامِ عَلى أنْبِيائِهِ والمُصْطَفَيْنَ مِن عِبادِهِ. وفِيهِ تَعْلِيمٌ حَسَنٌ وتَوْقِيفٌ عَلى أدَبٍ جَمِيلٍ وبَعْثٌ عَلى التَّيَمُّنِ بِالذَّكِرِينَ والتَّبَرُّكِ بِهِما والِاسْتِظْهارِ بِمَكانِهِما عَلى قَبُولِ ما يَلْقى إلى السّامِعِينَ وإصْغائِهِمْ إلَيْهِ وإنْزالِهِ مِن قُلُوبِهِمُ المَنزِلَةِ الَّتِي يَبْغِيها المَسْمَعُ، ولَقَدْ تَوارَثَتِ العُلَماءُ والخُطَباءُ والوُعّاظُ كابِرًا عَنْ كابِرٍ هَذا الأدَبَ فَحَمِدُوا اللَّهَ تَعالى وصَلَّوْا عَلى رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ أمامَ كُلِّ عِلْمٍ مُفادٍ وقَبْلَ كُلِّ مَوْعِظَةٍ وتَذْكِرَةٍ وفي مُفْتَتَحِ كُلِّ خُطْبَةٍ، وتَبِعَهُمُ المُتَراسِلُونَ فَأجْرُوا عَلَيْهِ أوائِلَ كُتُبِهِمْ في الفُتُوحِ والتَّهانِي وغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الحَوادِثِ الَّتِي لَها شَأْنٌ انْتَهى، ولَعَلَّ جَعَلَ ذَلِكَ تَخْلُّصًا مِن قِصَصِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ إلى ما جَرى لَهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ مَعَ المُشْرِكِينَ أوْلى، وأبْعَدُ الأقْوالِ القَوْلُ بِاتِّصالِهِ بِما قَبْلَهُ، وجَعَلَ ذَلِكَ أمْرًا لِلُوطٍ عَلَيْهِ السَّلامُ بِأنْ يَحْمَدَهُ تَعالى عَلى إهْلاكِ كَفَرَةِ قَوْمِهِ، وأنْ يُسَلِّمَ عَلى مَنِ اصْطَفاهُ بِالعِصْمَةِ عَنِ الفَواحِشِ والنَّجاةِ عَنِ الهَلاكِ لِعَدَمِ مُلاءَمَتِهِ لِما بَعْدَهُ واحْتِياجِهِ إلى تَقْدِيرٍ وقُلْنا لَهُ، وعَزا هَذا القَوْلَ ابْنُ عَطِيَّةَ لِلْفَرّاءِ، وقالَ: هَذِهِ عُجْمَةٌ مِنَ الفَرّاءِ، والظّاهِرُ أنَّ (سَلامٌ) مُبْتَدَأٌ وما بَعْدَهُ خَبَرُهُ، والجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلى ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ﴾ داخِلَةٌ مَعَهُ في حَيِّزِ القَوْلِ.
وقَرَأ أبُو السَّمالِ «الحَمْدُ لِلَّهِ» بِفَتْحِ اللّامِ ﴿آللَّهُ﴾ بِالمَدِّ لِقَلْبِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهامِ ألِفًا والأصْلُ أاللَّهُ.
﴿خَيْرٌ أمّا يُشْرِكُونَ﴾ والظّاهِرُ أنَّ (ما) مَوْصُولَةٌ والعائِدَ مَحْذُوفٌ أيِ (آللَّهُ) الَّذِي ذَكَرْتَ شُؤُونَهُ العَظِيمَةَ خَيْرٌ أمِ الَّذِي يُشْرِكُونَهُ مِنَ الأصْنامِ، (وخَيْرٌ) أفْعَلُ تَفْضِيلٍ ومَرْجِعُ التَّرْدِيدِ إلى التَّعْرِيضِ بِتَبْكِيتِ الكَفَرَةِ مِن جِهَتِهِ عَزَّ وجَلَّ وتَسْفِيهِ آرائِهِمُ الرَّكِيكَةِ والتَّهَكُّمِ بِهِمْ إذْ مِنَ البَيِّنِ أنْ لَيْسَ فِيما أشْرَكُوهُ بِهِ سُبْحانَهُ شائِبَةٌ خَيْرٌ حَتّى يُمْكِنَ أنْ يُوازِنَ بَيْنَهُ وبَيْنَ مَن هو خَيْرٌ مَحْضٌ، وقِيلَ: ﴿خَيْرٌ﴾ لَيْسَتْ لِلتَّفْضِيلِ مِثْلُها في قَوْلِكَ: الصَّلاةُ خَيْرٌ تَعْنِي خَيْرًا مِنَ الخُيُورِ، والمُخْتارُ الأوَّلُ، واسْتَظْهَرَهُ أبُو حَيّانَ، وقالَ: كَثِيرًا ما يَجِيءُ هَذا النَّوْعُ مِن أفْعَلِ التَّفْضِيلِ حَيْثُ يُعْلَمُ ويُتَحَقَّقُ أنَّهُ لا شِرْكَةَ هُناكَ، وإنَّما يُذْكَرُ عَلى سَبِيلِ إلْزامِ الخَصْمِ وتَنْبِيهِهِ عَلى الخَطَأِ ويُقْصَدُ بِالِاسْتِفْهامِ في مِثْلِ ذَلِكَ إلْزامُهُ الإقْرارَ بِحَصْرِ التَّفْضِيلِ في جانِبٍ واحِدٍ وانْتِفائِهِ عَنِ الآخَرِ، واسْتَظْهَرَ أيْضًا كَوْنُ المُرادِ بِالخَيْرِيَّةِ الخَيْرِيَّةَ في الذّاتِ، وقِيلَ: الخَيْرِيَّةُ فِيما يَتَعَلَّقُ بِها، وفي الكَلامِ حَذْفٌ في مَوْضِعَيْنِ، والتَّقْدِيرُ أعِبادَةُ اللَّهِ تَعالى خَيْرٌ أمْ عِبادَةُ ما يُشْرِكُونَ، وقِيلَ: (ما) مَصْدَرِيَّةٌ والحَذْفُ في مَوْضِعٍ واحِدٍ، والتَّقْدِيرُ أتَوْحِيدُ اللَّهِ خَيْرٌ أمْ إشْراكُهم ولا داعِيَ لِجَمِيعِ ذَلِكَ، وأيًّا ما كانَ فَضَمِيرُ الغائِبِ لِقُرَيْشٍ ونَحْوِهِمْ مِنَ المُشْرِكِينَ، وقِيلَ: لِأُولَئِكَ المُهْلَكِينَ ولَيْسَ بِشَيْءٍ، وقَرَأ الأكْثَرُونَ- تُشْرِكُونَ- بِالتّاءِ الفَوْقانِيَّةِ عَلى تَوْجِيهِ الخِطابِ لِمَن ذَكَرْنا مِنَ الكَفَرَةِ (p-4)وهُوَ الألْيَقُ بِما بَعْدَهُ مِن سِياقِ النَّظْمِ الكَرِيمِ، وجَعَلَ أبُو البَقاءِ هَذِهِ الجُمْلَةَ مِن جُمْلَةِ القَوْلِ المَأْمُورِ بِهِ، وتُعُقِّبَ بِأنَّهُ يَأْباهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَأنْبَتْنا﴾ إلَخْ فَإنَّهُ صَرِيحٌ في أنَّ التَّبْكِيتَ مِن قِبَلِهِ عَزَّ وجَلَّ بِالذّاتِ، وحَمَلَهُ عَلى أنَّهُ حِكايَةٌ مِنهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لِما أمَرَ بِهِ بِعِبادَتِهِ كَما في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أسْرَفُوا عَلى أنْفُسِهِمْ﴾، تَعَسُّفٌ ظاهِرٌ مِن غَيْرِ داعٍ إلَيْهِ،
وفِي بَعْضِ الآثارِ «أنَّهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ كانَ إذا قَرَأ هَذِهِ الآيَةَ قالَ: بَلِ اللَّهُ خَيْرٌ وأبْقى وأجَلُّ وأكْرَمُ».
{"ayah":"قُلِ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ وَسَلَـٰمٌ عَلَىٰ عِبَادِهِ ٱلَّذِینَ ٱصۡطَفَىٰۤۗ ءَاۤللَّهُ خَیۡرٌ أَمَّا یُشۡرِكُونَ"}