الباحث القرآني

﴿فَلَمّا جاءَتْ﴾ شُرُوعٌ في حِكايَةِ التَّجْرِبَةِ الَّتِي قَصَدَها سُلَيْمانُ - عَلَيْهِ السَّلامُ – أيْ: فَلَمّا جاءَتْ بِلْقِيسُ سُلَيْمانَ، وقَدْ كانَ العَرْشُ مُنَكَّرًا بَيْنَ يَدَيْهِ ﴿قِيلَ﴾ أيْ: مِن جِهَةِ سُلَيْمانَ بِالذّاتِ أوْ بِالواسِطَةِ ﴿أهَكَذا عَرْشُكِ﴾ أيْ: أمِثْلَ هَذا العَرْشِ الَّذِي تَرَيْنَهُ عَرْشُكِ الَّذِي تَرَكْتِيهِ بِبِلادِكِ، ولَمْ يَقُلْ: أهَذا عَرْشُكِ؛ لِئَلّا يَكُونَ تَلْقِينًا لَها فَيَفُوتَ ما هو المَقْصُودُ مِنَ الأمْرِ بِالتَّنْكِيرِ مِن إبْرازِ العَرْشِ في مَعْرِضِ الإشْكالِ والِاشْتِباهِ؛ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَدَيْهِ - عَلَيْهِ السَّلامُ – حالُها، وقَدْ ذُكِرَتْ عِنْدَهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - بِسَخافَةِ العَقْلِ. (p-207)وفِي بَعْضِ الآثارِ أنَّ الجِنَّ خافُوا مِن أنْ يَتَزَوَّجَها فَيُرْزَقَ مِنها ولَدًا يَحُوزُ فِطْنَةَ الإنْسِ وخِفَّةَ الجِنِّ - حَيْثُ كانَتْ لَها نِسْبَةٌ إلَيْهِمْ - فَيَضْبُطَهم ضَبْطًا قَوِيًّا، فَرَمَوْها عِنْدَهُ بِالجُنُونِ، وأنَّ رِجْلَيْها كَحَوافِرِ البَهائِمِ؛ فَلِذا اخْتَبَرَها بِهَذا، وبِما يَكُونُ سَبَبًا لِلْكَشْفِ عَنْ ساقَيْها، ومَن لَمْ يَقُلْ بِنِسْبَتِها إلى الجِنِّ يَقُولُ: لَعَلَّها رَماها حاسِدٌ بِذَلِكَ فَأرادَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - اخْتِبارَها لِيَقِفَ عَلى حَقِيقَةِ الحالِ، ومِنهم مَن يَقُولُ: لَيْسَ ذاكَ إلّا لِيُقابِلَها بِمِثْلِ ما فَعَلَتْ هي حَيْثُ نَكَّرَتِ الغِلْمانَ والجَوارِيَ، وامْتَحَنَتْهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - بِالدُّرَّةِ العَذْراءِ والجِزْعَةِ المِعْوَجَّةِ الثَّقْبِ، وكَوْنُ ذَلِكَ في عَرْشِها - الَّذِي يَبْعُدُ كُلَّ البُعْدِ إحْضارُهُ مَعَ بُعْدِ المَسافَةِ وشِدَّةِ مُحافَظَتِها لَهُ - أتَمَّ وأقْوى، ويَتَضَمَّنُ أيْضًا مِن إظْهارِ المُعْجِزَةِ ما لا يَخْفى، وهَذا عِنْدِي ألْصَقُ بِالقَلْبِ مِن غَيْرِهِ. ﴿قالَتْ كَأنَّهُ هُوَ﴾ أجابَتْ بِما أنْبَأ عَنْ كَمالِ عَقْلِها، حَيْثُ لَمْ تَجْزِمْ بِأنَّهُ هُوَ؛ لِاحْتِمالِ أنْ يَكُونَ مِثْلَهُ، بَلْ أتَتْ بِـ(كَأنَّ) الدّالَّةِ - كَما قِيلَ - عَلى غَلَبَةِ الظَّنِّ في اتِّحادِهِ مَعَهُ مَعَ الشَّكِّ في خِلافِهِ، ولَيْسَتْ (كَأنَّ) هُنا لِلدَّلالَةِ عَلى التَّشْبِيهِ كَما هو الغالِبُ فِيها. وذَكَرَ ابْنُ المُنِيرِ في الِانْتِصافِ ما يَدُلُّ عَلى أنَّها تُفِيدُ قُوَّةَ الشَّبَهِ، فَقالَ: الحِكْمَةُ في عُدُولِ بِلْقِيسَ في الجَوابِ عَنْ (هَكَذا هُوَ) المُطابِقِ لِلسُّؤالِ إلى (كَأنَّهُ هُوَ) أنَّ (كَأنَّهُ هُوَ) عِبارَةُ مَن قَوِيَ عِنْدَهُ الشَّبَهُ حَتّى شَكَّكَ نَفْسَهُ في التَّغايُرِ بَيْنَ الأمْرَيْنِ، وكادَ يَقُولُ: هو هُوَ، وتِلْكَ حالُ بِلْقِيسَ، وأمّا (هَكَذا هُوَ) فَعِبارَةُ جازِمٍ بِتَغايُرِ الأمْرَيْنِ، حاكِمٍ بِوُقُوعِ الشَّبَهِ بَيْنَهُما لا غَيْرُ، فَلا تُطابِقُ حالَها، فَلِذا عَدَلَتْ عَنْها إلى ما في النَّظْمِ الجَلِيلِ. ﴿وأُوتِينا العِلْمَ مِن قَبْلِها وكُنّا مُسْلِمِينَ﴾ مِن تَتِمَّةِ كَلامِها عَلى ما اخْتارَهُ جَمْعٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ، كَأنَّها اسْتَشْعَرَتْ مِمّا شاهَدَتْهُ اخْتِبارَ عَقْلِها وإظْهارَ مُعْجِزَةٍ لَها، ولَمّا كانَ الظّاهِرُ مِنَ السُّؤالِ هو الأوَّلَ سارَعَتْ إلى الجَوابِ بِما أنْبَأ عَنْ كَمالِ رَجاحَةِ عَقْلِها، ولَمّا كانَ إظْهارُ المُعْجِزَةِ دُونَ ذَلِكَ في الظُّهُورِ ذَكَرَتْ ما يَتَعَلَّقُ بِهِ آخِرًا وهو قَوْلُها: (وأُوتِينا) ... إلَخْ، وفِيهِ دَلالَةٌ عَلى كَمالِ عَقْلِها أيْضًا، ومَعْناهُ: وأُوتِينا العِلْمَ بِكَمالِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعالى وصِحَّةِ نُبُوَّتِكَ مِن قَبْلِ هَذِهِ المُعْجِزَةِ، أوْ مِن قَبْلِ هَذِهِ الحالَةِ بِما شاهَدْناهُ مِن أمْرِ الهُدْهُدِ، وما سَمِعْناهُ مِن رُسُلِنا إلَيْكَ مِنَ الآياتِ الدّالَّةِ عَلى ذَلِكَ، وكُنّا مُؤْمِنِينَ مِن ذَلِكَ الوَقْتِ، فَلا حاجَةَ إلى إظْهارِ هَذِهِ المُعْجِزَةِ. ولَكَ أنْ تَجْعَلَهُ مِن تَتِمَّةِ ما يَتَعَلَّقُ بِالِاخْتِبارِ، وحاصِلُهُ: لا حاجَةَ إلى الِاخْتِبارِ؛ لِأنِّي آمَنتُ قَبْلُ، وهَذا كافٍ في الدَّلالَةِ عَلى كَمالِ عَقْلِي. وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ لِبَيانِ مَنشَأِ غَلَبَةِ الظَّنِّ بِأنَّهُ عَرْشُها، والدّاعِيَ إلى حُسْنِ الأدَبِ في مُحاوَرَتِهِ - عَلَيْهِ السَّلامُ – أيْ: وأُوتِينا العِلْمَ بِإتْيانِكَ بِالعَرْشِ مِن قَبْلِ الرُّؤْيَةِ، أوْ مِن قَبْلِ هَذِهِ الحالَةِ بِالقَرائِنِ أوِ الإخْبارِ، وكُنّا مِن ذَلِكَ الوَقْتِ مُؤْمِنِينَ، والتَّعْبِيرُ بِنُونِ العَظَمَةِ جارٍ عَلى سَنَنِ تَعْبِيراتِ المُلُوكِ، وفِيهِ تَعْظِيمٌ لِأمْرِ إسْلامِها، ولَيْسَ ذاكَ لِإرادَةِ نَفْسِها ومَن مَعَها مِن قَوْمِها إذْ يُبْعِدُهُ قَوْلُهُ تَعالى:
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب