الباحث القرآني

﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ويُؤْتُونَ الزَّكاةَ﴾ صِفَةٌ مادِحَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وكُنِّيَ بِإقامَةِ الصَّلاةِ وإيتاءِ الزَّكاةِ عَنْ عَمَلِ الصّالِحاتِ مُطْلَقًا، وخُصًّا؛ لِأنَّهُما - عَلى ما قِيلَ - إمّا العِبادَةُ البَدَنِيَّةُ والمالِيَّةُ، والظّاهِرُ أنَّهُ حُمِلَ الزَّكاةُ عَلى الزَّكاةِ المَفْرُوضَةِ. وتُعُقِّبَ بِأنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ، والزَّكاةُ إنَّما فُرِضَتْ بِالمَدِينَةِ، وقِيلَ: كانَ في مَكَّةَ زَكاةٌ مَفْرُوضَةٌ إلّا أنَّها لَمْ تَكُنْ كالزَّكاةِ المَفْرُوضَةِ بِالمَدِينَةِ، فَلْتُحْمَلْ في الآيَةِ عَلَيْها، وقِيلَ: الزَّكاةُ هُنا بِمَعْنى الطَّهارَةِ مِنَ النَّقائِصِ ومُلازَمَةِ مَكارِمِ الأخْلاقِ، وهو خِلافُ المَشْهُورِ في الزَّكاةِ المَقْرُونَةِ بِالصَّلاةِ، ويُبْعِدُهُ تَعْلِيقُ الإيتاءِ بِها. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وهم بِالآخِرَةِ هم يُوقِنُونَ﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلى جُمْلَةِ الصِّلَةِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ في مَوْضِعِ الحالِ مِن ضَمِيرِ المَوْصُولِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ اسْتِئْنافًا جِيءَ بِهِ لِلْقَصْدِ إلى تَأْكِيدِ ما وُصِفَ المُؤْمِنُونَ بِهِ مِن حَيْثُ إنَّ الإيقانَ بِالآخِرَةِ يَسْتَلْزِمُ الخَوْفَ المُسْتَلْزِمَ لِتَحَمُّلِ مَشاقِّ التَّكْلِيفِ فَلا بُدَّ مِن إقامَةِ الصَّلاةِ وإيتاءِ الزَّكاةِ، وقَدْ أُقِيمَ الضَّمِيرُ فِيهِ مَقامَ اسْمِ الإشارَةِ المُفِيدِ لِاكْتِسابِ الخِلافَةِ بِالحُكْمِ بِاعْتِبارِ السَّوابِقِ، فَكَأنَّهُ قِيلَ: وهَؤُلاءِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ ويَعْمَلُونَ الصّالِحاتِ مِن إقامَةِ الصَّلاةِ وإيتاءِ الزَّكاةِ هُمُ المُوقِنُونَ بِالآخِرَةِ، وسَمّى الزَّمَخْشَرِيُّ هَذا الِاسْتِئْنافَ اعْتِراضًا، وكَوْنُهُ لا يَكُونُ إلّا بَيْنَ شَيْئَيْنِ يَتَعَلَّقُ أحَدُهُما بِالآخَرِ كالمُبْتَدَأِ والخَبَرِ - غَيْرَ مُسَلَّمٍ عِنْدَهُ. واخْتارَ هَذا الِاحْتِمالَ فَقالَ: إنَّهُ الوَجْهُ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ أنَّهُ عُقِدَ الكَلامُ جُمْلَةً ابْتِدائِيَّةً، وكُرِّرَ فِيها المُبْتَدَأُ الَّذِي هو (هُمْ) حَتّى صارَ مَعْناها: وما يُوقِنُ بِالآخِرَةِ حَقَّ الإيقانِ إلّا هَؤُلاءِ الجامِعُونَ بَيْنَ الإيمانِ والعَمَلِ الصّالِحِ؛ لِأنَّ خَوْفَ العاقِبَةِ يَحْمِلُهم عَلى تَحَمُّلِ المَشاقِّ، انْتَهى. وأنْكَرَ ابْنُ المُنِيرِ إفادَةَ نَحْوِ هَذا التَّرْكِيبِ الِاخْتِصاصَ، وادَّعى أنَّ تَكْرارَ الضَّمِيرِ لِلنَّظَرِيَّةِ لِمَكانِ الفَصْلِ بَيْنَ الضَّمِيرَيْنِ بِالجارِّ والمَجْرُورِ، والحَقُّ أنَّهُ يُفِيدُ ذَلِكَ - كَما صَرَّحُوا بِهِ - (p-157)فِي نَحْوِ (هُوَ عُرْفٌ) وكَذا يُفِيدُ التَّأْكِيدَ لِما فِيهِ مِن تَكْرارِ الضَّمِيرِ. وزَعَمَ أبُو حَيّانَ أنَّ فِيما ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ دَسِيسَةَ الِاعْتِزالِ، ولا يَخْفى أنَّهُ لَيْسَ في كَلامِهِ أكْثَرُ مِنَ الإشارَةِ إلى أنَّ المُؤْمِنَ العاصِيَ لَمْ يُوقِنْ بِالآخِرَةِ حَقَّ الإيقانِ، ولَعَلَّ جَعْلَ ذَلِكَ دَسِيسَةً مَبْنِيٌّ عَلى أنَّهُ بَنى ذَلِكَ عَلى مَذْهَبِهِ في أصْحابِ الكَبائِرِ، وقَوْلِهِ فِيهِمْ بِالمَنزِلَةِ بَيْنَ المَنزِلَتَيْنِ. وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّ القَوْلَ بِما اخْتارَهُ في الآيَةِ لا يَتَوَقَّفُ عَلى القَوْلِ المَذْكُورِ، وتَغْيِيرُ النَّظْمِ الكَرِيمِ عَلى الوَجْهَيْنِ الأوَّلَيْنِ لِما لا يَخْفى، وتَقْدِيمُ (بِالآخِرَةِ) في جَمِيعِ الأوْجُهِ لِرِعايَةِ الفاصِلَةِ، وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ لِلْحَصْرِ الإضافِيِّ كَما في الحَواشِي الشِّهابِيَّةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب