الباحث القرآني
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إلا مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ الِاسْتِثْناءُ فِيهِ مُنْقَطِعٌ عِنْدَ كَثِيرٍ، إلّا أنَّهُ رُوِيَ عَنِ الفَرّاءِ والزَّجّاجِ وغَيْرِهِما أنَّ المُرادَ بِـ(مَن ظَلَمَ) مَن أذْنَبَ مِن غَيْرِ الأنْبِياءِ - عَلَيْهِمُ السَّلامُ - قالَ صاحِبُ المَطْلَعِ: والمَعْنى عَلَيْهِ: لَكِنْ مَن ظَلَمَ مِن سائِرِ العِبادِ ثُمَّ تابَ فَإنِّي أغْفِرُ لَهُ، وقالَ جَماعَةٌ: إنَّ المُرادَ بِهِ: مَن فَرَطَتْ مِنهُ صَغِيرَةٌ ما وصَدَرَ مِنهُ خِلافُ الأوْلى بِالنِّسْبَةِ إلى شَأْنِهِ مِنَ المُرْسَلِينَ - عَلَيْهِمُ السَّلامُ - والمُرادُ اسْتِدْراكُ ما يَخْتَلِجُ في الصَّدْرِ مِن نَفْيِ الخَوْفِ عَنْ كُلِّهِمْ، وفِيهِمْ مَن صَدَرَ مِنهُ ذَلِكَ، والمَعْنى عَلَيْهِ: لَكِنْ مَن صَدَرَ مِنهم ما هو في صُورَةِ الظُّلْمِ ثُمَّ تابَ فَإنِّي أغْفِرُ لَهُ، فَلا يَنْبَغِي أنْ يَخافَ أيْضًا، وهو شامِلٌ - عَلى ما قِيلَ - لِمَن فَعَلَ مِنهم شَيْئًا مِن ذَلِكَ قَبْلَ رِسالَتِهِ، وخَصَّهُ بَعْضُهم بِمَن صَدَرَ مِنهُ شَيْءٌ مِن ذَلِكَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، وقالَ: يُؤَيِّدُهُ لَفْظَةُ (ثُمَّ) فَإنَّها ظاهِرَةٌ في التَّراخِي الزَّمانِيِّ، ولَعَلَّ الظّاهِرَ كَوْنُهُ خاصًّا بِمَن صَدَرَ مِنهُ بَعْدَ الرِّسالَةِ لِظُهُورِ المُرْسَلِ في المُتَلَبِّسِ بِالرِّسالَةِ لا فِيمَن يَتَلَبَّسُ بِها بَعْدُ أوِ الأعَمُّ، وكَأنَّ فِيما ذُكِرَ عَلى الوَجْهَيْنِ الأوَّلَيْنِ تَعْرِيضًا بِما وقَعَ مِن مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - مِن وكْزِهِ القِبْطِيِّ واسْتِغْفارِهِ، وتَسْمِيَتُهُ ظُلْمًا مُشاكَلَةٌ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلامُ -: (ظَلَمْتُ نَفْسِي).
ولَمْ يَجْعَلُوهُ - عَلى هَذا - مُتَّصِلًا مَعَ دُخُولِ المُسْتَثْنى في المُسْتَثْنى مِنهُ، أعْنِي المُرْسَلِينَ مُطْلَقًا؛ لِأنَّهُ لَوْ كانَ مُتَّصِلًا لَزِمَ إثْباتُ الخَوْفِ لِمَن فَرَطَتْ مِنهُ صَغِيرَةٌ ما مِنهم لِاسْتِثْنائِهِ مِنَ الحُكْمِ، وهو نَفْيُ الخَوْفِ عَنْهُمْ، ونَفْيُ النَّفْيِ إثْباتٌ، وذَلِكَ خِلافُ المُرادِ، فَلا يَكُونُ مُتَّصِلًا، بَلْ هو شُرُوعٌ في حُكْمٍ آخَرَ.
ورَجَّحَ الطِّيبِيُّ ما قالَهُ الجَماعَةُ بِأنَّ مَقامَ تَلَقِّي الرِّسالَةِ وابْتِداءِ المُكالَمَةِ مَعَ الكَلِيمِ يَقْتَضِي إزالَةَ الخَوْفِ بِالكُلِّيَّةِ، وهو ظاهِرٌ عَلى ما قالُوهُ، ورُوِيَ عَنِ الحَسَنِ، ومُقاتِلٍ، وابْنِ جُرَيْجٍ، والضَّحّاكِ ما يَقْتَضِي أنَّهُ اسْتِثْناءٌ مُتَّصِلٌ (p-166)والظّاهِرُ أنَّهم أرادُوا بِمَن مَن أرادَهُ الجَماعَةُ، وفي اتِّصالِهِ - عَلى ما سَمِعْتَ - خَفاءٌ.
ورُبَّما يُقالُ: إنَّ مَن يُطْلِقُ الِاتِّصالَ عَلَيْهِ في رَأْيِ الجَماعَةِ يَكْتَفِي في الِاتِّصالِ بِمُجَرَّدِ كَوْنِ المُسْتَثْنى مِن جِنْسِ المُسْتَثْنى مِنهُ فَإنْ كَفى فَذاكَ، وإلّا يَلْتَزِمُ إثْباتَ الخَوْفِ ويَجْعَلُ «بَدَّلَ» عَطْفًا عَلى مُسْتَأْنَفٍ مَحْذُوفٍ، كَأنَّهُ قِيلَ: إلّا مَن فَرَطَتْ مِنهُ صَغِيرَةٌ فَإنَّهُ يَخافُ، فَمَن فَرَّطَ ثُمَّ تابَ غُفِرَ لَهُ، فَلا يَخافُ.
وحاصِلُهُ: إلّا مَن ظَلَمَ فَإنَّهُ يَخافُ أوَّلًا ويَزُولُ عَنْهُ الخَوْفُ بِالتَّوْبَةِ آخِرًا، وعَنِ الفَرّاءِ في رِوايَةٍ أُخْرى عَنْهُ أنَّهُ اسْتِثْناءٌ مُتَّصِلٌ مِن جُمْلَةٍ مَحْذُوفَةٍ، والتَّقْدِيرُ: وإنَّما يَخافُ غَيْرُهم إلّا مَن ظَلَمَ.
ورَدَّهُ النَّحّاسُ بِأنَّ الِاسْتِثْناءَ مِن مَحْذُوفٍ لا يَجُوزُ، ولَوْ جازَ هَذا لَجازَ أنْ يُقالَ: (لا تَضْرِبِ القَوْمَ إلّا زَيْدًا) عَلى مَعْنى: وإنَّما اضْرِبْ غَيْرَهم إلّا زَيْدًا، وهَذا ضِدُّ البَيانِ والمَجِيءِ بِما لا يُعْرَفُ مَعْناهُ انْتَهى، وهو كَما قالَ، ولا يُجْدِي نَفْعًا القَوْلُ بِاعْتِبارِ مَفْهُومِ المَخافَةِ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: إنَّ إلّا بِمَعْنى الواوِ، والتَّقْدِيرُ: ولا مَن ظَلَمَ ... إلَخْ.
وتَعَقَّبَهُ في البَحْرِ بِأنَّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ لِلْمُبايَنَةِ التّامَّةِ بَيْنَ إلّا والواوِ، فَلا تَقَعُ إحْداهُما مَوْقِعَ الأُخْرى، وحُسْنُ الظَّنِّ يُجَوِّزُ أنَّهم لَمْ يُصَرِّحُوا بِكَوْنِ إلّا بِمَعْنى الواوِ، وإنَّما فَهَمَ مَن نَسَبَهُ إلَيْهِمْ مِن تَقْدِيرِهِمْ، وهو يَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ تَقْدِيرَ مَعْنًى لا إعْرابٍ، فَلا تَغْفُلْ.
والظّاهِرُ انْقِطاعُ الِاسْتِثْناءِ، ولَعَلَّ الأوْفَقَ بِشَأْنِ المُرْسَلِينَ أنْ يُرادَ بِمَن ظَلَمَ مَنِ ارْتَكَبَ ذَنْبًا كَبِيرًا أوْ صَغِيرًا مِن غَيْرِهِمْ، و(ثُمَّ) يُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ لِلتَّراخِي الزَّمانِيِّ فَتُفِيدُ الآيَةُ المَغْفِرَةَ لِمَن بَدَّلَ عَلى الفَوْرِ مِن بابٍ أوْلى، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ لِلتَّراخِي الرُّتَبِيِّ، وهو ظاهِرٌ بَيْنَ الظُّلْمِ والتَّبْدِيلِ المَذْكُورِ، والتَّبْدِيلُ قَدْ يَتَعَدّى إلى مَفْعُولَيْنِ بِنَفْسِهِ نَحْوُ ﴿بَدَّلْناهم جُلُودًا غَيْرَها﴾ وقَدْ يَتَعَدّى إلى أحَدِهِما بِنَفْسِهِ وإلى الآخَرِ بِالباءِ أوْ بِمِن وهو المَذْهُوبُ بِهِ والمُبْدَلُ مِنهُ، نَحْوُ: (بَدَّلَهُ بِخَوْفِهِ أوْ مِن خَوْفِهِ أمْنًا) وقَدْ يَتَعَدّى إلى واحِدٍ نَحْوُ (بَدَّلْتُ الشَّيْءَ) أيْ غَيَّرْتُهُ، ومِنهُ (فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَما سَمِعَهُ) والمَعْنى هُنا عَلى المُتَعَدِّي إلى مَفْعُولَيْنِ، وقَدْ تَعَدّى إلى أحَدِهِما - وهو المُبْدَلُ مِنهُ - بِالباءِ أوْ بِمِن فَكَأنَّهُ قِيلَ: ثُمَّ بَدَّلَ بِظُلْمِهِ أوْ مِن ظُلْمِهِ حُسْنًا، ويُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿بَعْدَ سُوءٍ﴾ وحاصِلُهُ: ثُمَّ تَرَكَ الظُّلْمَ وأتى بِحُسْنٍ، والمُرادُ بِهِ التَّوْبَةُ.
فَيَكُونُ المَعْنى في الآخِرَةِ: إلّا مَن ظَلَمَ ثُمَّ تابَ وعَدَلَ عَنْهُ إلى ما في النَّظْمِ الجَلِيلِ؛ لِأنَّهُ أوْفَقُ بِمَقامِ الإيناسِ، كَذا قِيلَ.
والظّاهِرُ عَلَيْهِ أنَّ إسْنادَ التَّبْدِيلِ إلى (مَن ظَلَمَ) حَقِيقِيٌّ، وقِيلَ: إنَّ المَعْنى: ثُمَّ رَفَعَ الظُّلْمَ والسُّوءَ ومَحاهُ مِن صَحِيفَةِ أعْمالِهِ ووَضَعَ مَكانَهُ الحُسْنَ بِسَبَبِ تَوْبَتِهِ، نَظِيرُ ما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ﴾ وإسْنادُ التَّبْدِيلِ إلى (مَن ظَلَمَ) عَلى هَذا مَجازِيٌّ؛ لِأنَّهُ سَبَبٌ لِتَبْدِيلِ اللَّهِ تَعالى لَهُ بِتَوْبَتِهِ، وكَأنِّي بِكَ تَخْتارُ الأوَّلَ، ومَحَلُّ «مَن» عَلى كُلٍّ مِن تَقْدِيرَيِ انْقِطاعِ الِاسْتِثْناءِ واتِّصالِهِ ظاهِرٌ، والظّاهِرُ أنَّها مَوْصُولَةٌ في التَّقْدِيرَيْنِ، ولا يَخْفى أنَّها إذا اعْتُبِرَتْ مَنصُوبَةَ المَحَلِّ عَلى الِاسْتِثْناءِ أوْ مَرْفُوعَتَهُ عَلى البَدَلِ تَكُونُ جُمْلَةُ «فَإنِّي» ... إلَخْ مُسْتَأْنَفَةً.
ومَن قَدَّرَ في الكَلامِ مَحْذُوفًا عَطَفَ عَلَيْهِ (بَدَّلَ) وقالَ: التَّقْدِيرُ مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ، جَعَلَ الجُمْلَةَ خَبَرَ (مَن) وجَوَّزَ بَعْضُهم أنْ تَكُونَ شَرْطِيَّةً، وجُمْلَةُ (فَإنِّي) إلَخْ جَوابَها، فَتَأمَّلْ ولا تَغْفُلْ.
وقَرَأ أبُو جَعْفَرٍ، وزَيْدُ بْنُ أسْلَمَ «ألا مَن ظَلَمَ» بِفَتْحِ الهَمْزَةِ وتَخْفِيفِ اللّامِ عَلى أنَّ (ألا) حَرْفُ اسْتِفْتاحٍ، وجَعَلَ أبُو حَيّانَ (مَن) عَلى هَذِهِ القِراءَةِ شَرْطِيَّةً، ولا أُراهُ واجِبًا، وقَرَأ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسى الأصْبَهانِيُّ «حُسْنى» عَلى وزْنِ فُعْلى مَمْنُوعَ الصَّرْفِ، وقَرَأ ابْنُ مِقْسَمٍ «حُسُنًا» بِضَمِّ الحاءِ والسِّينِ مُنَوَّنًا.
وقَرَأ مُجاهِدٌ، وأبُو حَيْوَةَ، وابْنُ أبِي عَلِيٍّ، والأعْمَشُ، وأبُو عَمْرٍو - في رِوايَةِ الجُعْفِيِّ – وعِصْمَةُ، وعَبْدُ الوارِثِ، وهارُونُ وعَيّاشٌ «حَسَنًا» بِفَتْحِ الحاءِ والسِّينِ مَعَ التَّنْوِينِ.
{"ayah":"إِلَّا مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسۡنَۢا بَعۡدَ سُوۤءࣲ فَإِنِّی غَفُورࣱ رَّحِیمࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











